Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جراح أميركا العنصرية الغائرة في السوسيولوجيا والسياسة

 تحولات الولايات المتحدة من "لديّ حلم" مارتن لوثر إلى "لا أستطيع أن أتنفس" جورج فلويد

في الثامن والعشرين من أغسطس (آب) عام 1963 وفي القلب من واشنطن، وعند نُصُب أبراهام لينكولن مُحرِّر "الزنوج" التاريخي، ارتفع صوت الداعية الأميركي من أصول أفريقية، مارتن لوثر كينغ، بخطابه التاريخي، المحمول على حلمه الشهير، وفيه ضمن كلام كثير "أقول لكم اليوم يا أصدقائي، إنني على الرغم من مصاعب اللحظة وإحباطاتها، ما زال عندي حلم، وإنه لحلم عميق الجذور في قلب الحلم الأميركي الكبير... عندي حلم أن هذه الأمة ستنهض ذات يوم وتُطبّق معنى عقيدتها الحقيقي، نحن نعتبر هذه الحقائق بديهية، إن البشر قاطبة مخلوقون سواسية".

"عندي حلم أن أطفالي الأربعة سيعيشون ذات يوم في أمة لن يُحاكموا فيها بحسب لون بشرتهم، بل بحسب مضمون خلقهم".

ستة عقود انصرمت منذ أن حَلُم لوثر، واليوم تصحو الولايات المتحدة الأميركية من جديد على كابوس العنصرية القائم والقادم على جذور عرقية، كابوس يشعل النيران وللمرة الأولى منذ عقدين من الزمن في أكثر من ثلاثين مدينة كبرى. يبقى السؤال: هل العنصرية هي آفة أميركا وقدرها المقدور؟ أم أنه ما من قدر منقوش على حجر؟

 جورج فلويد... شرارة العنصرية الجديدة

لسبب أرجعه البعض إلى شيك لا يتجاوز مبلغه 25 دولاراً، بحسب إحدى الروايات، أوقع أربعة من رجال الشرطة البيض، الشاب الأميركي من أصول أفريقية، جورج فلويد، أرضاً. المشهد الذي تبيّن لاحقاً من تصوير كاميرا جانبية، فيما الكاميرا الأخرى، أظهرت الشرطي ديريك تشوفين ضاغطاً بركبته على عنق فلويد لنحو ثماني دقائق وست وأربعين ثانية تقريباً، ورافضاً سماع توسلات الشاب اللاهث "لا أستطيع أن أتنفس"، وضارباً عرض الحائط بتوسلات الجماهير من حوله، من السود والبيض على حدّ سواء.

قضى فلويد نحبه، وجاء تقرير الطب الشرعي ليزيد المشاعر المحتقنة التهاباً بالقول إنه لم يمت مخنوقاً، وإنما ظروفه الصحية والمواد المسكرة المحتملة التي وجدت في دمه، أسهمت جميعها على الأرجح في وفاته، وكأن التقرير يشير إلى أن الرجل كان سيموت في كل الأحوال، ولا فارق لما فعله الشرطي الأبيض، الأمر الذي جعل تهمته القتل من الدرجة الثالثة والقتل غير العمد، وإقالة رجال الشرطة الثلاثة الآخرين من وظائفهم.

هل كانت حادثة جورج فلويد الشرارة المحفّزة لإشعال حريق الغضب المكتوم الذي يستعر في القلوب منذ وقت طويل، لتنفجر غضبة كبرى، بلغت نحو ثلاثين مدينة أميركية وقت كتابة هذه السطور، بسبب التحيّز العنصري المستمر في نظام العدالة الجنائية الأميركية؟

حين تحدّث شقيق الضحية، والذي يحمل اسم "فيلونيز فلويد" لقناة "سي إن إن" وهو يغالب دموعه، كان في واقع الأمر يعبّر عن أبعاد الإشكالية العميقة في الداخل الأميركي، التي باتت تتكرّر بشكل شبه دوري "الشرطة أعدمت أخي في وضح النهار مع أنه كان أعزل"، ومضيفاً أنه "تعب من رؤية رجال سود يموتون مجاناً على قارعة الطرقات".

