صرخ تومي روبنسون عبر هاتفه يوم 7 يونيو (حزيران) "على كل رجلٍ أن يكون في لندن السبت المقبل وإلّا فكفّوا عن اعتبار أنفسكم وطنيين إلى الأبد".
"لا جدوى من الجلوس فوق لوحات مفاتيح الحواسيب في حين يعتقد حثالة القوم الملثّمون هؤلاء أنهم سيحطّمون تمثال تشرشل... لن يجلس الشعب البريطاني جانباً ليتابع حدوث هذه الحقارة".
أثار هذا النداء مخاوف من اندلاع اضطرابات خطيرة داخل العاصمة، حيث خططت شركات كرة القدم وقدامى المحاربين وجماعات أخرى بالفعل أن "تدافع" عن هذه النُصُب.
إنّما أُخمد التوتّر المتصاعد مساء الخميس حين ألغت حركة "حياة السّود مهمّة" تظاهرتها الرئيسية في لندن يوم السبت، وأحاطت السلطات تماثيل منها تمثال ونستون تشرشل بألواح خشبية، فلم يتبقّ ما يتوجّب "حمايته".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثم أعلن روبنسون في وقت لاحق أنه قرر عدم الذهاب، مدّعياً أنّ ذلك لا يعود إلى التهديدات التي تلقّاها بل "لأنني لا أريد أن أتحمّل مسؤولية المزيد من الانقسام العرقي".
وبدا أنّ الأزمة انحلّت لكنها ليست سوى الطلقة الأولى في ما يظهر أنها أحدث جبهات الحرب الثقافية في بريطانيا.
يتخبّط اليمين المتشدد في المملكة المتحدة منذ أشهر عدة. فالمسائل الأساسية التي تستغلّها الجماعات المناهضة للإسلام عادةً من أجل حشد المناصرين وتجنيدهم شحت كثيراً مؤخراً.
فلم تقع أيّ هجمات إرهابية منذ يناير (كانون الثاني)، ولم تُفضح أيّ عصابة تستغلّ القاصرات جنسياً، وخرج روبنسون من السجن، وبريكست يسير قدماً ورئيس الوزراء هو بوريس جونسون.
وكان روبنسون وحركة بريطانيا أوّلاً من مؤيّدي جونسون قبل الانتخابات العامّة، لكن فوز سياسي يشتهر بتشبيهه المسلمات بـ"صناديق الرسائل" لم يصب في مصلحتهما في نهاية المطاف.
وبرأي نيك لولز، الرئيس التنفيذي لمجموعة مكافحة الإرهاب الأمل لا الكراهية (Hope Not Hate) "إن تولّي بوريس جونسون منصب رئيس الوزراء وتنفيذه بريكست أفقد اليمين المتطرّف الكثير من قوّته".
"فقد شعروا بأنّ هناك من يعبّر عن غضبهم".
لكنّه يخسر هذا التأييد حالياً مع المماطلة في مفاوضات بريكست وتوجيه الناقدين سهام نقدهم نحو ما يعتبرونه استجابة ضعيفة لتظاهرات حياة السود مهمّة.
ولم يثر تشويه النصب التذكارية ومنها نصب الحرب وتمثال وينستون تشرشل حفيظة اليمين المتطرّف فحسب، بل أغضب كذلك أفراد العامّة المعتدلين الذي يسعى إلى استمالتهم.
وقال السيد لولز "يصيب تدنيس النصب الرمزّية أو نصب الحرب التذكارية وتشويه وجه تمثال تشرشل وتراً حساساً بالنسبة إلى كثير من الناس. وسوف يخلّف هذا التصرّف أثراً ويغذّي المعركة الثقافية القائمة على التفريق بين معسكريّ "هم ونحن".
وبعد إسقاط تمثال لتاجر رقيق في مدينة بريستول، وضع ناشطون يساريون قائمة بالشخصيات التي يريدون أن تُزال تماثيلها في كل أنحاء البلاد لارتباطها بالاستعباد والاستعمار والعنصرية.
كما تعرّضت نصب الحرب التذكارية للتشويه بالكتابات والرسوم والتخريب خلال التظاهرات الأخيرة، وطالما تتواصل تظاهرات حياة السود مهمّة، يُرجّح أن يتواصل تصدّي "المدافعين" لها.
وأوضح الدكتور جو مولهال، مسؤول الأبحاث في منظمة الأمل لا الكراهية "دبّ النشاط في اليمين البريطاني المتطرف الذي نراقبه بسبب التماثيل وحركة حياة السود مهمّة اللتين أجّجتا الحماسة والغضب".
"وتحمل الفيديوهات المنشورة كمّاً من الغضب لم أشهد أمثلة كثيرة عليه منذ سنوات".
وشرح أنّ نصب الحرب التذكارية "مقدّسة" بالنسبة إلى البريطانيين القوميين ويمكن مقارنة ردّ فعلهم بردّ فعل المجتمعات الدينية على تدنيس أماكنها المقدّسة.
وأضاف "إنها حقاً لحظة حرب ثقافية".
وفي رسالة إلكترونية بعثتها "بريطانيا أوّلاً" لمناصريها يوم الجمعة، كتبت الحركة أنّ ناشطيها "سيحمون التماثيل في أنحاء البلاد كافة من التخريب اليساري على امتداد الأشهر المقبلة".
وناشدت الجماعة الأشخاص الذين لا يستطيعون الانضمام إلى "المُشاة الباسلين" في الشوارع أن يتبرعوا بالمال.
وسعت الجبهة الوطنية بدورها، إلى استغلال هذا الموضوع لصالحها فدعت إلى إسقاط تمثال نيلسون مانديلا.
وفيما ركّز القوميون الثقافيون بشكل عام على موضوع التماثيل، عمل أفراد يجاهرون بعنصريّتهم بشكل أكبر على نشر فيديوهات العنف الذي يرتكبه المتظاهرون السود من أجل تعزيز اعتقاداتهم.
وسعى الناشطون اليمينيون المتطرفون في وقت سابق إلى مقارنة موت جورج فلويد بالهجوم الإرهابي الذي قتل خلاله لي ريغبي، عبر تصوير الحادثتين على أنّهما حادثتا قتل بدافع عنصريّ.
ويزعم حائكو نظريّة مؤامرة "الاستبدال العظيم" الذين يؤمنون بأنّ سكّان الغرب البيض يُستبدلون (بملونين)، بأنّ أيّ اضطراب هو ثمرة "التنوّع".
ويُعاد توظيف حركة حياة السود مهمّة برمّتها لخدمة نظريات المؤامرة الأوسع المتعلقة بـ"إرهابيي أنتيفا" وجورج سوروس و"النخبة الليبرالية" والنظام العالمي الجديد المفترض.
كما اعتبر الدكتور مولهال أنّ تبعات وفاة جورج فلويد حملت معها إمكانية بناء "وحدة" بين حركات اليمين المتطرّف المنقسمة والمتنافسة.
وأضاف "لكن الكثير من الأسماء الكبيرة التي كانت لتنجح في تجيير هذه المسألة لصالحها حُرمت من المنصّات التي تمكّنها من الوصول إلى الناس الذين لا يتفاعلون كثيراً معها".
ومُنعت حركة "بريطانيا أوّلاً" وروبنسون من استخدام تويتر ويوتيوب وإنستغرام وتيك توك والأهمّ، فيسبوك، حيث تابعهما الملايين قبلاً.
وبعد حظر المنصّات لهما، تحوّلا هما وغيرهما من ناشطي اليمين المتطرّف نحو مواقع أقلّ انتشاراً في الإنترنت، مثل شبكة التواصل الاجتماعي الروسية في كاي (VK) وتطبيق تلغرام، حيث من غير المرجّح انتشار إنتاجهم أبعد من متابعيهم المخلصين.
ولمّح روبنسون إلى هذه الخسارة يوم الجمعة حين تبجّح بأنّ 100 ألف شخص شاهدوا فيديو له مدّته ساعة نشره على منصة فيديو هامشية.
وأضاف "لا بأس بهذه النتيجة بالنسبة إلى شخص محظور على مواقع التواصل الاجتماعي. تخيّلوا لو كنّا على فيسبوك، لتابعنا الملايين. والمشكلة هي أنني بحاجة أن أصل إلى هؤلاء الملايين الآن، عليّ أن أصل إلى الرأي العام".
ودعا مناصريه إلى مشاركة الفيديو الذي صوّره على حساباتهم الخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي وفي قسم التعليقات على المقالات الإخبارية، إنما العديد منهم تضرّر بسبب القواعد التي فُرضت على خطاب الكراهية ويبدو أنّ دعوته لم تُقابل بحماسة.
لكن فيما حوّلت جائحة فيروس كورونا قلق الرأي العام إلى داخل المنازل وأبعدت المتظاهرين عن الشوارع، فقد أدّت كذلك إلى زيادة كبيرة في المدّة التي يقضيها الناس على شبكة الإنترنت.
وعبّرت شرطة مكافحة الإرهاب عن خوفها من احتمال تفاقم التطرّف فيما تضعف الصلات بالأصدقاء والأقارب والزملاء.
وقال المنسّق الوطني لبرنامج مكافحة التطرّف "بريفينت" للاندبندنت إنّ حائكي نظريات المؤامرة المتعلقة بفيروس كورونا يُستغلّون من أجل استمالة المجنّدين.
وأوضح رئيس الشرطة نيك آدامز "لا يزيد قلقنا إزاء قضاء اليافعين وقتهم على شبكة الإنترنت فحسب بل إزاء وقع العزلة ومشهد تحوّل المخاطر".
"ما أخشاه هو أن الفرص صارت سانحة أكثر أمام الناس كي يقضوا المزيد من الوقت داخل غرف مغلقة تردّد أصداء أفكارهم ومنتديات محادثة على الإنترنت تعزّز الروايات الخاطئة والكراهية والخوف والاضطراب ويمكن أن تدفع بهم نحو التطرف".
© The Independent