Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حسن عبد الموجود يواري الأفكار الكبيرة في "حروب فاتنة"              

المجموعة القصصية الفائزة بجائزة يوسف إدريس تتنوع اجواؤها بين الواقعية والفانتازيا

الكاتب المصري يوسف إدريس تحمل الجائزة إسمه (ويكبيديا)

تحتوي "حروب فاتنة" (دار الكتب خان- القاهرة) مجموعة حسن عبد الموجود الفائزة بالمركز الأول في الدورة الأحدث لجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة التي ينظمها المجلس الأعلى المصري للثقافة، على عشر قصص تمتاز بطولها غير المعتاد في المنجز القصصي العربي في الوقت الراهن، والذي يجنح إلى الإيجاز. فقد بلغ بعض القصص ما يزيد على 16 صفحة، ما يجعلها قابلة للتحول إلى نوفيلا. واقتراب القصص هنا من طبيعة النوفيلا يعكس اهتمام الكاتب بتتبع تطور الحدث القصصي وتصوير تفاصيله اللافتة والولع باستبطان الشخصيات من خلال لغة سردية واضحة  من دون أن تفقد خاصيتها المجازية التي تتمثل أساساً في التشبيهات التي تدخل من دون افتعال في متن السرد. يمزج عبد الموجود بين الخاص والعام، فلكل شخصية هم ذاتي تسعى إلى الخلاص منه، وهَمٌ عام يتجلى كما لو كان شأناً شخصياً.

في القصة الأولى "دراجة تعيد رفيق الحزب القديم"، نجد البطل يعيش باسمين: حقيقي؛ لا يعرفه إلا عدد محدود مِن قيادات حزب سياسي سري ينتمي إليه، وحركي اختاره هو أو أختير له ويعرف به فقط داخل الخلية التى ينتمى إليها. فهذا الحزب يقوم على ما يعرف بالتنظيم العنقودي الذي تنغلق فيه كل خلية على نفسها ولا تتصل بغيرها إلا برابط/ مسؤول واحد. هذه الطبيعة السرية تنعكس على حركة الشخصيات التي تتسم بالحذر والترقب والتوجس. هكذا نقرأ منذ السطور الأولى داخلين في قلب الحدث مباشرة من دون تمهيدات تقليدية: "بأقل قدر من الالتفاتات مسح بعينيه المكان من جميع اتجاهاته وقبل أن يطمئن إلى خلوه من أي عين راصدة، وبينما ينتظر مونيكا على رأس شارع المنيل، بدأ يفكر بقليل من السخرية في أن له اسمين، وفي أن مونيكا بالذات لا تعرف أياً منهما". اسمه الحركي "توفيق"، أو "تو"، واسمه الحقيقي "عبد الملاك" الذي نسيه الجميع بمن فيهم رئيس الحزب.

