Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تودوروف: إدوارد سعيد لم يتعمق في فهم المواجهة بين الشرق والغرب

يعترف في كتابه "بصمة الإنسان" بصداقته مع صاحب "الإستشراق" ويحدد نقاط التوافق والاختلاف بينهما

المفكر الفرنسي البلغاري الأصل تودورف (موقع الكاتب)

يقدم الفيلسوف الفرنسي، البلغاري الأصل، تزفيتان تودوروف (1939- 2017) في كتابه "بصمة الإنسان"، عدداً من "الوجوه"؛ التي "لا يجمعني بها في حقيقة الأمر أي شيء سوى الاعتراف بالجميل الذي أشعر به تجاههم، بطريقة لرسم صورتي الذاتية، على غرار البورتريه الصيني... ليس بمعنى البلد، وإنما كطريقة للكشف عن مظهر الشخصية ورأيي فيها"، على حد قوله.

الكتاب صدر حديثاً بترجمة نجلاء أبو النضر، ضمن سلسلة "آفاق عالمية"/ الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة، وأهم هذه "الوجوه" التي يتضمنها، بالنسبة إلى القارئ العربي على الأقل، هو إدوارد سعيد.

يقول تودوروف عن علاقته بسعيد: "كانت تجمعنا صداقة قوية على الرغم من أننا لم نكن نلتقي بانتظام. كنتُ أشعر بقربي من أفكاره حول تنوع الثقافات وتأثيرات المنفى، كما كنتُ معجباً به كمواطِن شجاع". ويضيف: "يعد إدوارد سعيد (1935- 2003) واحداً من أشهر المثقفين في العالم وأكثرهم تأثيراً، في الفترة من نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. اشتغل في بداياته بالنقد الأدبي متأثراً بجورج لوكاتش وإريك أويرباخ، وترجع شهرته إلى أعماله التي تناول فيها الهويات الثقافية ولقاء الثقافات والقوميات والنزعات الاستعمارية. كما كان أيضاً من أكثر الأصوات التي تدعم القضية الفلسطينية، فضلاً عن أنه كان حريصاً عند دفاعه عن الفلسطينيين أن يأخذ في الاعتبار عذابات اليهود منذ الاضطهاد وحتى الإبادة الجماعية! الأمر الذي أكسب دفاعه قيمة وقوة. وفي الوقت نفسه كان لدى سعيد ولعٌ شديد بالموسيقى والعزف حتى إنه كان يعرب عن انتمائه في آن واحد إلى كلٍ من الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو وعازف البيانو الكندي غلين غولد. كان يعمل على نحو متواصل من دون كلل. كما كان لديه فضول للمعرفة ونهم لا يشبع تجاهها. تبدو حياته وكأنه لم يعرف فيها وقتاً للراحة".

تودوروف، المولود في صوفيا، عاش في فرنسا منذ 1963، وكتب عن النظرية الأدبية، تاريخ الفكر، ونظرية الثقافة، ونشر21 كتاباً، منها "شعرية النثر"، "مقدمة الشاعرية"، "غزو أميركا"، "ميخائيل باختين: مبدأ الحوارية"، "مواجهة المتطرف: الحياة الأخلاقية في معسكرات الاعتقال"، "حول التنوع الإنساني"، "الأمل والذاكرة"، "الحديقة المنقوصة: تِركة الإنسانية"، "مدخل إلى الأدب العجائبي"، "الأدب في خطر"، "أعداء الديموقراطية الحميمون"، و"الخوف من البرابرة: ما وراء صراع الحضارات". وقد ركّزت اهتمامات تودوروف التاريخية حول قضايا حاسمة مثل غزو الأميركتين ومعسكرات الاعتقال النازية والستالينية، وعمل أستاذاً زائراً في جامعات عدة، منها جامعة هارفارد، وييل وكولومبيا وجامعة كاليفورنيا، بيركلي.

 

 

وفي مقدمته للكتاب يتحدث تودوروف كذلك عن رومان ياكوبسون (1896- 1982)؛ عالم اللغة والمؤرخ الروسي، "الذي يعد الرمز الحي للبنيوية والذي حاول أن يمد الجسور بين الشرق والغرب، مثلما بين علماء اللغة والشعراء، وعن ميخائيل باختين (1895- 1975): "وما دفعني إلى الاهتمام به هو فكره، وخصوصاً طريقته في إلقاء الضوء على العلاقات المتبادلة بين الناس، والتي ساعدتني في وضع شكل هواجسي وأحاسيسي الداخلية الخاصة". (الكتاب صـ5). ويتحدث  أيضاً عن ريمون آرون (1905- 1983): "ما لفت انتباهي إليه أولاً هو تحليله الثاقب للشمولية وتأثيراتها السيئة في المثقفين"، وأخيراً جيرمين تيليون: "التي تعرفت عليها متأخراً بعد قراءاتي كتبها في العام الأخير قبل وفاتها في العام 2008 عن عمر 101... إنني معجب بها لشجاعتها وجرأتها فقد قامت وهي امرأة بالعيش وحدها سنوات عديدة في جبال الجزائر لكي تقوم ببحث في علم الأجناس، ثم انضمت إلى المقاومة فور عودتها إلى باريس في عام 1940".   

