Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كورونا يجتاح عصر العولمة الاقتصادية والمعرفية

بيل غيتس أعلن مسبقا ان الخطر وبائي لا نووي وادغار موران حذر من الطمأنينة الخادعة

كورونا يغزو الكرة الأرضية (من الإنترنت)

أزمة جائحة كورونا تحمل العالم على مساءلة طرق عيشه، ووقعها القوي يحمل على إدراك مدى ترابط البشرية جمعاء على الرغم من تباين أحوالها الاجتماعية و"الجغرافية" والحضارية. فكورونا بلغ قبائل تعيش في عزلة في الأمازون ومعروف أن احتكاكها بالعالم المعاصر ضئيل ما خلا بعض المقاولين الجشعين الذين يقضمون فسحة عيشها والغابات هناك.

"انتظر ما هو غير منتظر" هو لواء يرفعه إدغار موران، عالم الاجتماعيات والفيليسوف الفرنسي. فهو مولود من أم نجت من الإنفلوانزا الإسبانية وحذرها الأطباء من الانجاب بعد أن خلف المرض ندوباً في قلبها، وكان بقاؤه على قيد الحياة غير متوقع. فهو ولد "ميتاً" لولا مواصلة الطبيب إنعاشه طوال نصف ساعة. ولذا، يتمسك بالحياة وتحديداً في الأزمات.

لكن على الرغم من التزامه هذا المبدأ لم يتوقع أن يجلو غير المتوقع على شاكلة فيروس. وهو كان من القلة التي توقعت أن تكر سبحة كوارث جراء انفلات عقال العولمة الاقتصادية والتكنولوجية وتدهور أحوال البيئة وانفراط عقد المجتمعات. لكنه يعتبر أن الشخص الذي تنبأ بهذه الكارثة هو بيل غايتس في مؤتمر عقد في أبريل (نيسان) 2012 حين أعلن أن ما يتهدد البشرية اليوم ليس نووياً بل صحي. فهو لم يخف أن وباء إيبولا يقرع ناقوس خطر عالمي ينذر بفيروس معد إلى حد كبير وبالغ الانتشار. وعرض غيتس سبل الوقاية، ودعا إلى تجهيز المستشفيات بالمعدات المناسبة. ولكن على الرغم من هذا التحذير، لم تبادر الحكومات، سواء الإدارات الأميركية في الولايات المتحدة أوغيرها من الدول، إلى الإعداد للوقاية من وباء كان يلوح في الافق. ودعا إلى مقاربة "معولمة" في مكافحة كورونا.

 

واليوم، صار غيتس مدار تحذيرات ومخاوف "على الخط" (أونلاين) والعالم الافتراضي (الواتساب وتويتر...) إثر دعوته إلى تطوير لقاح في مواجهة فيروس كورونا. وصار غيتس مدار سيل من شائعات ومؤامرات تارة، تزعم أنه "والد" الفيروس، وتارة أخرى تؤكد أنه يريد فرض اللقاح على الناس أو "إخضاع الناس للتلقيح" وزرع "رقاقات" في أجسادهم بذريعة مكافحة كورونا. وربما ليس مستهجناً تنصيب غيتس بمثابة شيطان هذه الأزمة، فهو أيقونة العولمة والعالم المتشابك والمترابط، وهو مؤسس "مايكروسوفت"، أي عراب الكمبيوتر إذا جاز القول. ومنظمته الإغاثية التي تحمل اسم زوجته، ميلندا غيتس، تقارع الدول في تقديمها الرعاية الصحية والتعليمية لأبناء العالم الثالث لا بل هو في صدارة ممولي منظمة الصحة العالمية وكان إلى وقت قريب (في 14 أبريل/نيسان علق دونالد ترمب تمويل بلاده للمنظمة هذه) يحل في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في تمويل هذه المؤسسة الدولية. فهو فرد "دولي" ومعولم أو أممي إذا جاز القول، وهو صاحب السياسات "الإغاثية الأحادية"، على قول حفيد جون كينيدي، روبرت كينيدي جونيور، ممول وثائقي عن اللقاحات "المؤذية". وغيتس هو أكثر من دولة وعابر للأمم، إنه الغريب بامتياز.

وغالباً ما تستند نظريات المؤامرة إلى حوادث فعلية قبل أن تُنسج حولها تفاصيل من بنات الخيال، على ما نبه إدغار موران في كتابه "شائعة أورليان" الصادر في 1969. فعلى سبيل المثل، حين نُسجت مؤامرة زرع رقاقة في أجساد الناس  استندت إلى خبرعن مشروع إعداد "بطاقة صحية رقمية" رعته مؤسسة غيتس يرمي إلى زرع رقاقة مصغرة تحتوي على بيانات التلقيح الفردية لمتابعة أحوال البؤساء الصحية في أكثر الدول فقراً، بنغلادش أو مالاوي على سبيل المثل. وهذا مشروع لم يبصر النور بعد.

والشائعات حول بيل غيتس تسري على الانترنت ويرفع لواءها الملايين في عالم انتقالي ضعفت فيه دالة الخبراء و"الآباء"، وهو عالم اللحظة الآنية والنسيان، نسيان هشاشة الحياة الإنسانية أمام الجراثيم والفيروسات. وربما غيتس هو كبش المحرقة في هذه الجائحة، أو المذنب الرجيم. ولكن هل يساهم تعيين المذنب المفترض في حل الأزمة والقضاء على الفيروس؟

الاقتصاد السائل

اللهاث وراء المكاسب والأرباح والريوع من جهة وطرق تفكيرنا من جهة أخرى، مسؤولان عن كوارث بشرية نجمت عن فيروس كوفيد-19. ففي كثير من البلدان، ومنها فرنسا، حلت استراتيجية اقتصادية ركنها سيل السلع (تصفير المخزون والاعتماد على السلع الجاهزة و"السائلة" في سوق معولمة) محل استراتيجية تخزين المؤن والمعدات الطبية. لذا، افتقرت الطواقم الطبية في دول كثيرة منها فرنسا إلى عدد كاف من الأقنعة ومعدات فحص كورونا وأجهزة التنفس. وساهم تزامن مثل هذه الاستراتيجية مع العقيدة الليبرالية التي جعلت المستشفى مرفقاً تجارياً وقلصت الموارد الصحية العامة، في تفاقم منحى الوباء الكارثي.

وهذا الوباء يحمل المجهول في ثناياه وكأن "مهرجان من غياب اليقين" يلف الفيروس: فأولاً لا يُعرف على التمام مصدره أهي سوق ووهان أو المختبر القريب منها. وثانياً لا يعلم البشر بَعد ما هي الطفرات في الفيروس هذا ولا تلك التي ستصيبه أثناء انتشاره. وثالثاً نجهل متى سينحسر الوباء، وإذا ما كان الفيروس سيبقى "وبائياً" (يتفشى وبائياً). ولا نعرف مترتبات قيود الحجر السياسية والاقتصادية والوطنية في شتى أنحاء المعمورة. ونغفل كذلك كم يدوم الحجر أو العزل وما يترتب عليه من قيود ومحظورات وتقنين. وكذلك يخفانا ما إذا كان القادم أسوأ بعد، أو أفضل أو مزيجاً من الاثنين. فالعالم يتوجه نحو مجهول وغياب اليقين.

والاستعانة بالعلوم في مواجهة وباء مشروع. ويلاحظ موران أن الفرنسيين على سبيل المثل، وجدوا، في وقت أول، طمأنينة في إعلان البروفيسور ديدييه راوول أن ثمة دواء لكورونا، ولكنهم سرعان ما أدركوا تباين الآراء حول العلاج هذا، ولاحظوا أن ثمة روابط مصالح تربط بين علماء وقطاع صناعة الدواء النافذ في الأوساط السياسية والقادر على الحط من شأن كل مخالف في الرأي والعلاج. وما حصل مع البروفيسور مونتانييه، وهو أحد مكتشفي فيروس السيدا، مناسبة للتذكير بأن العلم لا يملك حقائق مطلقة على خلاف الأديان، فنظرياته "قابلة للتحلل عضوياً على وقع اكتشافات جديدة"، على قول موران. المغردون خارج السرب الأكاديمي من باستور إلى آينشتاين مروراً بداروين وكريك وواتسون، مكتشفا البنية اللولبية للحمض الريبي، هم وراء تقدم العلم ودوران عجلته.

وأمام فيروس مجهري صغير في مدينة مغمورة في الصين قلب أحوال العالم رأساً على عقب، سكان المعمورة، أثرياء وفقراء، عُزل، وشطر منهم يملك ترف البقاء في المنزل في انتظار انحساره، بينما شطر آخر في العراء في مواجهة الفيروس وغيره من الكوارث.

المزيد من ثقافة