بعد روايات عدّة أصدرَتْها باسم مستعار هو لوسي روبنسن، أصدرت الكاتبة البريطانية العاملة في مجال إنتاج الأفلام الوثائقية روزي والش روايتها الأولى باسمها الحقيقي، بعنوان "...ثمّ اختفى" وقد صدرت حديثاً ترجمتها العربية عن دار نوفل – انطوان. وترصد فيها قصّة حبٍّ، في تحوّلاتها المختلفة، ومخاضها العسير، ومآلها الأخير. وتتوقّف عند النتائج التي تمخّضت عنها وكيفية انعكاسها على طرفي القصّة، من جهة، وعلى المحيطين بهما، من جهة ثانية. وتقول قدرة الحب على لَمّ الشمل وإصلاح ما أفسد الدهر.
بين تَسَبُّب سارة هارنغتون غير المقصود، في موت أليكس والاس، الطفلة ابنة الثانية عشرة، في حادث سير مريع، وما أحدثه من صدع بين الأسرتين، ومنحها الأسرة الأخرى حفيداً جميلاً بالاسم نفسه، وما ترتّب على ذلك من رأب الصدع، عشرون عاماً. هي الزمن الذي تدور فيه حوادث الرواية، بذكرياتها القليلة التي تعود إلى العام الأوّل، ووقائعها الكثيرة التي تعود إلى العام الأخير. وهي حوادث يتّسع المكان الروائي فيها، ويتعدّد ليشمل منطقتي غلوسترشير ولندن البريطانيتين، وولايتي لوس أنجلس وكاليفورنيا الأميركيتين. ويمتدّ الزمن الروائي فيها، ويتموضع بين العامين 1997 و2017. على أنّ بعض الأحداث مفصلي، تكون له تداعياته على مسارات الشخوص ومصائرهم.
الحدث المفصلي الأوّل في الرواية يتمظهر في حادث السير الذي تعرّضت له سارة، ذات عصر من يونيو 1997، على الطريق السريع المؤدّي إلى سابترون. وهو يتمخّض عن موت أليكس صديقة شقيقتها هانا. يؤثّر في مجرى الأحداث الأخرى. يلقي بظلّه الثقيل على العلاقة بين أسرتها المقيمة في قرية فرامبتون مانسيل، وأسرة أليكس المقيمة في قرية سابرتون من أعمال غلوسترشير. وتكون له تداعياته على كلتا الأسرتين؛ فمن جهة أولى، تتعرّض أسرة سارة للعزل الاجتماعي، وتتعرّض هي للعزل المدرسي، وتقاطعها شقيقتها طيلة تسعة عشر عاماً ونيّف، فترحل إلى لوس أنجلس لتجترح بداية أخرى لحياتها تتخفّف فيها من شعور ملازم بذنب لم تتعمّد ارتكابه. ومن جهة ثانية، تخسر أسرة أليكس طفلتها الصغيرة، يهجر الأب أسرته، تُصاب الأم بالاكتئاب، ينقطع الابن الكبير إيدي عن دراسته الجامعية، ويتفرّغ للعمل في النجارة والعناية بأمّه المريضة.
آلية دفاعية
في مواجهة هذه التداعيات، يلجأ كلٌّ من الشخوص الموجوعين إلى آلية دفاع يتخفّف بها من الوجع؛ فتقوم سارة بكتابة رسائل، لا ترسلها، إلى أختها، وتؤسّس جمعية للتخفيف عن الأطفال المرضى. ويقوم إيدي بكتابة رسائل دورية إلى شقيقته الراحلة نزولاً عند رأي مستشارة لشؤون الفقد. وتلوذ أمّه بكره سارة والحقد عليها ما يمنحها القدرة على الاستمرار.
الحدث المفصلي الثاني في الرواية يتمظهر في اللقاء الصدفة، ذات عصر، في مرج سابرتون، بين سارة وإيدي، دون أن يعرف أحدهما الآخر، بعد قرابة العشرين عاماً من الحدث الأوّل، ما يشكّل بداية علاقة بين الاثنين، تتمظهر وقائعها في: الحوار الطريف بينهما. تناول الغداء في حانة داينوي القريبة. تبادل الذكريات القديمة. الذهاب إلى بيته في غابة سيكاريدج. البقاء معاً أسبوعاً كاملاً، في وسط طبيعي جميل، ينخرطان فيه في الكلام والطعام والنزهة والسهر والجنس، ويأنس أحدهما إلى الآخر، ويجد فيه الجزء المكمّل له والضّالّة التي ينشدها. ويترتّب على هذه الوقائع وقوعهما في الحب، والتعاهد على الارتباط بعد أن يُنجز كلٌّ منهما بعض الأعمال المطلوبة منه.
الحدث المفصلي الثالث هو الأكثر تأثيراً في مجرى الأحداث، وهو الذي يشغل بتداعياته المساحة الأكبر في الرواية، مع العلم أنّه لا يحضر فيها بشكل مباشر، على غرار الحدثين الأوّلين، بل بشكل غير مباشر، من خلال النتائج التي ترتّبت عليه، والتداعيات التي تمخّضت عنه. وهي نتائج وتداعيات تتمظهر في اختفاء إيدي، وانقطاع أخباره، وعدم ردّه على اتصالات سارة، وتجاهل رسائلها الالكترونية، من جهة، وفي تردّي سارة في مهاوي القلق، وخوفها أن يكون أصابه مكروه، وانشغال بالها عليه، وغرقها في الوساوس والظنون، ومشارفتها اليأس، وعيشها حالة اكتئاب عميقة، من جهة ثانية.
في مواجهة هذه التحوّلات، كان على كلٍّ منهما أن يلوذ بأصدقائه للتخفيف عنه؛ فتلجأ سارة إلى دجو وتومي ودجيني، ويلجأ إيدي إلى صديقه آلان. وإذ يتبيّن لاحقاً، على المستوى النصّي، أن إيدي اكتشف هويّة سارة الحقيقية فور مغادرتها بيته، تأتي هذه الواقعة لتفسّر سرّ انقطاعه واختفائه وتجاهله؛ وهو، منذ اكتشافه إياها، يعيش صراعاً بين حبّه سارة وعهده لها، وبين واجب الوفاء لذكرى أخته والامتثال لرغبة أمّه الغارقة في حقدها. وينحاز لما يظنّه الواجب على حساب الحب، ويدفع ثمن ذلك من حياته، ويفقد قدرته على التحمّل، ويشارف الانهيار في نهاية المطاف. وهو، حتى بعد لقائه سارة في كاليفورنيا وسماعه روايتها وتفهّمه إياها، لا يتراجع عن موقفها، ويتفقان على عدم التواصل مجدّداً. غير أن الحدث المفصلي الرابع تكون له تحوّلاته المختلفة.
مشاعر عداء
الحدث المفصلي الرابع في الرواية يتمظهر في أنّ إيدي يكتشف، من خلال أمّه التي بقيت على تواصل مع هانا وغذّت فيها مشاعر العداء لأختها، أنّ سارة حامل بطفله، وأنّها تقيم في بيت والديها منذ أشهر، وترشده إلى تلفون آل هانتنغتون، في التفاتة تعكس عودة الأم إلى رشدها. وهنا، يكون على إيدي الذي لم يستطع نسيان سارة، وأخذ يضيق ذرعاً بأمّه ومتطلّباتها، وبات يتطلّع إلى التحرّر منها وأخذ حريته بيده، أن يهرع إلى بيت هانا ليكتشف أن سارة في مستشفى غلوستر رويال تعاني آلام المخاض، فتتحرّك فيه مشاعر الأبوّة، وتدفعه إلى قيادة سيارته بأقصى سرعة لإنقاذ ابنه، ويتفهّم حينها ما أقدمت عليه سارة في العام 1997 حين انحرفت بالسيارة يساراً لتنقذ أختها، بدافع من مشاعر