30 عاماً

يقول تودوروف في القسم الأول من الكتاب: "من الصعب عليَّ الحديث عن أعمال إدوارد سعيد باعتبارها موضوعات للدراسة ضمن موضوعات أخرى، فقد كانت تجمعني به صداقة قوية استمرت حوالى ثلاثين عاماً. لقد قابلته عام 1974 في جامعة كولومبيا في نيويورك حيث كنت ألقي فيها محاضرة كل ثلاث سنوات وذلك في قسم الأدب المقارن الذي كان سعيد يقوم بالتدريس فيه، لكننا لم نصبح أصدقاء إلا في عام 1977. كانت تجمعنا سمات مشتركة ساعدت في التقريب بيننا. ولد سعيد عام 1935 أي أنه كان يكبرني بأربع سنوات، وهو فارق ليس له أثر كبير قياساً بأعمارنا. كان قد نشر كتابه الأول عام 1966 كدراسة عن كونراد مأخوذة من رسالته في عام 1966 كذلك كان كتابي الأول مأخوذاً عن رسالتي وقد ظهر عام 1967".

ويضيف: "كان سعيد مهتماً بالمجادلات النظرية كما كنا نسميها حينئذ، وشارك فيها بكتابه الثاني الذي كان عنوانه "البدايات" الصادر عام 1974 وقد التزم فيه ببعض آراء النقاد والفلاسفة الفرنسيين، كما كنتُ أنا أيضاً مهتماً بتجديد الدراسات الأدبية، لذلك كانت هناك لغة مشتركة بيننا. كانت هناك سمة مشتركة أخرى أكثر أهمية بكثير، تتعلق بتاريخ حياتنا، لقد كنا نحن الاثنين مهاجرين، هو أقام في الولايات المتحدة وأنا في فرنسا. وكلانا من دول تقع على هامش الغرب، هو أتى من فلسطين ومصر وأنا من بلغاريا. دول يفرّق بينها الكثير من الملامح، لكننا نجد فيها الإحساس ذاته بالتقارب والنقص تجاه أوروبا الغربية أو أميركا الشمالية، إحساس قد يولِّد خليطاً من الحسد والغيظ. كما تشترك بلادنا في أنها كانت خاضعة في الماضي للإمبراطورية العثمانية. لم يطبّق الأتراك الانصهار الإجباري على الدول التي كانت تابعة لهم، لكن هناك بعض أساليب الحياة نجدها مشتركة بين كل دول الإمبراطورية فقد اكتشفنا باستغراب تشابه تقاليدنا المطبخية، الخيار بالزبادي، الباذنجان، كُرات اللحم. كما أنني اكتشفت بعد ذلك بوقت كبير عندما قرأتُ سيرته الذاتية أن هناك نقطة التقاء أخرى؛ الوصاية العثمانية. ففي عام 1912 تم إعلان حرب البلقان الأولى ضد الأتراك وكانت بلغاريا قد تحررت منذ 35 عاماً من الوصاية العثمانية. كان على والد سعيد المقيم في فلسطين والتي كانت لا تزال تحت الاحتلال التركي! أن يقاتل مع الأتراك ضد البلغار وهو ما رفضه ودفعه إلى مغادرة البلاد لينتهي به المطاف في أميركا، وهي البلد التي حصل على جنسيتها، مما كان له أكبر الأثر بعد أربعين عاماً في تشكيل مسار ابنه. إذن الإمبراطورية العثمانية ومعارضتها شكَّلتا جزءاً من التراث المشترك لكل منا".

 

 

ويرى تودوروف في هذا السياق أن شخصية المهاجر تتميّز بالتعددية أكثر من سكان البلاد الأصليين؛ "لأنهم يعايشون الانقطاع بين ما قبل وما بعد، لكن كلّ واحدٍ يعيش هذه التعددية بطريقته. وشخصية سعيد كانت بصفة خاصة أكثر تعقيداً. كان قد حمَل تلك الآثار حتى في اسمه فنصفه إنجليزي (إدوارد) ونصفه عربي (سعيد) وكان منحدراً من بلد لم يعد موجوداً! مهاجراً إلى مصر، تعلَّم في مدارس للغة الإنجليزية مخصّصة للصفوة في البلد ولكن بعقلية فيها احتقار ورفض لثقافة البلد الأصلية، ثم مهاجراً مرة أخرى إلى الولايات المتحدة التي كان يحمل جواز سفرها والتي كانت جامعاتها تمثل له مثلاً أعلى في العلم والمعرفة، لكن سياساتها كانت تثير حنقه وسخطه. لم يكن سعيد يدري ما هي بالضبط لغته الأم، هل هي العربية أم الإنجليزية؟ هل هي لغة المحتلّين أم الذين أُحتلّوا؟ لقد أدرك سريعاً أن العودة أو إعادة التوطين الكامل مستحيلة. وهذه التجربة ليست حكراً على بعض الأفراد. فهي تجسّد إحدى الخواص التي تميّز العالم العصري: السرعة في الاتصال بين الثقافات، التغيّرات التي طرأت على بعض هذه الثقافات والتعددية الداخلية لكل هوية على حدة".

