Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السرية المصرفية في لبنان حماية للمودعين أم تغطية للفساد؟

تشكيكات تطال تعديلات طرأت على القوانين المالية وحرمان القضاء العادي من الخوض في قضاياها

مبنى فرع المصرف المركزي في طرابلس عاصمة محافظة لبنان الشمالي (اندبندنت عربية)

في عام 1956، خطا لبنان خطوة جديدة نحو تحقيق توقع ميشال شيحا بأن يصبح "الجبل الملجأ"، وانتقل من مرحلة كونه مأوى الأقليات في الشرق، إلى لعب دور المصرف الحامي لودائعهم. وجاء إقرار قانون "السرية المصرفية" ليكرّس دور لبنان كنموذج اقتصادي ليبرالي حر في محيط تقطنه بلدان لا تؤمن بالمبادرة الفردية، وتعتمد النموذج الاشتراكي.

فرصة جذب

أكسب قانون السرية المصرفية لبنان فرصةً لجذب الكثير من الأموال العربية والأجنبية، وكان سبباً في ذيوع شهرته على أنه "سويسرا الشرق"، وفي ذلك دلالة إلى اعتماده النموذج المصرفي السويسري. ولعب بنجاح دور الوسيط بين الشرق والغرب، وشكّل منصةً لرجال المال والأعمال العرب للتعامل مع بلدان ما وراء البحر. فكان نظام "السرية المصرفية" أكثر من مجرد تشريع أقرّه البرلمان اللبناني في عهد الرئيس الإصلاحي فؤاد شهاب، وإنما اختصر دوراً استثنائياً لعبه هذا البلد. بعد مرور حوالى سبعة عقود، يتمسك لبنان بنموذج السرية المصرفية الأكثر تشدداً، مقارنةً بالأنظمة المصرفية العالمية. ولم يدخل تعديلات على غرار سويسرا واللوكسمبورغ التي أقرّت ضرورة التحقق من المودعين لديها، وذلك بالتمييز بين صاحب الحق القانوني وصاحب الحق الاقتصادي بالوديعة المصرفية لمنع إيداع أموال ملوثة أو مهربة.
 

السرية المصرفية حاجة وضرورة

تعتبر "السرية المصرفية" ركناً أساسياً من أركان العمليات المصرفية، ويتمتع حوالى 1,715,283 حساب مصرفي لبناني بهذه الحماية، إذ يُمنع الكشف عن عملياتهم المصرفية وحركة أموالهم إلا لأسباب استثنائية. كما يعود هذا النظام بالمنفعة على الاقتصادات الوطنية، فساهم في جذب رؤوس الأموال الأجنبية وعائدات "الذهب الأسود" (النفط) إلى لبنان.
يُعتبر قانون السرية المصرفية الذي أُقر في سبتمبر (أيلول) 1956 أحد أهم الأدوات التي ساهمت في نمو دور القطاع المصرفي اللبناني، فهو إلى جانب "سر المهنة"، أي الكتمان المصرفي الذي يلتزم به المصرف، جاء ليجرّم أي خرق للثقة وكشف خصوصية المودع وأسراره المالية.
وقال أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية، الدكتور أيمن عمر إن "حجم الودائع المصرفية في لبنان ارتفع بمقدار 392 مرة في الفترة بين عامي1975  و1990 تاريخ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية". وتحدث عمر عن "قفزات كبيرة شهدها النظام المصرفي اللبناني، إذ نما بشكل كبير، وزادت موجودات المصارف التجارية من حوالى 68,5 مليار دولار في نهاية عام 2005 إلى حوالى 166,5 مليار دولار بنهاية الفصل الأول من عام 2014".
ولا تقتصر هذه الودائع على المقيمين، وإنما حظي غير المقيمين بحوالى 20 في المئة من نسبة الودائع بنهاية الفصل الأول من عام 2014. وتغذي هذه الودائع النظام المصرفي اللبناني، وقد يؤدي أي مسّ محتمل بها إلى المساس بمدخرات اللبنانيين والمغتربين.

