اتجهت الأنظار في سوريا إلى التدهور السريع في الوضعين المالي والاقتصادي، بعدما طفت على السطح مجريات الصراع الدائر بين الرئيس بشار الأسد وبين ابن خاله رجل الأعمال رامي مخلوف على السلطة والمال، في ظل توجه لدى آل الأسد نحو كسب الأموال من أغنياء الحرب لمحاولة تأمين بعض العملة الصعبة منهم، من أجل تسيير شؤون مؤسسات في الدولة بلغت حد العجز عن دفع رواتب جزء من هذه المؤسسات.
ويربط بعض المتابعين لتفاصيل الوضع السوري بين تأثير العقوبات الأميركية على اقتصاد سوريا، وبين الحملة التي يشنها ثلاثي بشار وزوجته أسماء وشقيقه ماهر، على عدد من رجال الأعمال السوريين الذين أثروا نتيجة التسهيلات التي نالوها من الرئاسة السورية وبطانتها خلال السنوات الماضية، للحصول على أموال منهم من أجل سد العجز، وبين سوء الأداء والإدارة من قبل الأسد في التعاطي مع الأزمة السورية سياسياً وإصراره على الحل العسكري.
كما أن خصومة بشار ورامي التي ظهرت إلى العلن قبل شهر عبر الفيديوهات الثلاثة التي بثها الثاني، دخلت عنصراً في لعبة التنافس والصراع على النفوذ الخارجي على المسرح السوري، سواء بين إيران وروسيا أو بين موسكو وقيادة الأسد.
تظاهرات السويداء ودرعا وعودة هتاف "ارحل"
وشهدت مناطق سورية عدة في الأيام الماضية، لا سيما الأحد السابع من يونيو (حزيران) تظاهرات متفرقة، احتجاجاً على انهيار سعر العملة السورية وغلاء الأسعار وشح مواد أساسية مثل المحروقات والطحين، على الرغم من أن الحاجة إلى المازوت للتدفئة تراجعت بانتهاء فصل الشتاء. وقفز سعر صرف الدولار الأميركي إلى حوالى 3700 ليرة سورية، بعدما كان ارتفاعه وصل في مطلع شهر أبريل (نيسان) إلى سقف 1450 – 1500 ليرة سورية، ما يشكل زيادة غير مسبوقة انعكست على رواتب موظفي القطاعين العام والخاص في المؤسسات العاملة في مناطق النظام، فضلاً عن المناطق غير الخاضعة لسيطرته.
وضجت وسائل التواصل الاجتماعي مساء الأحد بفيديوهات عن تظاهرات في مدينة السويداء وبعض قرى المحافظة، هتفت ضد الأسد فعاد هتاف "يلا ارحل يا بشار"، الذي انطلق بعد بدء الثورة السورية عام 2011 ليصدح بين المتظاهرين المحتجين. كذلك ترددت هتافات من نوع "الشعب يريد إسقاط النظام" و"يا بثينة يا شعبان يلا يلا ع إيران" و"خيرات بلادي أين"، وأفادت تقارير إعلامية بأن الهتافات تناولت إيران وروسيا للمطالبة بانسحابهما كدولتين داعمتين للنظام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشارت معلومات سوريين مقيمين في الخارج، إلى أن محافظة درعا شهدت بدورها تظاهرات احتجاجية يوم الأحد، بينما أخذ مناصرو النظام احتياطات أمنية باستنفار الميليشيات الموالية له في مدينة طرطوس، بعد تردد إشاعات عن إمكان حصول تظاهرات فيها احتجاجاً على الوضع المعيشي السيّء. وطرطوس مدينة يغلب عليها الوجود العلوي، في شكل يثير أي تحرك فيها حفيظة النظام وتوجسه من أن ينتقل الاعتراض عليه إلى البيئة العلوية.
امتصاص النقمة بإجازة الحملة على الحكومة
وأشارت معطيات من الداخل السوري إلى أن أجهزة الاستخبارات والسلطة السورية، أدركت أنه يصعب السيطرة على الاحتجاجات بالقمع في بعض المناطق، مع التدهور الدراماتيكي للأوضاع المعيشية، وأنها لم تمانع في هجوم فئات اجتماعية ونواب في مجلس الشعب على الحكومة التي يرأسها عماد خميس، لامتصاص النقمة الشعبية، وسط تكهنات بأن يلجأ النظام بعد الحملة على الحكومة لتغييرها.
وتبين أنه مع غلاء الأسعار المطرد لا سيما في مطلع الشهر الحالي نتيجة الارتفاع التدريجي لسعر صرف الدولار، حصل ما يجري في لبنان مع تدهور سعر الصرف نتيجة الأزمة المالية الاقتصادية فيه، أي أن تجار المفرّق وكذلك تجار الجملة أخذوا يخفون مواد وسلعاً نتيجة الخشية من أن يرتفع سعر شرائها بنسبة أكثر من السعر التي باعوها فيه إلى المواطنين، عند نفادها لديهم، بفعل الزيادة غير المنتظرة لسعر الدولار الأميركي. كما أن بعض المتاجر الصغيرة يلجأ إلى الإقفال ولو الجزئي خشية المساءلة بسبب ارتفاع الأسعار.
البوابة اللبنانية لم تعد مفيدة؟
وبمناسبة الحديث عن التشابه مع أزمة لبنان المعيشية، فإن المراقبين السوريين يعتبرون أنه مع اختلاف أوضاع البلدين لا سيما من زاوية استمرار بعض الانفتاح اللبناني على العالم، قياساً إلى الحصار الشديد على سوريا، فإن إقفال الكثير من مجالات التحرك المالي والاقتصادي من البوابة اللبنانية نتيجة شح الدولار في السوق اللبنانية، قد انعكس سلباً بنسبة أضعاف على الوضع السوري، بعد أن كان النظام يستفيد من علاقاته مع حلفائه اللبنانيين، من أجل الالتفاف على العقوبات ولتأمين العملة الصعبة من السوق اللبنانية بشتى الوسائل والحيل. ولا ينفصل تصاعد العقوبات على إيران عن التأزم الاقتصادي السوري، إذ إن المساعدات الإيرانية المباشرة للنظام تراجعت بنسبة عالية، وشحت الأموال والبضائع التي كانت طهران تساعد في تأمينها لدمشق عبر خطوط الائتمان، التي كانت فتحتها منذ سنوات (منذ عام 2013) للاستيراد لمصلحة السوق السورية. فهي جُمدت العام الماضي.
"حزب الله" يهرّب من سوريا إلى العراق
كما أن حاجة "حزب الله" في لبنان إلى الأموال بعد تراجع تدفقها من إيران نتيجة العقوبات عليها، لا سيما قطاعها النفطي منذ أواخر 2018، دفعته إلى توسيع عملياته التجارية بين سوريا والعراق. ويقول مراقبون سوريون إن الحزب قام في الفترة الأخيرة بجمع قسم من الإنتاج السوري الزراعي من الخضار والفواكه لنقلها إلى العراق وبيعها هناك، من أجل الحصول بدوره على العملة الصعبة. وتسبب ذلك بانزعاج حتى من الاتجاه الأقرب للحزب في التركيبة الحاكمة في سوريا، ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري الذي يقود الفرقة الرابعة المصنفة قريبة إلى طهران، خصوصاً أن هذا ساهم في ارتفاع أسعار هذه السلع الغذائية.
ولا يغفل المراقبون السوريون الذين يرصدون عوامل التدهور الاقتصادي الحالي، الإشارة إلى بدء مفاعيل تطبيق قانون "قيصر" ضد التعامل مع النظام ورجالاته ومؤسساته، والذي أدى إلى تراجع استثمارات شركات عدة وأفراد، سواء كانوا من السوريين أو من غير السوريين الذين تنبه بعضهم إلى الخسائر المحتملة في حال طالتهم العقوبات، ما انعكس انحداراً في الحركة الاقتصادية المتباطئة أصلاً.
الملاحظات الأميركية
ويكشف تقرير حصلت عليه "اندبندنت عربية" عن اجتماع عقد في اليومين الماضيين عبر الفيديو كونفرنس، بين بعض قادة المعارضة السورية من جهة والمبعوث الأميركي للتحالف الدولي لمحاربة "داعش" في سوريا والعراق، والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا مساعد نائب وزير الخارجية جويل رايبورن من جهة ثانية. وأكد الجانب الأميركي أن انهيار الليرة السورية يعود إلى العقوبات وإلى تبديد الأسد الأموال بالعملة الصعبة التي لديه، فضلاً عن حصره المحروقات التي كانت تتوافر بالفرقة الرابعة والقوات الموالية له وبالفيلق الخامس، وكان يحرم الشعب السوري منها ليبيعها مناصروه بأسعار مرتفعة من أجل الانتفاع. كما أشار المبعوثان إلى الأموال التي تكبدتها الخزينة السورية في الأشهر الماضية بسبب إصرار الأسد على فتح معركة إدلب العسكرية. ولاحظ المبعوثان الأميركيان أن انهيار العملة السورية دليل إلى أن الرئيس السوري لم يتلقَ دعماً مالياً روسياً في الآونة الأخيرة.
وأوضح الجانب الأميركي أن الاستثمار في قطاعي الطاقة والبناء في مناطق سيطرة النظام سيخضع للعقوبات، وفق قانون "قيصر" بينما لن يتم التعرض لهذين القطاعين في مناطق الحكم الذاتي (شمال شرقي سوريا).
بشار ورامي وانعدام ثقة أغنياء الحرب
وفي وقت كان نظام الأسد يعتمد على استثمارات المحظيين الذين كانوا يحصلون على امتيازات لبناء أعمال وشركات، فإن أغنياء الحرب هؤلاء تراجع نشاطهم الذي كان يوظف بضع عشرات الآلاف من السوريين في القطاع الخاص، بعد الحملة التي قام بها ضد ثراء بعضهم للحصول على العملة الصعبة منهم، وازداد ترددهم في توسيع نشاطهم، لا سيما بعد خلاف الرئيس السوري مع ابن خاله بهدف الاستيلاء على شركة "سيريتل" للهاتف الخلوي، التي كان اشترى أسهم الدولة فيها قبل سنوات. وفضّل هؤلاء الاحتفاظ بأموالهم إما في المصارف اللبنانية أو في غيرها خارج سوريا، وانتقل بعضهم للإقامة في الخليج أو في بعض دول أوروبا الشرقية، حيث ازدهرت أعمال من سبقهم إليها. ولسان حال هؤلاء أنه إذا كانت الخصومة بلغت وضع حارس قضائي على شركة مخلوف ومطالبته بالتخلي عن ملكيتها، وتجميد أملاكه وسائر عائلته ومنعه من السفر، وهو ابن خال الرئيس، فماذا يكون مصير غيره ولماذا يخاطرون؟
وإزاء اتهام رامي مخلوف بأنه سرق أموال الدولة السورية يسأل هؤلاء: لماذا اكتشف الأسد فجأة أن ابن خاله سرق أموال الخزينة في وقت كان يحظى بدعمه وتغطيته الكاملة في السنوات السابقة، إلى حد أنه كان شريكه تقريباً في كل شيء، وأجاز له تشكيل جمعية "البستان" التي طمح لاحقاً أن يكون لها جناح عسكري ساند قوات النظام؟
وأدى الصدام مع مخلوف إلى مفعول عكسي مقارنة مع الاعتقاد لدى محيط بشار بإمكانية الإتيان بغير أغنياء الحرب الحاليين ليحلوا مكانهم، لأن الأمر خلق خوفاً من خوض المغامرة لئلا يحصل مع أي مستثمر جديد الشيء نفسه. وهذا يعني أن الثقة فقدت بين النظام وهؤلاء.
حماية روسية لمخلوف؟
وتتحدث معلومات واردة من دمشق أدلى بها أكثر من مصدر لـ"اندبندنت عربية"، عن أن رامي مخلوف حظي في الأسابيع القليلة الماضية على حماية مسلحة روسية أمام منزله في ضاحية دمشق، نتيجة علاقاته مع عدد من رموز الأوليغارشية الروسية. وفي وقت يقول أحد المصادر إن هذه الحماية ليست من الجيش الروسي بل هي من شركة أو شركات أمنية روسية خاصة، ذكر مصدر آخر أنها حتى لو كانت كذلك فإن أغنياء الروس الذين لمخلوف علاقة مصالح واستثمارات معهم، لا يمكن أن يتصرفوا من دون "إذن" ما من القيادة الروسية، التي تأمل بالحصول على بعض الأموال من الدولة السورية نتيجة تراكم الديون التي تستحق لمصلحة موسكو على دمشق، ولربما تمكنت من الحصول من مخلوف نفسه على بعض هذه الأموال.
وكانت موسكو وقفت عند بداية الصراع بين بشار ورامي على الحياد، لا سيما أنها كانت وراء نصح بشار بإلغاء الميليشيات التي تشكلت خلال الحرب ومنها ميليشيات مخلوف، لحرصها على إعادة الاعتبار للجيش السوري.