Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طارق إمام يعارض كاواباتا وماركيز في رواية "طعم النوم"

شهرزاد الجديدة تروي في الاسكندرية والحلم يستولي على الجميلة النائمة

شهرزاد معاصرة (ويكبيديا)

على قارئ رواية "طعم النوم" للكاتب المصري طارق إمام، أن يصدق أولاً أن بطلتها، وهي عاملة على ماكينة تركيب أزرار في مصنع ملابس، في الإسكندرية، قرأت روايتي "الجميلات النائمات"، للياباني ياسوناري كاواباتا (1899- 1972) الصادرة في 1961 والتي ظهرت ترجمتها إلى العربية في العام 2006 على يد ماري طوق، و"ذكرى غانياتي الحزينات" لغابرييل غارثيا ماركيز (1927- 2014) الصادرة بالإسبانية عام 2004، فيما صدرت ترجمها صالح علماني في 2005. وعلى القارئ أيضاً أن يصدق أن الفتاة السكندرية قررت أن تكتب رواية ثالثة منطلقة من ملاحظات نقدية على هذين العملين اللذين "يعارض" الأحدث فيهما الأقدم، وأن يصدق أنها كتبتها وهي "نائمة" في منزل تديره قوَّادة من "الطراز الماركيزي"، إذا جازَ التعبير!

ولن يكون القارئ نفسه مخطئاً حين يدرك أن طارق إمام منَح تلك الفتاة حقَّ "كتابة" رواية "طعم النوم"؛ الصادرة حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية، لتعارض أدبياً عملين صارا من عيون الأدب العالمي، وقد نال صاحباهما جائزة نوبل في الآداب، وهو طموح أسفر عن نص مميَّز، لجهة ما ينطوي عليه من أفكار تخص ماهية الكتابة وشهوة الحكي، لا انطلاقاً من روايتي كواباتا وماركيز فحسب، وإنما بصفة أساسية من "ألف ليلة وليلة"، باعتبارها النموذج السردي العظيم الأثر، شرقاً وغرباً، وبالذات في ما يتعلق بتيار العجائبية.

رواية طارق إمام (341 صفحة) والتي تغطي حقبة زمنية ممتدة من العام 1967 إلى العام 2013، تتألف من قسمين، الأول يستهله الكاتب باقتباس مِن "الجميلات النائمات"، بترجمة ماري طوق: "غمرَ الحزنُ النابضُ في صوت الفتاة وهي تنادي أمَّها، قلبَ العجوز... هل كانت تحسب في الحلم أن العجوز هو أمها فحاولت أن تضمه؟"، أما استهلال القسم الثاني فهو اقتباس من "ذكرى غانياتي الحزينات": "حذَّرني السائقُ: حذار، ففي هذا البيت يَقتلون. وأجبتُه: ليس مهماً، إذا كان القتل بدافع الحب". وقبل القسم الأول هناك مشهدٌ بصوت راوٍ عليم تظهر فيه والدة الفتاة السكندرية، وتدعى "شهرزاد" وهي تحقن رجلاً عجوزاً بمادة سامة، أثناء إنصاته بشغف لحكاية تحكيها له وهي عارية تماماً. هي إذن، متسقة مع بطلة "ألف ليلة وليلة" في ولعها بالحكي، ولكنها مختلفة عنها بشغفها بالقتل، قتل الرجال المشرفين أصلاً على الموت، تحت وطأة الشيخوخة وأمراضها التي لا تمنع تعلق هؤلاء حتى الرمق الأخير بذكرى فحولة غابرة. ويمهد إمام للمشهد ذاته باقتباس من "ألف ليلة وليلة": "فقال من أنتِ؟ فقلتُ أنا هدية وأريد إنجاز الموعد الذي وعدتني به، والآن لي ثلاثون يوماً لم أذق طعم النوم".

الرواية بقسميها تتألف من تسعة فصول، أو تسع ليال، تتبادل فيها الأم وابنتها السرد من مكانين مركزيين الأول هو "منزل النائمات"، والثاني "مدينة العجائز"، وتبدوان على هذا النحو وكأنهما امتداد لشهرزاد "ألف ليلة وليلة". يبدأ الفصل الأول بغرائبية الإخبار بأن ما نقرأه كتبته الفتاة السكندرية وهي نائمة: "لا يستطيع أحد أن يروي قصته الحقيقية، أو ما يعتقد أنها قصته الحقيقية دون أن يكون مغمض العينين". وتبدأ الساردة بتأكيد أنها "حلم شخص آخر"، وكأنما تفصح منذ اللحظة الأولى عن أن الكاتب قد أعارها وعيَه، لكنها تضيف على نحو مربك: "يكتب النوم هذه القصة بلغته، التي يستحيل على يدي المستيقظة أن تمتد إلى معجمها لتصيغ عبارة. إنها إرادته هو، وسواء تعلمتُ بعض الكلمات أو لم أقرأ حرفاً على الإطلاق، فإنه يسرد هذه الحكاية نيابة عني، ففي النوم يصبح الجميع شعراء" (الرواية صـ15).

الهزيمة وفض الاعتصام

منزل "النائمات" هذا، تديره في البداية المواكبة لحرب 1967 "السِت روز"، واسمها يحيل على "روسا" التي تقوم بالعمل نفسه في رواية ماركيز. ثم ستؤول إدارته لاحقاً إلى "شهرزاد" التي سيصبح اسمها منذ تلك اللحظة "السِت روز"، أما إبنتها، فلن تنضم إلى أهل ذلك البيت إلا في 13 أغسطس (آب) 2013 أي عشية فض اعتصام أنصار جماعة الإخوان المسلمين في ميداني "رابعة العدوية" و"النهضة" في القاهرة والجيزة، وقد ارتبط به فرضُ حظر تجوال في 14 محافظة مصرية، بينها الإسكندرية، لمدة ثلاثة أشهر. وعلى مدى الحقبتين لن يقترب السرد سوى من "نائمة" واحدة، تعتبر نفسها "شقيقة" فتاتي كاواباتا وماركيز "في الحِبر"، وأن عليها أن تنتقم لهما بأن تقطع على كاتب في السبعين من عمره الطريق لكتابة رواية ثالثة من واقع ما عايشه عندما كان شاباً مع أمها في ذلك المنزل السكندري. وهكذا يمكن أن نلحظ مدى الاحتقان السياسي الذي وقعت في ظله أحداث رواية طارق إمام على مدى نحو نصف قرن، ولكنه يتخلل ثنايا العمل خافتاً لإفساح المجال ربما لأفكار صاحب رواية "ضريح أبي"، وفي القلب منها نقده لروايتي كواباتا وماركيز واتهامهما بترسيخ قيم ذكورية في هذين العملين بالذات، وعقده العزم على معارضتهما في رواية تكتبها فتاة تعتبر امتداداً لفتاتي "الجميلات النائمات" و"ذكرى غانياتي الحزينات"، ولـ"شهرزاد ألف ليلة وليلة" في الوقت ذاته.

ومن تلك الأفكار أن "هذا النمط من البيوت يوجد في مدن كثيرة في العالم، المدن البحرية بالذات، ونشأ في كل بلد وفق ظرف مختلف، لكن كان لا بد من ظهوره، الأكيد أنه ظهر دائماً في أعقاب هزيمة كبرى أو بعد حرب خاسرة" صـ 128. وفي السياق ذاته نقرأ على لسان شهرزاد/ روزا الثانية: "هل تصدق أن ابنتي عندما فشلت في الحصول على شقيقة انتهى بها المطاف لأن تحصل على شقيقة في قصة. المدهش هو أن ذلك حدث وقد كان بوسع الفتاة أن تصدق أن بيتاً في حكاية هو بيت في الواقع، وأن فتاة قُتلت على الورق كانت شقيقتها الوحيدة". وفي بداية "الحكاية"، صحافي شاب يدعى "جبريل" (لاحظ التشابه مع اسم غابرييل) تنكَّر في مظهر رجل عجوز لينام مع فتاة في بيت روزا، فتكون تلك التجربة في صلب رواية، لم يكملها، فعاد إلى البيت نفسه بعد 46 عاماً، طالباً من الفتاة نفسها التي ورثت مركز المديرة أن تدبر له فتاة عذراء لينام إلى جوارها، عسى أن يساعده ذلك على اتمام تلك الرواية. كان "جبريل" في 1967 "مجرد محرر صغير في جريدة سكندرية ينقل الأخبار الكاذبة عن الحرب من صحف القاهرة وإذاعاتها" صـ300. ولكن لماذا الإسكندرية بالذات وليس القاهرة؟ "الإسكندرية نفسها (إضافة إلى أنها مدينة ساحلية مثل مدينتي كاواباتا وماركيز) هي فتاة مغمضة العينين عبرها جميع العجائز، استوطنها كل غريب، وهو يرى فيها سريره الصامت، ضاجعها الجميع دون أن تراهم، ثم تركوها وحدها تقاوم الغرق" صـ223. هنا يكتب طارق إمام اسكندريته، وقد سبق أن جعلها مكان بعض أعماله الأدبية، ليكون قد أدلى بدلوه في بئرها، بعدما فعلها كفافيس وداريل وإدوار الخراط وإبراهيم عبد المجيد، على سبيل المثال لا الحصر. هي أيضاً بحسب "طعم النوم": "مدينة فاق عدد بيوت الدعارة فيها عدد سكانها بينما كان البلد في حرب"، وهي "مدينة مطفأة رحلت طفولتها". ويبقى السؤال: هل كان لا بد من ربط "طعم النوم" بروايتي كاواباتا وماركيز؟ شخصياً أرى أن ذلك الربط هو مغامرة من طارق إمام، مِن المبكر الحكم بأنها أفلحت في ما طمحت إليه.                          

                      

المزيد من ثقافة