Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سبايك لي الحصن المنيع أمام العنصرية ضد الأفرو أميركيين

فيلم جديد يعرض على نتفليكس يستعيد مشاهد من الستينيات على ضوء الواقع الراهن

المخرج الاميركي سبايك لي عائداً عبر نتفليكس (موقع الفيلم)

يعود المخرج الأميركي المشاكس سبايك لي إلى السينما، بعمل جديد Da 5 Bloods الذي يُعرض حالياً على منصّة "نتفليكس" الإلكترونية. الفيلم يبدأ بمَشاهد أرشيف طويلة تحملنا إلى الستينيات والسبعينيات، نرى فيها محمد علي كلاي ونيل أرمسترونغ وأنجيلا دايفيس يحذّرون من الفاشية الزاحفة إلى الولايات المتحدة. هذه المَشاهد يربطها سبايك لي بخاتمة، يرينا فيها هذه المرة أميركا في حاضرها، مع كلّ المظاهر التي تؤكد النظريات التي يعرضها طوال الفيلم. نرى أشخاصاً فقدوا ساقهم في حرب فيتنام، آخرين يقيمون اجتماعاً تحت شعار "حياة السود مهمة". بين البداية والنهاية، لحظات طويلة وقوية تتناول العنصرية، الفقر، الأمبريالية الأميركية التي أوصلت العالم إلى حيث أوصلته. يواصل المخرج الذي كان من المفترض أن يترأس لجنة تحكيم مهرجان كانّ 2020 (قبل الإلغاء)، وضع الإصبع على العنف الذي يتعرض له الأميركيون من أصول أفريقية، من خلال الغوص في حرب فيتنام، وعبر الذهاب والإياب عبر الزمن، ليرينا أن لا شيء تغير. ودّ سبايك لي أن يضع كلّ شيء في فيلمه هذا، كلّ ما عاشه واختبره، كمحصلة حياة كاملة، يمكن اختزالها بالنضال والإصرار على استعادة الحقوق. 

وفي الحقيقة، يصعب الحديث عن السينما الأفرو أميركية من دون التكلّم عن لي، أيقونتها والناطق شبه الرسمي باسمها. المخرج الأسود الذي يتحدّر من أصول كاميرونية، المولود في العام 1957، حمل على عاتقه معاناة السود طولاً وعرضاً على الشاشة، ووثّق قضاياهم في عدد من الأفلام المهمة صنعت له شهرة دولية ونال من خلالها الجوائز، وبات معها مرجعاً. هو ابن عازف جاز ومدرّسة فنون وآداب، تربى في كنف عائلة تولي الفنّ أهمية قصوى. في أطلنطا (جورجيا)، عاصمة الحركات المطلبية، عاش جزءاً من طفولته. درس في واحدة من أرقى مدارسها (مخصصة حصرياً للسود) في الحقبة التي لم يكن يحق بعد للسود أن يجلسوا إلى جانب البيض على مقاعد الدراسة. قبل أن ينتقل إلى بروكلين (نيويورك) حيث التحق بأحد أهم معاهد السينما فدرس فيها كيفية إنجاز الفيلم. 

السينما الملتزمة

أنجز لي 35 فيلماً منذ العام 1983 (منها 24 روائياً طويلاً) وضعته على خريطة السينمائيين الملتزمين، أصحاب القضايا، وفي مقدم هذه القضايا، القضية المركزية: حقوق الأفارقة الأميركيين. صنع سينما تنتصر للمهمشين في أميركا من ذوي التمثيل الضعيف على شاشة هوليوود. ولطالما جاهر بمواقف وآراء لاذعة لا تساوم، ومشى على خطى مارثن لوثر كينغ الذي قال: "سيأتي يوم، يتوجب علينا اتخاذ مواقف غير مريحة وغير سياسية وغير شعبية، فقط مواقف يمليها علينا ضميرنا". 

ضخّ لي في السينما الأميركية دماً جديداً، عنفواناً مختلفاً، عبر تقديم المجتمع الأسود الذي يتحدر منه تقديماً ينمّ عن تماس ومعرفة جيدة بأفراده، باعتباره واحداً منهم، وبعيداً من أي تعاطف رخيص أو توظيف مفتعل لصورتهم وشؤونهم. العديد من أعماله يتطرق إلى الأقليات العرقية، ويطرح إشكاليات العيش في بلد تحكمه أكثرية بيضاء لديها تاريخ طويل في العبودية واستغلال وهضم حقوق الذين جاءوا من أفريقيا للعمل في القارة الجديدة بالسخرة. لم يكن سهلاً أن يفرض نفسه على سينما أميركية، يهيمن عليها رأس المال وأرباب الإستوديوات التي لا تبغي سوى الربح. مواقفه الحادة التي صنعت له خصومات كثيرة، وأوصلته أحياناً إلى التصادم مع سينمائيين آخرين، منهم كلينت إيستودد، لم تُستقبل دائماً بحفاوة، وحتى أنها صُنِّفت مرات في خانة المواقف التي تكرس الاصطفاف العرقي، وتدعم الجماعة على حساب المواطنة.

بعد بضعة أفلام قصيرة، نال أحدها "أوسكار" أفضل فيلم قصير مخصص للطلاب، انطلق لي فعلياً مع فيلمه الروائي الطويل الأول، "نورا دارلينغ لا تفعل إلا ما يحلو لها" (1986) الذي تم تصويره في 12 يوماً ونال جائزة الشباب في مهرجان كانّ. بهذا الفيلم، وبسرعة قياسية، أصبح لي الناطق شبه الرسمي باسم السينما الأفرو أميركية. بعدها بثلاث سنوات، كان "قم بالخيار الصائب"، من تمثيله وإخراجه. الفيلم نال شهرة واسعة، نقدية وجماهيرية، وفاز بالعديد من الجوائز، ودخل في قائمة أفضل الأفلام على الإطلاق. تجري الأحداث في بروكلين، مسرح الكثير من أفلام لي اللاحقة. الشخصية الرئيسية موزع بيتزا، يعمل في مطعم يديره رجل إيطالي وولداه، هذا كله في أجواء حرارة الصيف العالية ومشحونة بالعنصرية. عندما خرج الفيلم إلى الصالات، عدد من النقّاد اعتبروا أنه يحرّض السود على القيام بأعمال العنف والشغب، إلا أن لي ردّ على هذه الآراء واصفاً إياها بالعنصرية، مضيفاً أنه لم يقرأ يوماً أحد النقّاد يدعي بأن المُشاهد قد يلجأ إلى القتل بعد خروجه من فيلم لأرنولد شوارزينيغر.

أفلام مثل "سكول دايز" (1988) عن مواجهات عنيفة بين فريقين من الأفرو أميركيين استوحاها من أيام دراسته، و"مو باتر بلوز" (1990) المشبّع بالموسيقى التي داعبت طفولته "حمى الأدغال" (1991) عن الكليشيهات العنصرية أيضاً، وأيضاً، ساهمت في تكريسه لا فقط كمخرج يحسن تناول فئة معينة من المجتمع، كونه يعرف همومها ومشاكلها والمعاناة التي تعرضت لها، بل كسينمائي يُمكن النظر إليه كسيد حرفة وصنعة، وابن روحي للعديد من الذين لم يلغ التزامهم فنّهم. كما أن صعوده السينمائي ساهم في تكريس أسماء العديد من الممثّلين من ذوي الأصول الأفرقية، مثل دانزل واشنطن وهالي باري وسامويل جاكسون وغيرهم.

حقوق السود

كان يجب انتظار العام 1992، وفيلمه الشهير "مالكوم إكس" كي يذيع صيت سبايك لي دولياً. الفيلم عن سيرة القائد الأفرو أميركي (1925 - 1965)، والمدافع الشرس عن حقوق السود، من أيام نضاله حتى اغتياله. ندّد إكس بالجرائم التي ارتُكبت ضد السود في أميركا. عُرض الفيلم في مهرجان برلين السينمائي ونال فيه دنزل واشنطن جائزة أفضل ممثّل عن دوره. كي يتسنى لهم مشاهدة الفيلم في عرضه الأول، حض لي جميع الأفرو أميركيين على الإضراب والتغيب عن المدرسة، فقال لهم: "سوف أخبركم بجزء من قصّة أميركية ظلت حتى الآن غامضة". بطبيعة الحال، أحدث الفيلم جدلاً كبيراً في المجتمع الأميركي، بين مؤيد ومعارض. 

طوال مسيرته، حرك لي المياه الراكدة، لم يكن دوماً محل إجماع، بل والبعض وجد في مواقفه مغالاة وعنصرية مضادة (تجاه البيض) وانغلاقاً على الذات والجماعة، ولكن هذا كله لم يمنع الفنّان القدير من مواصلة طريقه، فقدّم أفلاماً مهمة كـ"صيف سام" الذي تدور أحداثه في صيف نيويورك من العام 1977، خلال فترة القيظ الشديد التي مرت بها. في الحيّ الإيطالي (برونكس)، وجد ضالته، لإطلاعنا على تفاصيل تروي واحدة من حكايات اختناق نيويورك. البطل هذه المرة قاتل متسلسل. غنيّ عن القول إن برونكس هي مكان لي المفضّل للتصوير، في بيئتها أمضى صباه وشبابه. 

لطالما عرف لي كيف ينتقل من نوع سينمائي إلى آخر، فلا يتوانى عن إنجاز كوميديا ثم القفز إلى عمل يحمل سمات التراجيديا. لا يرى كذلك أي عيب في التفرغ لفيلم وثائقي. فبعد أحداث 11 سبتمبر( أيلول) ومشاركته في العديد من التحيات الموجهة إلى نيويورك تظهر تعلّقه بهذه المدينة، مرّ لي بفترة أنجز خلالها أفلاماً وثائقية عدة.

"معجزة القديسة آنا" في العام 2008، أحدث جدلاً كبيراً مجدداً. الفيلم يبدأ مع رجل أفرو أميركي يقتل رجلاً آخر بدم بارد. بعد البحث الذي تجريه في منزله، تجد الشرطة تمثالاً إيطالياً من فلورنسا (إيطاليا)، فيقودنا هذا كله إلى الحرب العالمية الثانية يوم كان القاتل جندياً.

سبايك لي الذي يصنّف نفسه سينمائياً نيويوركياً ويقول إنه لا ينجز الأفلام فقط من أجل أن يشاهدها السود، يعتبر أن أميركا هي أعنف أمّة في التاريخ، ولا يتردد في الجزم أن الفرق الأساسي بين ما تريه هوليوود في أفلامها وما يريه هو في سينماه يكمن في الشخصيات. في هوليوود هي مزيفة، وعند لي حقيقية تلامس الواقع. 

المزيد من سينما