لم تكن حادثة فلويد الأولى من نوعها في تلك المنطقة، فقد دأب رجال من الشرطة على ممارسة أعمال قتل مثيرة للجدل من هذه النوعية، وهذا ما حدث في عام 2016، حين قتل "فيلاندو كاستيل" برصاص ضابط شرطة على بعد 15 دقيقة من موقع اغتيال فلويد.

قبل ذلك وفي عام 2015 ارتفعت ألسنة اللهب بعد مقتل "جامار كلارك"، البالغ من العمر 24 سنة، الذي لاحقته سيارات الشرطة بسبب غرامة قيادة.

وبحلول 2017 قُتلت "جوستين داموند" بإطلاق النار عليها في منزلها، بعد أن اتصلت للإبلاغ عن اعتداء جنسي محتمل.

ولعل ما جعل النار كامنة تحت الرماد، الأحكام المائعة في نظر كثير من الأميركيين التي صدرت في حق المتهمين بالقتل، التي تراوحت بين التبرئة، وإسقاط الاتهامات، أو الحكم بسنوات من السجن لا ترقى إلى قدر بشاعة الجريمة، ما جعل مشهد التظاهرات مليئاً باللافتات الفاقعة "لا عدالة لا سلام".

غير أن البحث - عميقاً وعند الجذور- يخبرنا بأن المعضلة تراثية، والحلول الجذرية بعيدة عن المتناول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أميركا أمة ديمقراطية أم عنصرية؟

كي نفهم المشهد الأميركي بشكل عميق، وبعيداً عن الصور ذات الطابع السطحي التي تبثها وكالات الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، يتعيّن علينا أن نعرّج على كتاب الفيلسوف الفرنسي، روجيه غارودي "أميركا طليعة الانحطاط"، وفيه إشارة إلى ما يسميه "الديمقراطية... الخدعة الأميركية الكبرى"... لماذا؟

لأنها - بحسب غارودي- دائماً عبارة عن ستار يخفي وراءه حقائق ظالمة، فإعلان الاستقلال، على سبيل المثال، الخاص بالولايات المتحدة، ينصّ على المساواة في الحقوق بين المواطنين جميعاً.

غير أنه وعقب هذا الإعلان الحاسم، تم الحفاظ على العبودية بالقانون لمدة زادت على قرن، وما زالت التفرقة العنصرية ضد السود باقية حتى الآن، وعليه تبقى أميركا عند غارودي "دولة الديمقراطية للبيض"، لا "للسود أو الهنود".

والشاهد أن المدخل السابق يقودنا إلى تساؤل أعمق وأكثر مباشرة: هل أميركا إذاً دولة عنصرية؟

الجواب نجده عند المؤرخ الأميركي الأشهر، أرثر شليزنجر، الذي يقرّ بأنه كانت هناك أمة عنصرية... ذلك أنه من الناحية التاريخية ميّز الأميركيون بحدة بينهم وبين الهنود الحمر، والسود، والآسيويين، والمكسكيين، واستبعدوهم من المجتمع، وتتمثل العلاقات الأميركية مع هذه العناصر الأخرى في أحداث فاصلة وقعت في مطلع التاريخ الأميركي، وفي العقود التي أعقبت قيام مستوطنات خليج بلايموث، وهذه قصة تاريخية أخرى.

والثابت أن البحث عن جواب محكم لعلامة الاستفهام المتقدمة: هل أميركا أمة ديمقراطية أم عنصرية؟ أمر يستدعي مؤلفات بعينها من أجل التحقيق العلمي والتاريخي الموثوق، غير أنه، وفي اختصار، نشير إلى أن الرجل الأبيض الذي استعمر أراضي الهنود الحمر قد خلق تقسيماً على أساس الأصل والعرق، والدين والطبقة، والمركز والوضع الاجتماعي، الأمر الذي يشير إليه المفكر الأميركي الإشكالي، صموئيل هنتنغتون، في مؤلفه "من نحن... المناظرة الكبرى حول أميركا".

يخبرنا هنتنغتون أن الثورة الأميركية لم تقتصر فقط على خلق أمة جديدة، لكن خلقت أيضاً هيئة جماعية جديدة تحت اسم الشعب الأميركي، الذي يتمتع أعضاؤه بالحرية كمواطنين في مجتمع سياسي جديد، ونظراً لأن الحكومة في الولايات المتحدة تستند إلى إرادة الشعب لذلك فإن الشيء الأهم، هو تحديد هوية الناس.

الدستور الأميركي... ألغام معدة للانفجار

بالحفر عميقاً جداً عند جذور الدستور الأميركي، قد يُفاجأ المرء بأن هناك ما هو خافٍ عن الأعين على مستوى السطح، فالدستور يفتتح نصه بعبارة "نحن الشعب"، لوصف أولئك الذي سيتملكون ضمن أشياء أخرى، نفحات الحرية كحق مكتسب، وتمريرها إلى الأجيال المقبلة، وقد استشهد أبراهام لينكولن، في وقت لاحق، بهذه الكلمات، للقول إنه نظراً لأن الأمة أُنشئت بواسطة الشعب، لذلك فإن الولايات المتحدة لا يمكن حلها.

لكن السؤال: عن أي شعب تتكلم افتتاحية الدستور الأميركي، وهل الأميركيون بحسب ذلك الدستور نسيج واحد بالفعل كما يتبدّى للرائي أول الأمر؟

الأصل في المشهد أن الدستور الأميركي يتحدث عن كل أولئك الذين يعيشون داخل حدود البلاد، إلا أن ذلك ليس صحيحاً، فالدستور ينصّ بوضوح على ثلاث طبقات من الناس تسكن الولايات المتحدة: الهنود الذين يعتبرون أفراد قبائل مستقلة، وليسوا جزءاً من الجسم السياسي الأميركي، وأشخاص آخرون ويقصد بهم العبيد السود الأميركيون، والشعب، بما يعني أن ثلث السكان فقط هم الذين يحق لهم التمتع بالحرية الأميركية.

هنا ينبغي علينا أن نشير إلى معضلة قائمة في الروح الأميركية المعروفة دوماً بالتضاد البنيوي الفاعل فيها على مرّ الأجيال، أي الصراع بين القومية المدنية، والقومية العرقية... ماذا يعني ذلك؟

المعروف أن كل أمة تواجه مهمة تحديد هويتها، وقد ميّز المؤرخون تقليدياً بين القومية المدنية التي تصوّر الأمة كمجتمع مفتوح لجميع أولئك المخلصين لمؤسساته السياسية وقيمه الاجتماعية، وبين القومية العرقية التي تعرف الأمة كمجتمع قائم على أساس من الأصل العرقي والثقافة واللغة.

بوتقة الانصهار... رؤية أميركية زائفة

طويلاً جداً استمعنا، والعالم كله، إلى تعبير شهير "بوتقة الانصهارMELTING POT "، الذي يفيد بأن الأعراق والأجناس كافة في الداخل الأميركي، قد تركوا وراءهم كل ما كان يشكّل هوياتهم الإثنية والعقدية يوم أن رست بهم السفن على مرافئ كنعان الجديدة "أميركا"، وباتوا نسيجاً مخملياً واحداً، مرة وإلى الأبد... ترى إلى أي حد تبلغ صحة هذا المفهوم؟

من حق القارئ أن يعلم أن من يقف وراء المشهد وذلك التعبير هو المفكر والكاتب والدبلوماسي الفرنسي، جيوم جان دي كريفكير، وقد وردت العبارة في مؤلفه الشهير المعنون "رسائل من مزارع أميركي"، حيث كتب يقول "لقد انصهر الأفراد هنا من جميع الدول في دولة جديدة، حيث ترك الأميركي وراءه كل تحيزاته وطباعه القديمة، واكتسب تميزات وطباعاً جديدة من نمط الحياة الجديدة الذي تبنّاه".

كانت تلك هي قناعة النبيل الفرنسي كريفكير، على الرغم مما أسماه "فظائع العبودية"، تلك التي تبدّت ظاهرة أمامه في أواخر القرن الثامن عشر، وقت كتابة مؤلفه المثير هذا.

على أنه وبعد نحو قرنين من الزمان، ومع بدايات الألفية الثالثة، كان الكاتب والباحث الإيطالي جيوفاني ماورو يسعى وراء المصادر الأميركية الرسمية، حيث الأرقام لا تكذب ولا تتجمل، لا سيما إذا كانت صادرة عن مكتب الإحصاء الأميركي، والمركز الفيدرالي لإحصاءات التعليم ومكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العدالة، والمركز الفيدرالي لإحصاءات العمل... ما الذي خلص إليه ماورو؟

باختصار غير مُخلّ، أرقام وأحداث تؤكد على زيف دعاوى "بوتقة دي كريفكير"، فعلى سبيل المثال نسبة الأطفال السود الذين يعيشون في فقر، 37 في المئة من بين أطفال أميركا، أما البطالة عند السود فهي ضعف أقرانهم من البيض، كما أن التلاميذ والطلاب السود يتعرضون للفصل من مدارسهم أكثر مما يتعرض الطلاب البيض بثلاثة أضعاف.

الأخطر والأكثر تهديداً للنسيج الأميركي، الذي اكتشفه الباحث الإيطالي الشاب، هو أن هناك 48 في المئة من الأميركيين يحملون مواقف عنصرية ضمنية ضد الأميركيين الأفارقة، الأمر الذي دعا عدداً من كبار خبراء الأمم المتحدة للتعبير العلني عن إدانتهم التمييز العنصري في الداخل الأميركي.

السود... جماعة مفصولة منهجياً

يمكن للمرء أن ينشغل بأسئلة عديدة حول الشغب الدائر في الداخل الأميركي، وربما وقت ظهور هذه السطور للنور يكون قد توارى إلى أجل قريب، وربما على موعد مع انفجار.

غير أن ما لا يمكن إغفاله هو حالة اللامساواة شبه المنهجية والمستدامة، التي وصفها البروفيسور علي راتانسي، أستاذ علم الاجتماع الزائر في جامعة "سيتي لندن"، في مؤلفه الشائق "العنصرية... مقدمة قصيرة"، الذي يلفت الانتباه إلى أن أصول العنف مرجعها المرارات الاجتماعية التي يعانيها السود في البلاد، فعلى سبيل المثال كان الدخل المتوسط للأسر السوداء في 2001، 62 في المئة فقط من دخل الأسرة البيضاء.

أبعد وأخطر من هذا فإن الأميركيين الأفارقة هم أكبر جماعة مفصولة سكنياً عن غيرها في الولايات المتحدة، ويرجع هذا بصورة أو بأخرى إلى رفض الأميركيين "الواسب"، أي البيض البروتستانت الأنغلو ساكسون، العيش في مناطق يعيش فيها أكثر من 20 في المئة من السود، وتُعدّ العاصمة الأميركية واشنطن مثالاً على هذا التمايز بين جانبين، الأغنياء البيض حيث الشطر الكائن فيه البيت الأبيض وبقية الوزارات والكونغرس، فيما الآخر حيث مساكن السود ومستويات الحياة المتدنية.

الفصل لا يتوقف عند حدود السكن فقط، بل يقع عبر مربعات أخرى، فمعدلات وفاة الرضع السود ضعف مثيلاتها بين البيض و14 في المئة فقط من السود يكملون دراساتهم الجامعية.

وقائمة المقاربات تطول وفي الخلفية علامة استفهام: ما الذي يجري، وهل من مخاوف معينة عند الرجل الأبيض تدفعه لأن يكون أكثر عنصرية جهة الأسود والآسيوي واللاتيني في حاضرات أيامنا بنوع خاص؟

الأقليات العرقية ومخاوف الرجل الأبيض

شيء ما غير معلن بشكل كبير يتوارى خلف مخاوف الرجل الأبيض في الداخل الأميركي من تنامي أعداد الأقليات، وفي المقدمة منهم الأميركيون الأفارقة بنوع خاص.

حتى عام 1860 تم تصنيف الشعب الأميركي ضمن ثلاث مجموعات عرقية، البيض والسود والخلاسيين (الإسبان وغيرهم من المهاجرين).

واليوم على عتبات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين هناك نحو 20 مجموعة عرقية تشكّل ثلث المجتمع الأميركي، ما معنى ذلك؟

معناه أنه وإنْ شكّل البيض اليوم 70 في المئة من السكان يتبعهم السود بنحو 12 في المئة، وأصحاب الأصول اللاتينية بـ11 في المئة تقريباً، إلا أنه ومع عام 2050 يمكن أن يتحوّل البيض إلى أقلية في الداخل الأميركي، وهنا يتوّجب علينا أن نقرأ بعناية فائقة أمرين.

أولاً: لم تعد، ولن تعود مسألة الهجرة العشوائية إلى الولايات المتحدة مفتوحة على مصراعيها في العقدين أو الثلاثة عقود المقبلة، فالحسابات الديموغرافية تستدعي إعادة نظر في أرقام الأقليات داخل البلاد، لا سيما بعد تعاظم الحضور الآسيوي ما يعد حصان طروادة في القلب الأميركي.

ثانياً: وهذا هو الأخطر بالفعل والمتمثل في تنامي التيارات اليمينية في الداخل الأميركي، تلك التي بلغ الشطط ببعضها قديماً، كما الحال مع جورج روكويل، مؤسس الحزب النازي الأميركي سنة 1958، للتخطيط للاستيلاء على الحكم في البلاد، وإن كان اغتياله قد قطع الطريق على مسيرته، إلا أن أفكاره كانت ولا تزال وبالاً على الأميركيين أنفسهم، وجُلّها منبثق من عمق طروحات وشروحات النازية الهتلرية، وفي المقدمة منها القضاء على اليهود بقتلهم، وترحيل الأميركيين من أصول أفريقية، وإعادة كتابة الدستور الأميركي بصورة قومية متطرفة.

لم يتوقف الأمر عند حدود الحزب النازي، إذ لا تزال حركة "الكوكلاكس كلان" واحدة من أعنف تلك الحركات، وقد قامت بحوادث عنف وإحراق منازل وأراضٍ واختطاف للسود والأجانب.

والحديث يطول، ولا تتوقف رغبات الرجل الأبيض في الدفاع عن نفوذه بالمزيد من "العصرنة"، إن جاز التعبير، عند أنصار التيار اليميني الكاره للأميركيين الأفارقة وبقية الأقليات، فبحسب تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية "أ ف ب"، فإن جيلاً جديداً من أنصار ما يعرف بـ"حراس النظام"، الذي تحدّث عنه المؤرخ الأميركي الأشهر، هوارد زين، في مؤلفه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، وتحديداً في الفصل الرابع والعشرين من الجزء الثاني، يسعى إلى تغيير جذري في شكل البلاد، بعد شعوره وتأذّيه من الطغمة الأوليغاركية في البلاد، ما يجعل أجواء الاحتقان قائمة وقادمة، لا سيما ضد حلقات الأقليات الأضعف أول الأمر.

مسيرة المليون رجل والقضاء الأميركي

أخطر ما يجعل الصور الأميركية محتقنة، ويفتح الأبواب واسعة لمشاهد العنف المتزايدة، حالة اللاعدالة، أو بمعنى أكثر دقة، اهتزاز الثقة في النظام العدلي الأميركي.

ولعل الجميع يدرك أن القضاء في أميركا هو الحصن الحصين الذي يدعم الاستمرار والاستقرار المجتمعي، غير أن البعض يرى أن فيروس العنصرية قد تسرّب بشكل أو بآخر إلى قلب مؤسسة القضاء الأميركي، التي باتت تغلّظ أحكامها ضد السود بنسبة 20 في المئة مقارنة بنفس الأحكام التي تصدرها ضد البيض على نفس الاتهامات.

ولعل القراءات الإحصائية لأحوال سجون أميركا مثيرة للقلق المجتمعي بالفعل، فواحد من كل عشرة أفراد سود يعيش في أحد سجون أميركا، ومن المحتمل أن كل شخص أسود ولد عام 2001 سيتعرّض لدخول السجن بتهمة أو بأخرى وذلك بنسبة 32 في المئة، بينما تنخفض احتمالية هذه النسبة إلى 17 في المئة بالنسبة للإسبان، أما بالنسبة إلى البيض فإن احتمال دخول السجن تنخفض إلى 6 في المئة فقط.

في أكتوبر (تشرين الأول) 2015 واعتراضاً على هذا الوضع، خرج نحو مليون أميركي أفريقي في تظاهرة رفعت شعار "العدالة وإلا JUSTICE OR ELSE "، ما يحمل في طياته إنذارات وتحذيرات من البركان الذي جاوز الغليان، وها هو يقترب من الانفجار، وقد حفلت التظاهرات بشهادات حيّة لضحايا للنظام القضائي الأميركي من ذوي الأصول الأفريقية.

العنصرية واعترافات أوباما وهيلاري

هل تؤكد الانفجارات المتتالية للصراعات العنصرية في الداخل الأميركي حقيقة "تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة"، بمعنى أن الأميركيين مصابون بازدواجية أخلاقية قاتلة تجعلهم يقبلون على فعل الشيء ونقيضه، والإشارة إلى الطريق والسير في الاتجاه المعاكس له، والإيمان بتلك القيمة والتنكّر لها؟

المقطوع به أن انتخاب باراك أوباما في 2008 كان قد أعطى إشارة للعالم كله وليس للأميركيين فقط مفادها أنهم قد تصالحوا مع ماضيهم الحافل بالعنصرية والتفرقة على أساس العرق ولون البشرة، غير أن ثماني سنوات هي عمر إدارتيّ أوباما، ربما أكدتا تهافت هذا اليقين، والعهدة هنا على أوباما نفسه من جهة، وعلى وزيرة خارجيته في إدارته الأولى، هيلاري كلينتون، من جهة ثانية.

في الثامن من مارس (آذار) من عام 2015، وفي مناسبة الذكرى الـ50 لحصول الأميركيين من أصل أفريقي على حق التصويت (1965) وخلال زيارته لمدينة "سلما" في ولاية ألاباما، جنوب البلاد، قال أوباما حرفيّاً "ثمة خطأ شائع مفاده أن العنصرية زالت، وأن العمل الذي بدأه رجال ونساء انتهى... هذا ليس صحيحاً"، وقد أظهر أوباما يومها العوار الذي يعتري العملية الانتخابية في بعض الولايات الأميركية، تلك التي تضع قوانين تهدف إلى خلق عراقيل أمام تصويت الأقليات والسود تحديداً.

 ماذا عن هيلاري؟

 الثابت أنه على هامش حملتها لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي لها لسباق الرئاسة الماضي 2016، وخلال مؤتمر لرؤساء البلديات في سان فرانسيسكو، وصفت المذبحة التي وقعت آنذاك بأنها دليل على أن العنصرية لا زالت سائرة وسادرة في البلاد، وأنه من المخادعة وصف مأساة كهذه على أنها واقعة فردية أو التصديق بأن أميركا تخلّصت من العنصرية إلى حد كبير.