تاريخ الاسم

والاسم، عموماً، ليس مجرد علامة على الشخصية. إنه تاريخ طويل من العلاقة الحميمة والتفاصيل المعيشية. لهذا فإن توفيق "لا يخشى الموت بقدر خوفه من النسيان، لا يرغب في شهرة بقدر رغبته في بقاء اسمه أطول وقت ولو في ذاكرة شخص واحد". إن تشبث توفيق باسمه هو تمسك بحقيقته التي تكاد تُمحى أمام التنميط الحزبي ذي اللون الواحد والتراتبية الصارمة. يبدو "الرفاق" كأنهم أشباح تكرر الكلام نفسه وتتلقى أوامر نمطية وتتحرك بإرادة أعلى منها. ويصبح موت "مونيكا"– وهذا اسمها الحركي البديل لاسم هناء – بعد زواج قصير من "توفيق"، علامة على محو الذات في سبيل "قضية كبيرة".وبعد موتها في حادثة سير وهي في طريقها لمقابلة "توفيق" لمهمة حزبية، يمارس الرجل نفسه اختفاءً من نوع آخر حين يقطع علاقته بالحزب ربما لإحساسه بمسؤولية ذلك الكيان عن موتها، أو لإحباطاته الخاصة. غير أن المبرر الأهم لذلك التحول، هو أن الحزب نفسه أصبح كياناً معلناً، فتحولت "المبادىء" إلى "شعارات" للتكسب. بعد مرور سنوات، يتذكر "توفيق" تلك الدراجة التي أهداها إليه الحزب لتسهيل لقاءاته مع "مونيكا" التي كان يسلمها خلالها ظرفاً يحوي مبلغاً مِن المال، فيقرر إعادتها، وحين يدخل إلى مقر الحزب يكتشف أن كل شيء قد تغير، فالسكرتيرة الجميلة تضحك عندما ينطق اسمه مسبوقاً بكلمة "الرفيق". هنا يتذكر قصة "أهل الكهف"؛ في إسقاط بليغ على حاله. وبعد أن يفصح "توفيق" عن رغبته في إعادة الدراجة يتحول إلى مادة صحافية طريفة تستغلها صحيفة الحزب الذي لاحظ "تو" تغير رئيسه حين رأى "تلك السمنة المفرطة التي غزت وجهه وجسده. السمنة التي تنفخ بدلته اللامعة السوداء". وهكذا تتحول الدراجة من وسيلة لإنجاز مهام حزب نضالي إلى مادة شبه متحفية.

الغرف المنسية

وتعكس قصة "الغرف المنسية" نوعاً آخر مِن التحول مِن أحلام القومية العربية إلى أفولها، حيث تحكي عن موظف في "مكتب الاتصال للجمهورية العربية المتحدة"؛ هذه الجمهورية التي لم يبق منها إلا هذا المكتب الذي نسيه الجميع وأصبح مثاراً للسخرية والتندر. المكتب، غرفه باتت خاوية، لكن ظل هذا الموظف كأنه جزء من المكان، حيث كان "دواء السعال يصنع ما يشبه سحابة دخان تحيط بعقله وعينيه وتمنعه من رؤية الأمور بشكل جيد". وتعكس غالبية قصص المجموعة نوعاً من السخرية المريرة، تتجلى مثلاً في تعليق هذا الموظف على تناقص عدد العاملين بقوله إن هذا العدد "صار يتناقص باطراد، وفكرتُ في أنه يتبقى على القيامة خطوتان هما موتي وموت الزميل الوحيد بالمكتب"... "آخر ثلاثة زملاء ماتوا بحسب الترتيب الأبجدي، ولو أن عزرائيل سار بالخطة نفسها فسوف يموت مرؤوسه هذا قبله". على أن هذه الإشارات الساخرة تتحول إلى متن قصة "مِعزة غوركي"؛ حين يحكي بطل القصة عن تلك "المِعزة" التي وجدتها أمه وبعد الصعود بها إلى الشقة تلتهم "كل أعمال غوركي وكثيراً مِن أعمال دوستوفسكي وتولستوي وتشيخوف".

وعلى الرغم من سخرية الموقف، فإن هذه القصة لا تخرج عن الثيمات الرئيسية في المجموعة، فهي تعكس فكرة تحول الأفكار العظيمة التي بنت البشرية إلى غذاء تلتهمه تلك المعزة. ولم يتوقف الأمر عند ذلك فبعد أن يجدوا صاحبها "تنفجر مؤخرتها بدفقات متتالية من البعر"، الذي تدهسه الأقدام العابرة. وفى قصة "العرض الأخير" التي تصور أجواء ثورة يناير 2011 يبدو التحول عكسياً؛ مِن القهر إلى التمرد. والقصة تقوم على حدث غريب هو رغبة السارد في أن يقترب من فتاته في شرفة تطل على أحد السجون، وعلى مرأى مِن الحراس والسجناء، فيقرر قائد السجن التصدي لهذا موجهاً كلامه إلى السارد: "يرجى التزام الآداب العامة". لكن الأمور تتطور ويهجم السجناء على سجانيهم ويوجه أحدهم كلامه إلى السارد: "ياريت تبدأ العرض بسرعة". غير أن السارد على الرغم من التصاقه بفتاته يثور هو الآخر على هذا الوضع الشاذ، ولسبب لا يعرفه كانت يده "تبتعد مؤقتاً عن جسد سيمون وتغلق الستارة". فما الذي يمكن أن توحي به هذه القصة؟ هناك ثورة عامة في الميدان، وهنا ثورة داخل سجن، وأخيراً ثورة السارد على ما كان يفعله، ما يعني أننا أمام حالات تحول صحية، فمطلب السجناء لم يكن أكثر من مخدر يغيِّب وعيهم عن واقع القهر الذي يعيشونه، وكان على السارد أن يثور على كل هذا تجاوباً مع حدث التغير الكبير الذي يشمل الجميع، وعلى الأرجح فإنه كان يود التشبث بخصوصيته وينأى بها عن الانتهاك، غير مبال بـ"قضية كبرى" تشغل الجموع.