الأخوّة. وفي غرفة الاستراحة، يروح يجيب تباعاً على رسائلها التي أهملها، منذ عام، معبّراً عن حبّه وندمه، متسائلاً عن إمكانية البدء من جديد. وإذ تقرأ سارة رسائله، وتعلمه بولادة طفل جميل له، ينخرط في البكاء والنشيج، وتعود العلاقة بين الحبيبين إلى مجاريها، ويطلقان على المولود اسم أليكس. وهكذا، يكون على سارة التي أخذت أليكس من أسرتها طفلةً، عن غير قصد، أن تعيدها إليهم طفلاً جميلاً، عن سابق تصوّرٍ وتصميم، بعد عشرين عاماً، فتعود العلاقة بين الأسرتين إلى سابق عهدها. وفي الحفل الذي أقامه إيدي للاحتفاء بالطفل، وحضره الأهل والأصدقاء، تفاجئ أمّه الجميع بحضورها، وتخاطب سارة بالقول: "شكراً لك لأنّك وهبتني حفيداً. شكراً سارة لأنّك منحتنا هذا الصبي الصغير" (ص 387). وعندها، تتفهّم سارة موقف الأمّ منها. على أن الفجوات بين هذه الأحداث المفصلية الأربعة يجري ردمها بالارتدادات التي أحدثتها. وهي تنفتح على أخرى ترتبط بعلاقات كلٍّ من بطلي الرواية بآخرين، في إطار الصداقة أو الزواج أو الزمالة أو الحب. وتتكامل جميعها في شبكة من العلاقات المتعدّدة الأطراف لتشكّل عالم الرواية.
وهكذا، يستطيع الحب أن يرأب الصدع، ويبلسم الجرح، ويعيد المياه إلى مجاريها. وهو، في الرواية، لا يقتصرعلى العلاقة بين الحبيبين، بل يتعدّى ذلك إلى الحب، بمعناه الواسع وتمظهراته المتنوّعة، في علاقات الأبوّة والأخوّة والبنوّة والأمومة والصداقة... التي تزخر بها الرواية، ويكون لكلٍّ منها دوره في لمّ الشمل وإصلاح ما أفسد الدهر.
تضع روزي والش روايتها في ثلاثة أجزاء وواحدٍ وخمسين فصلاً، بوتيرة ثمانيةٍ وعشرين فصلاً للجزء الأول، أحد عشر فصلاً للثاني، واثني عشر فصلاً للثالث. وبذلك، تتفاوت الأجزاء في الحجم، فينوف الأوّل منها على نصف الرواية، ويقارب كلٌّ من الفصلين الثاني والثالث ربعها. ويشمل التفاوت حجم الفصول الذي يتراوح بين ستة أسطر للفصل الواحد في الحدّ الأدنى كما نرى في الفصل الثامن والعشرين، وثمانٍ وعشرين صفحة في الحدّ الأقصى كما نرى في الفصل الثامن والثلاثين. ويتّخذ معيارالتفاوت شكلاً خارجياًّ حين يتعلّق بأحجام الأجزاء والفصول، لكنّه يتّخذ شكلاً داخلياً حين يتعلّق بتقنيات التعبير، فتستخدم الكاتبة تقنية السرد العادية في ثلاثة وثلاثين فصلاً، وتقنية الرسالة في سبع عشرة فصلاً، وتقنية الخبر الصحافي في فصلٍ واحد. مع الإشارة إلى أنّها نادراً ما تجمع بين تقنيتين اثنتين في فصل واحد. وهي تعهد بعملية الروي إلى بطلي الرواية، بعدد ستّة وثلاثين فصلاً لسارة تصوغ عشرة منها بتقنية الرسالة، وخمسة عشر فصلاً لإيدي تصوغ سبعةً منها بهذه التقنية. هذه المعطيات الإحصائية تدفعنا إلى الاستنتاج أنّنا إزاء خطاب روائيٍّ مركّب، يتعدّد فيه الرواة، وتتنوّع أنماط الكلام وتقنيات التعبير، وتتفاوت المساحات والأحجام. ويتّسم، في الوقت نفسه، بالتماسك والوحدة العضوية، لا سيّما أن الفصول المصوغة بتقنية الرسالة تتكامل مع الأخرى في تشكيل عالم الرواية، وإنْ وردت بشكل مستقل في هذا العالم.