ولاحظ عمر أنه "في عام 2017، حصل ارتفاع ملحوظ بنسبة 4,5 في المئة في ودائع الزبائن، لتبلغ مستوىً قياسياً عند 182,9 مليار. وفي عام 2019 وصل حجم موجودات وأصول النظام المصرفي إلى حدود 250 مليار دولار، وبلغت نسبة الودائع حوالى 83 في المئة من الموجودات. إنما الدولة اللبنانية لم تستفد من هذا الفائض المالي في عمليات التنمية المستدامة". وأسف الأستاذ الجامعي من استعمال تلك الأموال "في تمويل القطاع العام وخزينة الدولة، وبسبب منظومة الفساد تم استغلال قانون السرية المصرفية في حالات تبييض أموال وتهرب ضريبي فتحوّل هذا القانون من نعمة للاقتصاد اللبناني إلى نقمة له وللمالية العامة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


السرية المصرفية ومكافحة تبييض الأموال

من جهة أخرى، يجد المشرّع اللبناني ورجل القانون نفسه في حيرة، فهو يلتزم الحفاظ على السرية المصرفية، بينما يُفترض به العمل على مكافحة عمليات تبييض الأموال الناتجة من نشاطات غير مشروعة كالإتجار بالمخدرات أو الأسلحة، وكذلك الاستجابة إلى العقوبات الدولية المفروضة على الحسابات العائدة لمتورطين بـ "أعمال إرهابية" أو الناجمة عن صراع المحاور في المنطقة بين الولايات المتحدة وإيران، بأبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ولم تتوقف الضغوط الدولية على لبنان لمكافحة تبييض الأموال والتهرب الضريبي، ففي عام 2001 صدر قانون مكافحة تبييض الأموال، الذي ألزم المصارف الخاضعة لقانون السرية المصرفية بمراقبة العمليات التي تجريها مع زبائنها لتلافي تورطها بعمليات يمكن أن تخفي تبييضاً للأموال.
لسنوات عدة، تمكنت المصارف اللبنانية من الحفاظ على التوازن وإبقاء نفسها ضمن النظام المصرفي الدولي، إلا أن الأزمة الأخيرة أظهرت خللاً في القطاع المصرفي اللبناني ومبدأ السرية المصرفية، وبحسب أستاذة القانون المصرفي، الدكتورة سابين الكك فإن "السرية المصرفية كانت الحصن المنيع لتجاوزات ومآرب غير مشروعة". وأضافت أن "اتّباع أساليب المعالجة القائمة على قاعدة التمسك بالسرية المصرفية على قياس السلطة السياسية اللبنانية لم يعد مقبولاً. الجرائم المالية عابرة للحدود وهي من أكبر المخاطر على الاقتصاد اللبناني المنهار".
ودفعت التطورات المتلاحقة إلى طرح إشكالية "جدوى السرية المصرفية" لأن اعتماد هذا النظام في عام 1956 كان في مرحلة "فورة مالية عربية" في موازاة ظهور النفط العربي. وتعتبر أستاذة القانون المصرفي الدكتورة سابين الكك أن "التمسك بالنموذج الحالي للسرية المصرفية يسيء إلى النظام الاقتصادي والمصرفي اللبناني، وإلى التعاطي مع صندوق النقد الدولي. لذلك لا بد من تقييد هذا النظام، والحؤول دون استخدامه لتبييض الأموال واستقبال ودائع مالية خارجية غير مشروعة، أو أن يكون ملجأً لأموال دول تحاول الالتفاف على العقوبات الأميركية لشراء السلع الأساسية".    


سرية الحسابات السياسية
في 28 مايو (أيار) الماضي، أقرّ البرلمان اللبناني قانون رفع السرية المصرفية عن المسؤولين في الدولة، وشمل "كل ما ينتج من فساد وتمويل الإرهاب وتبييض الأموال وتمويل الحملات الانتخابية". إلا أن الكك اعتبرت أن "التعديلات الأخيرة على القانون غير ذات جدوى، لأنها لم تقدم أي تغيير جذري في آليات وإجراءات رفع السرية. ففي القانون الأصلي لا يمكن رفع السرية المصرفية إلا في حال صدور إذن خطي من صاحب الشأن، أو إعلان إفلاس الزبون المودع، أو نشوء نزاع بين المصرف والزبون، وفي حال الطلب من السلطة القضائية، أو تبييض الأموال".
ولاقت خطوة تعديل قانون السرية المصرفية بعض التشكيك، إذ منح القانون "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" وهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان صلاحية تنفيذه، من دون شمول القضاء ضمن نطاق هذه الصلاحية. ويُعتبر حرمان القضاء العادي من حق طلب رفع السرية عن المسؤولين بمثابة نسف للتعديل، ذلك أن هيئة التحقيق الخاصة التي أُنشئت عام 2001 كانت تملك الحق الحصري في كشف السرية المصرفية في جريمة تبييض الأموال، وعلى الرغم من ذلك لم تُرفع السرية عن أي من السياسيين.

المزيد من اقتصاد