بايدن وترمب... عنصريون أم فوضويون؟

لم نعمد في السطور السابقة إلى التوقف كثيراً أمام ملامح أو معالم المشهد على الأرض في الأيام القليلة الماضية، غير أن هذا لا يعني أنه غير مهم، لا سيما وأنه يتطوّر بصورة غير اعتيادية لا تخلو من إثارة شكوك وهواجس تتجاوز مشهد العنصرية وتسخّر حادثة جورج فلويد لتحقيق أغراض سياسية موصولة بالانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020.

لتكن البداية من عند جوزيف بايدن، المرشح الديمقراطي المحتمل لخوض سباق الانتخابات الرئاسية المقبلة في مواجهة ترمب، والتصريحات التي أطلقها لا سيما دعوته إلى ما أسماه "تطبيق العدالة"، و"القيادة الحقيقية" للولايات المتحدة، متهماً ترمب بالتشجيع على العنف.

بايدن يؤكد على أن غضب الأميركيين السود وإحباطهم لا ينكران، وأن البلاد تحتاج إلى مواجهة "جرحها العميق المفتوح" المتعلق بالعنصرية.

بايدن، كان لا بد له من أن يزايد ولا شك على ترمب، وهذا ما تبدّى في قوله "هذه أزمة وطنية ونحتاج إلى قيادة حقيقية في الوقت الحاضر، قيادة تأتي بالجميع إلى المائدة ليكون بإمكاننا اتّخاذ إجراءات لاجتثاث العنصرية المنظمة".

السؤال الذي يطرحه البعض داخل وخارج أميركا: أين كان بايدن ومعه أول رئيس أميركي من أصول أفريقية طوال ثماني سنوات في البيت الأبيض من أزمة العنصرية المنظمة التي يتحدّث عنها، ولماذا فشل هو ورئيسه في تحرير أميركا منها؟

أسئلة عديدة ترتسم في الأفق حول التظاهرات التي انطلقت من "مينيابوليس"، لا سيما وأنه حسب شهود على الأرض تكاد نسبة الأغلبية فيها تكون للبيض، والأقلية الأفريقية الأميركية تتوارى وسطهم للقيام بأعمال العنف، ما يجعل لتصريحات وزير العدل الأميركي، وليام بار، نصيب من الصدق، حين أشار إلى أن "متعصبين ومحرضين ومندسين"، يودون احتجاجات في المدن، ويستغلون الوضع لمواصلة تنفيذ أجندتهم للعنف.

بدوره، كانت تصريحات ترمب لافتة للنظر عن فكرة "العنف المنظم"، ذاك الذي ينتشر عبر الولايات بطول البلاد وعرضها من نيويورك إلى كاليفورنيا، مع العلم بأن "تجاوز حدود الولاية للمشاركة في أحداث الشغب العنيفة هي جريمة اتحادية".

وفي الخلاصة، هل تظاهرات مينيابوليس وتوابعها أمر آخر يتجاوز قضية العنصرية، أم أن هناك من عزف عزفاً سيئاً مقصوداً على الأوتار البغيضة، لمأساة جيل، يكاد يفقد الأمل، من أجل تحقيق أغراض سياسية بعينها؟

يحتاج الجواب إلى إعمال العقل في الكثير من تداخل الخيوط وتشابكها في الداخل والخارج الأميركيين، وفي توقيت تشهد البلاد جائحة غير مسبوقة، من غير أن تكون هذه في حد ذاتها رادعاً في وجه النار المشتعلة.

الأسئلة، فلسفياً، أهم من الإجابات، سيما وأنها تفتح أمامنا المساقات والمسارات لإدراك أبعاد الماورائيات في المشهد الأميركي المغلّف بالأسرار التي تتساوق وإمبراطورية كبرى، حتى وإن كانت منفلتة من فرط الامتداد الإمبراطوري، والعهدة على الراوي المؤرخ الأميركي الكبير، بول كيندي.

المزيد من تحقيقات ومطولات