وبالطبع تسهل ملاحظة إعتقاد تودوروف "المريب" بأن فلسطين ليس لها وجود، فضلاً عن تعسّفه في تصور أن إدوارد سعيد كان أقرب إلى الإيمان بالأمر نفسه، خصوصاً في سنوات عمره الأخيرة، التي يصوّرها المؤرخ الفرنسي نفسه على أنها شهدت يأس سعيد من حلّ القضية الفلسطينية وإن كان ظلّ يؤمن بأن أجيالاً تالية يمكنها حمل الشعلة ومواصلة العمل لاستعادة ذلك الفردوس المفقود. 

إنسان عالمي

يستفيض تودوروف كذلك في طرح المزيد من أوجه الخلاف في الرأي بينه وبين إدوارد سعيد؛ "إذ كان ما يكتبه عن المواجهة بين الشرق والغرب غيرَ متعمّق وغامض وناتج مِن أحكام مسبقة وليس نتيجة معرفة عميقة. هو أيضاً كان يرى أن العدو الرئيسي هو الاستعمار الأوروبي أو الأميركي، أما بالنسبة إليّ فالعدو هو الشمولية والشيوعية أو النازية. كان الكُتَّاب الذين يرجع إليهم سعيد دائماً ويستأنس بهم هم لوكاتش وأويرباخ وغرامشي وأدورنو وفانون وفوكو، أما أنا فكنتُ دائماً أستعين بأمثال ميخائيل باختين ولوي دومون وكارل بوبر وريمون آرون وفاسيلي غروسمان وجيرمان تيسيون. كان سعيد دائماً يحاول أن يطرح مسألة السلطة أياً كانت، أما أنا فكنتُ أفضل أن أبحث عن سبيل التوافق. كان يخيَّل إليَّ أنه يهتم بالدرجة الأولى عند تناوله النصوص الأدبية بمحور الاتصال فيها، مَن يتحدث وإلى مَن، ولماذا، وما هي الرهانات السياسية لهذا الفعل. مِن ناحيتي كنتُ في البداية أترك أسباب الكلام وتأثيراته لكي أركز على التأويلات - كنتُ أقرأ النصوص أولاً ليس كوسيلة للفعل ولكن كنتاج للمعنى، ودائماً ما كانت هذه الاختلافات التي لا تقبل الجدل، لا تؤثر أبداً في صداقتنا. عندما كنا نلتقي وكانت لقاءاتنا نادرة بسبب بعد المسافات، كنا نتكلم فقط في الأشياء التي تقرب بيننا" (الكتاب صـ 20). وفي ما يتعلق بالقضية الفلسطينية أيضاً لاحظ تودوروف أن قناعات سعيد الشخصية، كانت مع دولة غير دينية وغير عنصرية، "لكنه كان يعلم عدم شعبية هذا الحلّ عند غالبية المعنيين بالأمر، لذا كان يرى في البداية ضرورة إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقول تودوروف في سياق آخر: "إذا أردنا البحث عن الأيديولوجية الأقرب إلى سعيد، لن تكون الماركسية ولا النيتشوية التي كانت تحوز شعبية كبيرة في الجامعات الأميركية خلال عدد من العقود، لكنها الإنسانية، على أن تكون عالمية بحق ولا تكون مختلطة بالوسطية الأوروبية. كان سعيد يعتقد أنه من الممكن السير في هذا الاتجاه، من طريق مواجهة التراث الأوروبي بثقافات كبرى أخرى، وكان يرى بوادر دلالات عالمية بالفعل في نشر المعرفة العلمية في نطاق الاهتمام المشترك من أجل الحفاظ على كوكب الأرض من طريق التوافق على الحقوق الإنسانية للبشر".

وفي موضع آخر من هذا القسم الذي يتألف من 40 صفحة يقول تودوروف: "لن نستغرب أن نرى أن سعيد لم يكن يريد أن يتوقف عند التحليل الشكلي فقط للنصوص الأدبية التي تفصلها عن صلتها بالتجربة الإنسانية. هنا أيضاً، يجب أن تفتح الآفاق وأن لا يتم خلط الإنسانية مع الفكرة التي يأخذ بها بعض النقاد الغربيين المتسرّعين. في النهاية تراجعت القضية الفلسطينية أمام عينيه وأصبح حلّها أبعد كثيراً مما كان يراه قبل أكثر من عشر سنوات، كما أن مكافحة النزعات القومية والدينية التي كان يعتبرها من أهم مهامه لم تقِل بل زادت وتفاقمت. من وجهة النظر هذه نجد أيضاً أن الأحداث التي ارتبطت باعتداءات الحادي عشر من سبتمبر قد أضافت ضربات قاسية لآماله في أن يتحسّن العالم ويسود فيه السلام. إن ما كان سعيد يسعى إليه من خلال كتاباته هو هدم الكليشيهات والتعميمات التعسّفية التي يتم توجيهها إلى الإنسان الشرقي والمسلم والعربي... لقد أصبح إنساناً عالمياً".

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة