Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رواية "شباك ام علي" ذاكرة القرية المستعادة

الرسام محمد العامري يسرد أحلام الطفولة بأبعادها اللونية

الشباك الذي يطل على الطبيعة (يوتيوب)

ينتمي االفنان والكاتب الأردني محمد العامري، إلى الأسماء العربية القليلة، التي نجحت في المزج عبر مسارها الإبداعي في طرق أجناس أدبية وفنية مُتعدّدة مثل: الشعر والرواية والفن التشكيلي ممارسة ثم تنظيراً، ما يجعله اليوم في طليعة هذه الأسماء التي تضرب في عمق الحداثة العربية من جوانبها المختلفة. وقد يبدو للقارئ المُتتبع للثقافة الفنية العربية مدى إسهام محمد العامري في بلورة تجربة فنية فريدة داخل الفن العربي وفق تعبيرات تجريدية، تمتح زخمها الجمالي عبر ألق المادة وفتنة اللون. لكن، حتى وهو يكتب الرواية نكتشف عن كثب قدرته على ترحيل التجربة الإبداعية بقلقها من عوالم فنية تجريدية لتقارع بياض الورقة ، مانحاً لمفهوم التجربة فضاء رحباً وغنياً بالدلالات والرموز المُضمرة، والتي هي في الأساس عبارة عن ذلك الموروث الفني والجمالي الطفولي الأردني، الذي تشربه وتسرب إلى لا وعيه في قرية "القليعات".

وفي روايته الجديدة "شبّاك أم علي"(2020) الصادرة حديثاً ضمن منشورات الجيدة  يعمل على إعادة بناء هذا المُتخيّل الطفولي، الذي ما زال يسكنه ، والذي نشعر به في كلماته الدافئة والبريئة عن مرحلة الصبا، يُعيده بشكل فنيّ ويُمارس معه ضرباً من النوستالجيا المُعلنة والساحرة وهو يسائل القرية وأناسها بإزميل يحفر في ثنايا العادات والتقاليد الموروثة من ماضيها إلى حاضرها، بشكل غنيّ ومُكثف، يُسيطر فيه الوصف على الحكي والجرح على الفرح. إلا أن الوصف الأدبي في الرواية يحتل مكانة مركزية، كما يتنصل من أي بعد تزويقي، قد يجعل من المفهوم حشواً داخل العناصر المُشكّلة لبنية الرواية. إنه يأخذ عند محمد العامري مقابلاً ومُرادفاً لمفهوم اللون في التجربة التشكيلية، لأن به تنطبع جماليّات النصّ ويُعيد معه تشكيل الطفولة والفضاء والجسد والماضي والحاضر، إذ تُصبح فقرات الرواية وكأنها لوحات فنية بديعة تمزج بين السرد والشعر في تناغم وجودي. وأحياناً يترك الشعر ينساب بإيقاعاته المُتدفقة ليغمر فضاء النصّ الروائي، لكن سرعان ما تستعيد الكتابة وعيها وهي تروم إلى الحفر في الذات والطفولة وغيرها.

شعرية التفاصيل

تتميّز رواية "شّباك أم علي"، بشعرية التفاصيل الصغيرة الموغلة في الطفولة والصبا. فمعروف أن الرواية في طبيعة بنيتها السردية تُشبه التاريخ في خطيته وعموميته وارتكانهما وراء الأحداث الكبرى في مسار التاريخ أو الشخصيات أو الأمكنة. وبالتالي فهي تروم إلى الحكي والتشعب والبحث في أرشيف الذات والذاكرة ومحاولة تفسيرها عن طريق كتابة تبدو مركبة كما هو الشأن في الرواية الجديدة عند الفرنسي ميشال بوتور، أن يُصبح النصّ مركباً وذا أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية كبرى وتنبني على تعدد الرواة وعلى تقنية الفلاش باك وعناصر بلاغيّة وجمالية تمزج بين القديم والحديث، كما تعمل على منح مفهوم الزمن قيمة أكبر داخل نسيجها الفني والاهتمام بالفرد على حساب المجتمع الذي استنفذ مادته الإبداعية منذ القرن التاسع عشر. لكن العامري حريص على هذه الحداثة الأدبية التي تتسم بها الرواية الجديدة، فهو يستكنه ويستلهم بعضاً من عناصرها داخل روايته باستثناء مفاهيم وقضايا كبرى، لأن الرواية في مُجملها، هي سيرة جرح فضاء وناس أمام واقع مأزوم ومُرتبك.

عند العامري، تُصبح تفاصيل هذا الواقع والطفولة بذاكرتها المحمومة مركزاً للوجود والمنبع الذي منه ينطلق العالم، مُتخذاً من فضاء قرية "القليعات" منطلقاً لسبر أغوار الذات والعالم والآخر من خلال شخصية أم علي، التي تظل تترصد حياة الناس من شباكها، الذي لا يسلم منه أحد، لا من قريب ولا من بعيد، فهي حريصة على مراقبة القرية ومعرفة تفاصيلها. غير أنّ هذه التفاصيل لا تبدو عادية بالنظر إلى تجارب روائية أخرى، فهي هنا تتبدى مُلوّنة ويغلب عليها الطابع البصري، الذي ألفه العامري في رسوماته، فهو يجعل من مفهوم الرسم مقابلاً للكتابة، والوصف مرادفاً للون. وجميع هذه العناصر متشابكة وتؤثث الفضاء الروائي وتمتد كشريط سينمائي أمام شبّاك أم علي المفتوح على قهر التاريخ وعنف الواقع وأوجاع المرأة وشظف العيش وبيوت الطين التي تئن سخونة من فرط الجحيم الأرضي. لكنّ هذا الشبّاك، الذي استرعى مخيّلة العامري ليجعل منه عنواناً لروايته، يتجاوز أيّ دلالة واضحة، وكأنه عين تحرس قرية "القليعات" من خلال أم علي التي تظل اليوم بطوله متكومة أمامه ترقب الناس. يقول الراوي: "شبّاك أم علي عين لا تنام، كاميرا تقبض على كل اللحظات، اشتغال دؤوب بالناس وكل شيء يتحرك في مرمى شباكها، لا تكل ولا تمل من المراقبة، فهو شغفها اليومي، فأهل القرية اعتادوا عليها وكانوا ينعتون بيتها بشباك أم علي. لقد أصبحت النافذة عنوان بيتها، فهي تبدو من خلاله كصورة تتحرك ببطء، صورة مؤطرة بالأسئلة، كتلة كبيرة تملأ إطار النافذة، يد تبدو متورمة من سمنتها تتكئ على أسفل الإطار...حتى إنها ترصد الطقس وحركة الدجاج والقطط وتنهر الكلاب وتصرخ بحمار جارتها حمدة".

تسقط الروائي المفاهيم الكبرى من قبيل التاريخ والهوية والسياسة والرأسمالية وسواهما، فهي لا تعنيه هذه المفاهيم الكبيرة ، إلاّ بوصفها نابعة من قريته ومن ذاته، مع العلم أن التاريخ يحضر ولكن فقط كسياق تقبع فيه الأحداث وليس كصيرورة محركة للأحداث أو مفهوماً مولداً للمفاهيم. إن العامري لا يريد أن يحشر نفسه من كُتّاب "الرواية الجديدة" وإن كانت "شبّاك أم هاشم" تحمل بعضاً من خصائصها، لكن الذات هنا هي جرح الوجود وعلته، بالتالي فالكتابة تنطبع بهذه الذات، التي تُعيد الحفر في ذاكرة القرية وأناسها، بما هي خزان أفراح وأحزان. لكن الذات ترفض الواقع القائم، مُحاولة أن تُعيد تشكيل العالم كما تشتهي وتُسميّ الأشياء بغير أسمائها. وهنا تبدأ لعبة الحكي والتخييل والإقامة في تخوم الذاكرة، التي هي المنهل الوحيد لمحمد العامري (يوسف)، يرنو إليها كالطفل، باحثاً عما تبقى في جسده من جرح الصبا وظلال طفولة بائدة أمام واقع قاهر، لا يحترم حقوق المُستضعفين. من ثم فإن الذاكرة عند محمد العامري موطن جديد، يحتمي به من أعاصير الحياة وخيباتها الغادرة المُتكرّرة، وأن شخصية "أم علي" تبدو في دلالتها الرمزية وكأنها رديفاً لذاكرة القرية وأحزانها، بوصفها ذاكرة جماعية مشروخة ومطبوعة بالتوجس أمام فداحة واقعها.

المزيد من ثقافة