حضور الأنثى

وفي مواضع أخرى يجعل الكاتب مِن حضور الأنثى ضرباً من مقاومة الموت. يقول بطل "الغرف المنسية": "قلَّ تفكيري في الموت كثيراً، مع ظهور رغدة. حسيّتُها المفرطة وكرمُها الزائد في عرض جسدها، خفَّف مِن حضوره". ويبدو عنوان "ضحكات التماسيح" ضرباً لأفق التوقع، فالمعتاد أن نقول "دموع التماسيح"، وهو قولٌ يُضرَب به المثل على الكذب. وتقوم القصة على تصوير مصير رئيس تحرير أحيل على التقاعد وشعوره بمجده الآفل ومجد الصحيفة التي أنشأها حتى أصبحت "صوت مَن لا صوت لهم". رآها تنهار ولا تهتم إلا بأخبار الفن والرياضة، وهي نهاية شبيهة بنهاية أحلام الوحدة العربية. هذه النهايات الآفلة تتقابل مع النهايات المنفتحة على خطر يتهدد أبطال القصة. ففي "ليلة العقرب"؛ وهي تحكي عن مدرس مصري يعمل في اليمن والتحاق زوجته به، وفي إحدى الليالى يُلدغ ناظرُ المدرسة مِن أحد العقارب، وأثناء محاولتهما إنقاذه بدأت أغصان الأشجار تهتز بعنف، وكان ذلك علامة على أن جولة جديدة في مواجهة القرود بانتظارهم. ولعل القصة بذلك تعكس صراع الإنسان مع الطبيعة، فالقرية التي فيها المدرسة تقع في أعلى الجبل، وهي مملوءة بالثعابين والعقارب ومحاطة بالقرود التي تهاجم الإنسان بالحجارة.

وتحكي قصة "ماء العقرب وتراب العذراء"، عن صحافي مسؤول عن باب الأبراج، وينتمي إلى برج العقرب، بينما تنتمي حبيبته إلى برج العذراء. وفي اقترابهما يتصور أن العقرب يتحول إلى ماء والعذراء إلى كومة من تراب متعطشة للماء. وأثناء ذلك يرى السارد أن الأسد سيهجم عليه. وفي "إشارات حمراء تفضي إلى البحر"، وتقع أحداثها في عُمان، يشكل الخطر متن القصة ويظل السارد يتخيَّل أن السلطان نفسه يراقبه، وعلى عكس الطبيعة المعادية في "ليلة العقرب"، كانت الطبيعة هنا الملاذ الذي لجأ إليه الحبيبان في النهاية بعد أن أفضت بهم إشارات المرور الحمر إلى هذا الفضاء الرحب. كما يمثل الماضي ملاذاً آخر تحتمي به الذات. يقول سارد "الغرف المنسية" عن زوجته الراحلة: "نمتُ واضعاً طرحة زوجتي فوق صدري مقرباً طرفها مِن أنفي، وفي اليوم التالي ظلَّت رائحتُها في القطار". هو ماض يطارد الحاضر بقوة. هذا الحاضر الذي مع ذلك ملحٌّ في وعي السارد.

المزيد من ثقافة