Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

احتقان اجتماعي يلوح في أفق مستشفيات العزل المصرية

الحكومة تحظى بالثناء مع بدء انتشار كورونا بالبلاد ويصيبها السخط مع ارتفاع قفزات عدد المصابين بالوباء  

الفرق الطبية المصرية خط الدفاع الأول لمواجهة كورونا في البلاد  (الصفحة الرسمية لوزارة الصحة المصرية على فيسبوك)

لأن الفيروس مستجد، والوضع غير مسبوق، والمنظومة الصحية لم تكن مثالية من قبل، فإن حالة من الجدل لا تخلو من قلق، مع كثير من المطالبات بتدخل الدولة في شؤون القطاع الخاص، والضغط على رجال أعمال، ومساءلة منظمات وجمعيات أهلية تملأ أجواء مصر هذه الأيام.

في منتصف فبراير (شباط) الماضي تم اكتشاف حالة الإصابة الأولى بفيروس كورونا في مصر، وكانت لشخص صيني الجنسية يعمل في شركة شحن، مقرها مركز تجاري شهير بحي مدينة نصر (شرق القاهرة). ويبدو أنه التقط الفيروس من زميلة صينية له عملت لمدة أسبوعين في المكتب نفسه بالقاهرة قبل أن تعود إلى مدينتها "ووهان" لتكتشف السلطات الصينية إصابتها عقب وصولها. وعلى الرغم من أنه كان حاملاً للفيروس، لكن لم تظهر عليه أعراض مرضية.

نوبات الهلع الأولى

وعقب نوبات الهلع الأولى جراء تأكيد دخول كورونا مصر، هدأت الأوضاع بعض الشيء، إذ مرت عدة أيام دون ظهور المزيد من الحالات. وفي أوائل مارس (آذار) الماضي، ظهرت أول حالة إصابة لمصري وصل من صربيا بعد 12 ساعة ترانزيت في فرنسا. وفي منتصف الشهر نفسه، ظهرت 45 حالة إصابة على متن باخرة نيلية قادمة من أسوان إلى الأقصر، ثم توالت الحالات لتتغير وتتبدل سبل التعامل معها.

تعامل مصر المبكر مع كورونا كان دافعاً لكثيرين، بمن فيهم المعارضون، لتوجيه التحية للحكومة، وإطراء تحركاتها من قبل المنتقدين لأدائها قبل المؤيدين، والإثناء على وزارة الصحة والسكان رغم عداوات عدة صنعتها وزيرة الصحة هالة زايد.

يشار إلى أن مصر أعدت أول مستشفى عزل بمرسى مطروح في يناير (كانون الثاني) الماضي، لاستقبال المصريين العائدين من الصين حينئذ. بعدها زاد عدد المستشفيات المخصصة للعلاج، وليس عزل العائدين من الخارج، وهي الفكرة التي تحولت إلى رفاهية في ظل تطورات الفيروس.

 

 

شطحات كورونا

شطحات الفيروس ومزاجاته المتقلبة بين وتيرة هادئة، ثم قفزات متواترة أصابت أعتى أنظمة العالم الصحية بصدمات هائلة. وفي مصر، التي ظلت عقوداً تعاني وهن المنظومة الصحية، ثم بدأت في السنوات الأخيرة تعيد بناءها. وشهد عام 2019 وضع اللمسات النهائية على نظام التأمين الصحي الشامل، وأخضعته الدولة للتشغيل التجريبي في محافظة بورسعيد في يوليو (تموز) 2019 على أن يُجرى تقييمه نهاية العام لتعميمه، إلا أن كورونا كانت له بالمرصاد.

كورونا، تعرّفه منظمة الصحة العالمية بأنه "مرض معدٍ يسببه آخر. فيروس تم اكتشافه من سلالة فيروسات كورونا. ولم يكن هناك أي علم به قبل بدء تفشيه في مدينة ووهان الصينية ديسمبر (كانون الأول) 2019. وقد تحوّل إلى جائحة تؤثر في العديد من بلدان العالم". لكن العديد من الشعوب لا تزال تعتبر حكوماتها مسؤولة عن عدم الإفصاح عن أبعاده، وعدم التخطيط للوباء مسبقاً، والتعامل مع الوضع بمبدأ "حسب ما يستجد".

المنحنى الوبائي

وما استجد في مصر انتقالها، المتوقع علمياً والمرفوض شعبياً، من مرحلة الزيادات الطفيفة إلى مرحلة الزيادات الكبيرة، فيما يعرف بالمنحنى الوبائي على مدار الأسابيع الماضية الذي قفز بعدد الإصابات من 50 في منتصف مارس الماضي إلى 31 ألفاً و115 إصابة في 6 يونيو (حزيران) الحالي.

وعلى الرغم من مضي الحكومة قدماً في زيادة عدد المستشفيات المعدة لاستقبال مرضى كورونا، والتصريحات الحكومية في بداية الوباء في مصر بأن المنظومة الصحية قادرة على التعامل مع الوضع الوبائي، فإنها بلغت حدها الأقصى للاستيعاب مطلع مايو (أيار) الماضي.

مستشفيات العزل

 رئيس الهيئة العامة للرعاية الصحية ومساعد وزيرة الصحة أحمد السبكي، قال حينها، إن المستشفيات المخصصة لعزل المصابين بالفيروس وصلت الحد الأقصى للاستيعاب، وأن هناك اتجاهاً بالوزارة للتفكير في بدائل أخرى. وهنا بدأ اسم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي يبزغ في مجال الحديث عن كورونا والإمكانات الصحية، لا سيما المتعلقة بالمستشفيات الخاصة بالمصابين.

وفي أوائل أبريل (نيسان) الماضي قال وزير التعليم العالي والبحث العلمي خالد عبد الغفار إن الوزارة لديها خطة لتخصيص عدد من المدن والمستشفيات الجامعية كمستشفيات عزل لحالات الإصابة بالفيروس. وأضاف أن المستشفيات الجامعية التي جرى تخصيصها للعزل تحتوي على 2066 سريراً و297 سرير رعاية مركزة و35 سرير رعاية متوسطة و266 جهاز تنفس صناعي.

وانضمت المستشفيات الجامعية إلى تلك التي خصصتها وزارة الصحة لاستقبال المصابين وعددها 340 مستشفى، بالإضافة إلى 36 أخرى، يُجرى العمل على تجهيزها حالياً، ليصبح إجمالي مستشفيات الصحة المخصصة للتعامل مع مصابي الفيروس 376 مستشفى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جهود لا تخلو من وساطة

وعلى الرغم من تسارع الخطوات الحكومية، فإن خطوات الفيروس أكثر تسارعاً، مع وجود فجوات رهيبة بين قدرات المواطنين في التعامل مع الإصابات والمخالطين. ومع زيادة الإصابات وتفوقها على قدرة استيعاب المستشفيات، خضعت السياسة الحكومية في التعامل مع الفيروس ومصابيه والمشكوك في إصابتهم. وبعدما كانت التأكيدات الرسمية تدور في فلك توافر إمكانية عمل المسحات والخضوع للاختبارات، أصبحت المسحات تُجرى فقط لأولئك الذين يعانون أعراضاً قوية وواضحة ترجح الإصابة، وبعد ضغوط وجهود لا تخلو من "وساطة".

محمد بدر، 38 عاماً، أصيب وزوجته وأبناؤه الثلاثة بالفيروس ولحسن الحظ أن الأعراض كانت خفيفة فالتزموا البيت، لكن المشكلة كانت في إصابة والدته المقيمة معهم، وهي سيدة في أواخر السبعينيات من العمر ومريضة ضغط وسكر. وعلى مدى أسبوع كامل، ظل بدر ينشر استغاثات على صفحته بـ"فيسبوك" لعل أحد أصدقائه يتمكن من مساعدته في توفير مكان لوالدته بأحد المستشفيات، لا سيما أن حالتها بدأت تتدهور. يصف بدر توفير مكان لها في مستشفى بـ"المعجزة" لدرجة أن المسعفين الذين نقلوها أعربوا عن تعجبهم من نجاحه في تأمين مكان لها.

شوكة في حلق الحكومة

تأمين أماكن في المستشفيات لمصابين بالفيروس صار شوكة في حلق الحكومة وصداعاً في رأس مسؤولي المستشفيات وغضباً من قِبل المواطنين، سواء أولئك الذين يخشون إصابتهم أو أسرهم أو المصابين أو المشكوك في إصابتهم. فمع زيادة عدد الإصابات اليومية على الألف، بات تأمين مكان لكل مصاب أمراً شبه مستحيل.

ويبدو أنه كان لزاماً على الدولة أن تعتنق خطة بديلة فوراً دون شرط المجاهرة بتفاصيلها. الأستاذ المساعد في كلية طب جامعة المنيا محمد البدري يقول، إنه على يقين بأن كل طبيب أو صيدلي في مصر تلقى اتصالاً واحداً على الأقل من قريب أو صديق يستنجد به للعثور على مكان لمصاب بكورونا، أو على الأقل لإسداء النصح في وصف "روشتة" للتعامل مع أعراض الفيروس.

 ويصف البدري ذلك بأنه "نتيجة مباشرة لتخبط وزارة الصحة في الإعلان عن خطتها لمواجهة الوباء". ويرجح أن يكون "أسلوب العزل المنزلي قد تم إقراره دون الإعلان الكافي والواضح عن آلياته، ناهيك عن عدم وضوح، وربما عدم وجود، آليات تحويل المريض من العزل المنزلي إلى الحجز بالمستشفى في حالات الضرورة".

عزل منزلي غير معلن

ما قاله مستشار وزيرة الصحة للرعاية والطوارئ العاجلة شريف وديع، يدعم حديث البدري عن قرار غير معلن للوزارة، باتباع مبدأ العزل المنزلي لمصابي كورونا من غير الحالات الحرجة. وأشار وديع إلى أن ثمانية في المئة فقط من مصابي كورونا يحتاجون إلى الرعاية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي، وذلك من أصل 30 في المئة من الحالات المتوسطة والمتقدمة التي تحصل على العلاج بالمستشفيات. وأن 70 في المئة من المصابين بكورونا يمكن أن يعتبروا العزل المنزلي الوسيلة الأفضل مع الحصول على بروتوكول العلاج الموصوف من قبل وزارة الصحة والسكان.

أضاف البدري، أن الأدوية التي تطلب وزارة الصحة من المواطنين اللجوء إليها غير موجودة في أغلب الصيدليات، ما أدى إلى تنامي الفزع بين الناس والتكالب على تخزين الأدوية دون داع. ويشير إلى أن الإعلان الواضح، كما حدث في دول عدة معروفة بأنظمتها الصحية الجيدة، عن انخفاض سعة النظام الصحي وقدرته على استيعاب المرضى ليس عيباً.

 

 

ظلال اجتماعية وخيمة

لكن عيب انخفاض قدرة النظام الصحي على استيعاب المصابين تلقي بظلال واحتقانات اجتماعية وخيمة حين تطل القدرات المادية برأسها؛ عدد متزايد من المستشفيات الخاصة فتح أبوابه أمام استقبال المصابين بكورونا، "ولكن كله بثمنه". أسعار الإقامة وتلقي الرعاية اللازمة في المستشفيات الخاصة غير معلنة، لكنها مبالغ فيها إلى حد كبير.

تحكي الصحافية في جريدة الجمهورية سلوى عزب، كيف أن شقيقتها حين شعرت بأعراض كورونا عانت الأمرّين من أجل أن تخضع لمسحة للتأكد من الإصابة، وفي نهاية المطاف اضطرت لإجرائها في مستشفى خاص كلفها 15 ألف جنيه (926.74 دولار أميركي). ورغم أن كلفتها في الأماكن الأخرى الحكومية لا تتجاوز 2800 جنيه (172.99 دولار)، فإنه لا يتم عمل المسحات إلا بعد ظهور أعراض واضحة للمريض.

شقيقة عزب توفيت بعد أربعة أيام من إجراء المسحة ذات الكلفة المضاعفة أكثر من ثلاث مرات، إلا أن سيدة أخرى أيضاً مصابة طافت بها ابنتها على ثلاثة مستشفيات حكومية، ولم تجد مكاناً لها في أي منها. وفي النهاية، سقطت السيدة مغشياً عليها أمام المستشفى الأخير، والتقط البعض لها صوراً تم بثها على الإنترنت، ما لفت الانتباه، وتم توفير مكان لها في الرعاية المركزة.

آلاف التعليقات العنكبوتية تدور في فلك واحد لا ثاني له، توفير فرص الإنقاذ يجب أن تكون متساوية، وهو فلك يستحيل تحقيقه في ظل الظروف الراهنة بدول عدة وليست مصر فقط. حالة أممية من التخبط الدوائي والحيرة العلاجية والضبابية المعلوماتية تعتري كل الأوساط الصحية حيث الفيروس المستجد ما زال غير محدد المعالم، وقدرته على الغزو وتحقيق الفتوحات ما زالت غير معلومة، وبالتالي فإن التخطيط لسيناريوهات المواجهة أشبه بقيادة سيارة في ظلام دامس. وحتى في حالات نجاح التخطيط، تبقى القدرة على التفعيل محل تشكك.

يقول البدري، إن العالم يعيش لحظة حيرة علمية غير مسبوقة في ظل كورونا. "آلاف من الأوراق البحثية لم يصل أي منها إلى علاج واضح المعالم، أو نتيجة، تمكّن العالَم من تخطيط مستقبلي معقول للتعامل مع الوباء. وفي وسط كل ذلك نجد صفحات التواصل الاجتماعي متخمة بقدر هائل من أسماء الأدوية التي لم تثبت فعاليتها، بل طرح اسم بعضها ثم أعيد سحبه باعتبار أضراره تفوق محاسنه".

أضرار ومحاسن نسبية

لكن تبقى الأضرار والمحاسن مسائل نسبية في زمن كورونا. وتظل أضرار اعتقاد الفقراء أن الأغنياء وحدهم من يحصلون على العلاج في زمن الوباء مربكة. فعلى الرغم من أن القدرة المادية على سداد كلفة العلاج في المستشفى الخاص تفرق بين الغني والفقير، فإن حتى الأماكن المتاحة في هذه المستشفيات ليست مضمونة.

ولأن المسالة لا تخلو من تسييس، ولأن الخلافات الشخصية تفرض نفسها في أحلك المواقف، يطل بعض الكوادر الطبية، المعروفة بمواقفها المعارضة من الجهات الصحية الرسمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بين الحين والآخر ولسان حالهم يقول، "علي وعلى أعدائي". أحد أصحاب المناصب البارزة، الذي تمت إقالته من قِبل وزيرة الصحة رغم أنه يحظى بشعبية بالغة، كتب على صفحته على "فيسبوك" قبل أيام، "اتركوا مستشفيات العزل الخمس نجوم بأسعارها، لها ناسها، وأعدوا مستشفيات عزل بالأسعار الاقتصادية للناس المتوسطة المستورة التي تقدر على تدفع. توسعوا في مستشفيات العزل المجانية ذات الألف سرير للغلابة، التي بُحّ صوتي على مدى شهور من أجلها". وهي الكلمات التي أثارت الكثير من الجدل على أثير العنكبوت بين مؤيد لمطالباته وناقم على الإجراءات الحكومية من جهة، ومنصف له باعتباره يدلو بدلوه ويشكك فيها لينتقم بعد إقالته.

ولا يمر يوم دون أن تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي كذلك صور أو مقاطع فيديو لمستشفيات عزل يتم تجهيزها، يتضح فيما بعد أن بعضها في بلاد أخرى أو أزمنة مغايرة. وبالطبع تتأرجح التعليقات بين ذعر وهلع من تفش للوباء، وبين اعتراض وتنديد على نشر هذه المواد غير الموثقة.

الأثير نفسه امتلأ عن آخره بتدوينات وآراء غاضبة من انعدام الرقابة على هذه المستشفيات التي تغالي ولا تبالي. البعض يطالب بتطبيق تسعيرة جبرية على هذه المستشفيات كإجراء استثنائي يتم فيه تغليب حياة المواطنين على أرباح المستثمرين. البعض الآخر يناشد أصحاب هذه المستشفيات الاستماع لصوت الرحمة مؤقتاً لحين زوال الغمة.

غمة الوباء

سلطت غمة الوباء الضوء كذلك على دور كل من رجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني، الذي يكاد يكون غائباً تماماً، باستثناء تواتر الإعلان عن خدمات تغسيل وتكفين موتى كورونا بالمجان من قبل جمعيات تابعة لجماعات دينية. أما خدمات ما قبل الوفاة فشحيحة. وعلى الرغم من وجود بعض المبادرات لتقديم المساعدة لمرضى كورونا في العزل المنزلي عن بُعد، فإنها تظل قليلة. أما رجال الأعمال، فلا حس ولا خبر. مبادرات لا تناسب ثرواتهم يتم الإعلان عنها بين الحين والآخر، لكن أصواتاً عدة تطالبهم بالمزيد.

وقبل أيام قدمت الحكومة المصرية كشف حساب عن مئة يوم من مواجهة فيروس كورونا، وهي المواجهة التي تحولت بفعل الوباء إلى "تخفيف من وطأة تداعيات الأزمة" على حد قول رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.

تحدث مدبولي عن حرص الحكومة المصرية قبل تحول كورونا إلى جائحة على النهوض بجودة خدمات القطاع الصحى. وقال إن صحة المواطنين دائماً على رأس أولويات الحكومة، ولذلك تم وضع برنامج وقاية فعال في وقت مبكر، هدفه رفع وعي المواطنين للحد من انتشار العدوى، بالإضافة إلى الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية للتخفيف من حدة الأضرار المتوقعة.

وبينما الأضرار المتوقعة تظل غير متوقعة تماماً، ينتهز فريق آخر الفرصة التي باتت معتادة، ألا وهي تسييس الوباء. لكن ما يخفف من وطأة التسييس هذه المرة، أن رياح تسييس كورونا هبت على العالم كله، كل بحسب قوائم عداواته وطموحاته في زمن ما بعد كورونا.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات