Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجامعة العربية على مفترق الطريق الليبي

لم تتمكن من فرض نفسها كمرجعية حامية لمصالح دولها الأعضاء

قوات تابعة لحكومة الوفاق تقف على نقطة تفتيش في مدينة ترهونة (أ ف ب)

سابقت الأزمة الليبية انعقاد "القمة العربية" المؤجَّلة إلى شهر يونيو (حزيران) الحالي. وفي حقيبة الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط ملفات عدة تبحث عن حلول، وهي أزمات سوريا واليمن وليبيا، بالإضافة إلى دعم منظومة الجامعة. تنبع الحاجة إلى هذه القمة المزمع عقدها في الجزائر، من عدم استقرار الأوضاع في ليبيا التي تمر الأحداث فيها بين تعقُّدٍ وبوادر انفراج، وفي ظلّ حاجةٍ حقيقية لتفعيل شراكة عربية وفق عوامل تستدعي استنفار الدول الأعضاء لاستغلال فرصٍ يتم اختطافها. كما تظهر ضرورة تعديل الملمَح العام لمجلس الجامعة العربية وتفعيل قدرته على اتخاذ قراراتٍ واقعية، جنباً إلى جنب مع اقتراح حلولٍ دبلوماسية.

وراء المشهد

لم يكن آخر العلاج بالنسبة إلى الوضع المعقّد في ليبيا الغارقة في الاضطرابات؛ هو الاتفاقات المتأرجحة بين رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج، وقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، التي تم التوصل إليها في لقاءاتٍ لم يُكتب لها النجاح. فهناك علاجٌ من نوع آخر، وهو أن تحمل همّ ليبيا، الجامعة العربية الغارقة هي الأخرى في أجندة تحتاج إلى حلول. فالحديث عن تسويةٍ سياسية تحضر فيها رعاية الأمم المتحدة، قد يعمل على تلاشي الدور الفعلي المنوط بالجامعة العربية إلى حدٍّ ما.
وراء المشهد الليبي، تجاهد السمات البنائية للنظام السياسي لتكوين رافعة في إطار محاولات الاضطلاع بالسلطة داخليّاً منذ إطاحة العقيد معمر القذافي في عام 2011، دون وجودٍ أجنبي. ولدى التدخل التركي كانت تفاصيل القضية الليبية هائمة بين المبادرات التي أطلقها عدد من دول الجوار، مثل مصر وتونس والجزائر. وكان المغرب من قبلها قد أشرف على اتفاق مدينة الصخيرات حيث تم التوصل إلى اتفاق وقّعه المشاركون في الحوار في 11 يوليو (تموز) 2015، وضمّ ثلاث نقاط هي: تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، واعتبار برلمان طبرق الهيئة التشريعية الشرعية، وتأسيس مجلس أعلى للدولة ومجلس أعلى للإدارة المحلية وهيئة لإعادة الإعمار وأخرى لصياغة الدستور ومجلس الدفاع والأمن.

 أما المبادرة التونسية فأكدت تنفيذ "اتفاق الصخيرات"، ومواصلة دعم دور الأمم المتحدة كمظلة أساسية لأي حلٍّ سياسي في ليبيا. وأخيراً المبادرة المصرية التي أُعلنت في 6 يونيو (حزيران) الحالي، وتهدف إلى وقف النار على أن تؤدي إلى انسحاب القوات الأجنبية والتمهيد للمضي نحو عملية سياسية.
 

سمة ملازمة

عندما انعقدت القمة العربية الـ30 في دورتها العادية في 31 مارس (آذار) 2019 في العاصمة التونسية، أرجعت عجلة التاريخ إلى توقيت انتقال الجامعة من مصر إلى تونس في أواخر سبعينيات القرن الماضي، إثر زيارة الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات إلى إسرائيل، ثم عودتها إلى مقرّها الدائم في القاهرة عام 1990. وأصبحت صورة ذلك الانتقال ملازمةً لواقع الجامعة العربية التي تنعكس تلاوينها على مخيلة الانكسار، والانهيارات السياسية والفكرية، والواقع المتخيَّل الذي تتمنى شعوب الدول المنتمية إليها تحقُّقه عند كل منعطفٍ تاريخي سياسي.

وتضمنت أعمال القمة في تونس 20 ملفاً، أبرزها الأحداث الطارئة التي تصدّرتها، وهي قضية الاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان، بالإضافة إلى التوتر في قطاع غزة، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية. كما هناك قضايا استمر تداولها على مستوى المجلس في القمم المختلفة، كالوضع في العراق واليمن وليبيا، ودعم السلام والتنمية في السودان، والتدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية. والتأسيس لمرحلة من تفعيل آليات التعاون الثنائي متعدّد الأطراف، وتعزيز التضامن المشترك لدرء ملفات الخلافات بين الدول الأعضاء.
في هذه الأثناء، لم تهدأ الأمواج السياسية المتلاطمة خلال العقدين الأخيرين، إلا أن الأحداث الجارية في ليبيا ذهبت نحو أبعادٍ أكثر خطورة، ما قد يسمح للجامعة العربية بممارسة دور يُؤمَل من خلال معالجة الأزمة وتدارك الأخطاء الموروثة من القمم السابقة.
ولعلّ الجزئية الأشد إلحاحاً في تطورات القضية الليبية، هي التدخل التركي، الذي يشكّل انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن. في المقابل ظلَّت الجامعة العربية ترفض وتدين أي تدخلٍ خارجي في ليبيا بكل أنواعه من دون تحديد، ما وسَّع رقعة التخاذل التي جعلت التسليم به أمراً واقعاً من دون أن تترتب عليه أي التزامات، سوى تسوياتٍ غير قابلة للحياة.

دور محصور

 منذ سبعة عقود تأسست أول قوة عربية مشتركة، بعد التوقيع على معاهدة الدفاع العربي المشترك. لم تُفعَّل تلك الاتفاقية ولم تُستخدم القوة المشتركة إلّا في ظروف نادرة جداً، في ظل وجود جامعة الدول العربية والمنظمات الإقليمية الأخرى التي نشطت بعد استقلال معظم دول الوطن العربي. أما الآن فدعت عوامل عدة إلى تفعيل تلك القوة المشتركة، ألا وهي تطور الأحداث في الساحة العربية، ثم الموت الإكلينيكي لجامعة الدول العربية التي ينحصر دورها في الشجب والاستنكار، فلم تسجّل على مدى عمرها الممتد منذ عام 1945 وحتى اليوم أي حلّ حقيقي للنزاعات، على الرغم من خوض تحالفها حرب فلسطين عام 1948، وحرب 1967 بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا والأردن، وحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وفي الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976، ثم دخول التحالف عمليات عسكرية "عاصفة الصحراء" في عام 1991 لإنهاء الغزو العراقي على الكويت بقيادة الولايات المتحدة.
أما التحديات الإقليمية فتتمثل في طموح إيران الساعية إلى التمدد وخلق قاعدة لمواجهة ما تعتبره استحواذاً غربياً على موارد الطاقة ومعادة صارخة لدول الخليج خصوصاً السعودية، إضافة إلى مُضيّ إسرائيل في تغوّلها على الأرض والمياه العربية.

كما أن هناك إطاراً آخر ينطوي عليه مشروع التعاون هذا، وهو أنه وبالنظر إلى قيام التحالفات والتكتلات بين الدول العربية من جهة وبينها وبين القوى الدولية من جهة أخرى، نستطيع أن نرى كيف أن نار الانقسامات قد زادت من وتيرة التحديات أكثر من ذي قبل، مما جعل الدعوة إلى التعاون في ما بينها يأخذ حيّزاً يستحق الوقوف عنده. وحصل الانقسام الأكبر بين الدول العربية إبّان اجتياح العراق للكويت في أغسطس (آب) 1990، وتبعتها حرب الخليج الثانية في فبراير (شباط) 1991، التي أدت إلى إحداث شرخٍ في جسد هذه العلاقات. وتوزعت مواقف الدول العربية حينها بين مؤيد ومساند لقوى التحالف في حربها لتحرير الكويت من جهة، وبين معارضٍ ومتحفظ من جهة أخرى.

سباق دولي

ينبع السعي الدولي إلى حل للقضية الليبية، مما يمكن أن يكون سباقاً دولياً بين روسيا والدول الأوروبية والولايات المتحدة، والنظر إلى ما بعد هذه الحالة أياً كانت نتيجتها للاستفادة من فرص إعادة إعمار ليبيا واستغلال مخزونها النفطي في حالة التوصل إلى تغييرٍ سياسي. أما إذا كان التغيير عسكرياً فإنّ تلك الدول أيضاً مستفيدة، لأنّ النُظم العسكرية تعمل على تأمين نفسها أولاً بشراء أسلحة بمليارات الدولارات، بخاصة بعد تعرض القوات العسكرية الليبية إلى تسرب بعض أجزائها واندماجها مع الميليشيات. كما تقف معضلة أخرى خلف هذا التوجه متعدّد السيناريوهات، ألا وهي انتشار ترسانات الأسلحة الثقيلة لدى الميليشيات المتناثرة هناك، وتزيد خطورة هذا الوضع بتفضيل قدرات طرف وإضعاف الآخر تبعاً للمصالح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


جمود الميثاق

من منظارٍ واقعي، يمكن إدراك أن دور الجامعة العربية مهم على الرغم من صغره، ولكن يشوبه ضعف عندما يقف أمام اتخاذ قرار لفض النزاعات. يتعلَّق دور الجامعة بتحديات يضيق المجال عن ذكرها، ولكن ما يغلُّ يدها هو جمود ميثاقها الذي حصد انتقاداتٍ واسعة بشأن بنوده غير المُخصصة أو المُقيّدة. وأهمَّ ملامح قصور الميثاق هو ما يتعلَّق بفض النزاعات بشكلٍ عام، بخاصة عندما تحدث بين دولتين عضويين.

وتنصُّ إحدى مواده على أنه "لا يجوز اللجوء إلى القوة لفض النزاعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، وعند صدور قرارٍ لفض النزاع أو خلاف ذلك، مما يتعلق بالسيادة أو الاستقلال كان القرار عندئذٍ نافذاً ومُلزِماً". وهذا يعني أن الجامعة تقيّد نفسها بهذا النص سلباً خشية اللجوء إلى القوة، كما لا تلزم وجوب فض النزاع بالوسائل السلمية، أي أن تدخل مجلس الجامعة يكون ضمن إطار ضيق للوساطة، ولتكون حَكماً إذا طلبت منها الدولة المعنية ذلك.


فرص الحل السياسي
وبالإضافة إلى ذلك، فإن قرارات وأهداف مجلس الجامعة تقتصر على تقوية الروابط بين الدول الأعضاء التي تكوّن منها المجلس، ثم عندما توسعَّت لم تتوسع معها الأهداف ولم يتم تحديثها. كما يفتقر الميثاق إلى نصٍّ واضحٍ يعالج مسألة فض النزاعات الداخلية في الدول العربية. ونظراً إلى طبيعة القرارات غير الملزمة التي تصدرها الجامعة، اعتبر قانونيون أن "مجلس الجامعة جهاز لرسم السياسة أكثر منه هيئة تشريعية، ولا يملك سلطة اتخاذ القرارات". وذلك بسبب وجود تكتلات داخل الجامعة تتعارض مصالحها مع مصالح دول أعضاء أخرى. وهناك عدد من الأمثلة لم تستطع الجامعة إزاءها تسوية النزاعات، ما أدى إلى تدخل قوات أجنبية مثلما حدث في حرب الخليج الثانية.

أما المؤثرات الخارجية في الجامعة العربية فأدت إلى نتيجة مباشرة عكست عجز الجامعة. ومع ازدياد تدخلات دول الإقليم في الشأن الداخلي لبعض الدول العربية وطموحاتها التوسعية، كان بالإمكان أن تُحسن الجامعة استثمار تلك الأوضاع لإبراز وجودها كتنظيم يحمي الدول العربية. ولكن حصل العكس، فضاعف ذلك من أعباء مجلس الجامعة التي لم تجد في ميثاقها ما يؤهلها إلى التعامل مع هذه التدخلات، وأصبحت الدول العربية مُحاطة بحزامٍ إقليمي مكوَّن من إسرائيل وإيران وتركيا. وأدى ذلك إلى وقوف الجامعة حائرة بين الدول العربية والنظام الشرق أوسطي.

المزيد من تحلیل