في يومٍ بارد من أيام الشتاء الرمادية، توجه ستيفن سيكور إلى منزل ديفيد وآمبر نيلسون؛ فرحبا به ودعياه لدخول الطابق السفلي المليء بأكوام من الأقفاص؛ كل قفصٍ منها بحجم ثلاجة وله أبواب من زجاج وبداخله ثعبان كبير الحجم. وكان الزوجان نيلسون قد استقدما منذ فترةٍ وجيزة آخر مجموعاتهما من ثعابين البايثون والأصلة العاصرة من مختبرات سيكور الكائنة على بعد أميال معدودة غرب "جامعة ألاباما" (University of Alabama).
وعلى الفور، هم سيكور وديفيد نيلسون وهو مدير إنتاج في أحد مصانع قطع السيارات المحلية، لإخراج الأفاعي من أقفاصها، الواحدة تلو الأخرى.
"مرحباً مونتي، كيف حال عزيزتي؟"، سأل سيكور أحد الثعابين من نوع أصلة بورمية بينما كان يزحف على كتفيه. "مونتي ثعبان طيبة، أليس كذلك؟"
يومها كان يوم الغذاء المنتظر. فالثعابين لم تأكل منذ أسبوعين وكانت على وشك أن تؤدي أحد أعظم عروض التمثيل الغذائي في عالم الحيوان، وهو عمل فذ ينكب عليه سيكور منذ حوالى ربع قرن.
نعم، هذا صحيح. يدأب سيكور منذ أربعة عقود على دراسة أجسام الحيات للعثور على تكيفات تتيح لها توسيع أعضائها وإعادتها إلى مكانها في غمضة عين. وما توصل إليه حتى الآن يفتح مجال النقاش في أدلة محيرة قد تُطبق في يومٍ من الأيام على أجسامنا البشرية كعلاجات طبية.
وفتح نيلسون باب القفص الذي يأوي ثعباناً أخضر اللون من نوع البايثون البورمي يُدعى هايدي ووضع فيه جرذاً كبيراً. تسمر الجرذ مسعوراً في إحدى زوايا القفص، لكن هايدي لم تُحرك ساكناً. وبعد بضع دقائق، رفعت رأسها ببطءٍ شديد متحسسةً بلسانها طعم الهواء. وفي لحظة، تحولت هايدي من ثعبان إلى سهمٍ شرس وشبت بجسمها نحو الجانب الآخر من القفص وأمسكت الجرذ بأنيابها العلوية الحادة قبل أن تلف جسمها السميك حوله لتصعقه. وبين ثنايا لفائف الثعبان هايدي، ظلت الفريسة تتخبط بقدميها الخلفيتين وذيلها المتطاير في الهواء وظلت أنفاسها السريعة مسموعة حتى خبت واستكانت.
وبعدما نفق الجرذ، أَرخت هايدي قبضتها عنه ورفعت رأسها نحو الباب، متسائلةً عما إذا كانت هناك جرذان أخرى في الأفق. ثم استدارت من جديد نحو فريستها وفتحت فمها إلى آخره ومددت حنكيها إلى أقصى حد. وبواسطة أسنانها الجانبية، ثبتت رأسها على الحيوان الميت وابتلعته. ولما انتهت، وجهت رأسها نحو الباب كما لو أنها تُقدم لجمهورها البشري فرصةً أخيرة لوداع الجرذ قبل أن يتوارى في مريئها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمعروف عن البايثونات وأنواع أخرى عديدة من الثعابين أنها معتادة على أكل ما يُعادل ربع وزن جسمها دفعةً واحدة. ولكنها قد تتناول أحياناً وجبةً، أو بالأحرى فريسةً، تتخطى وزنها بأشواط. وفي هذه الحالة، سيكون عليها أن تُمضي الأيام القليلة التالية في هضم ضحيتها.
وقد بدأ سيكور بدراسة الكيفية التي تتحول فيها الثعابين بين الصوم والأكل لما كان طالب دراسات عليا، وهو مذاك يعمل على تطوير طرقٍ جديدة لتحليل سلوكياتها. وفي الفترة الراهنة، يتعاون سيكور مع خبراء في الجينوم البشري للتحقيق في التفاصيل الجزيئية للحيوانات. وقد اكتشفوا معاً أن الثعابين تؤدي سيمفونية جينية تُتيح لها إنتاج كمية هائلة من البروتينات الجديدة، الغاية منها تمكين أجسامها المرقطة من التحول سريعاً إلى آلة هضم لا نظير لها.
"أنا شديد الإعجاب بما يقوم به هؤلاء العلماء، لأنهم ينطلقون من علم الجينوم الحديث لتخطي حدود الفهم البشري. بالتالي ليس غريباً أن نتخيل لمشروعهم تبعات صحية رائعة ومفيدة للإنسان"، أفاد هاري غرين، خبير الثعابين لدى "جامعة كورنيل" (Cornell University) وهو لا علاقة له بالمشروع.
ولما كان سيكور طالباً في الدراسات العليا، درس كيفية بقاء الأفاعي المجلجلة لافة الجنب على قيد الحياة عند انتقالها من مرحلة الصيام إلى مرحلة التهام حيوانات كاملة. وكان يتساءل عن مقدار الطاقة التي تحتاجها هذه الزواحف لهضم وجبةٍ واحدة.
وعندما التحق بـ"جامعة كاليفورنيا" (University of California) في لوس أنجليس بصفة باحث ما بعد الدكتوراه، قرر العثور على الإجابة القاطعة لتساؤلاته. فراح يُطعم أفاعيه المجلجلة فئراناً ويضعها بعد ذلك في صناديق مقفلة ليُحلل عينات مختارة من الهواء الموجود فيها ويتعقب كمية الأكسيجين التي تستنشقها الأفاعي لحرق الطاقة.
"وخلال يومين، حصلتُ على هذه الأرقام التي لم تكن منطقية: عند تناول الأفاعي المجلجلة الطعام، يرتفع معدل أيضها بنسبة 700 في المئة مقابل ما بين 25 و50 في المئة فقط لدى الثديات"، روى سيكور.
ومن الأفاعي المجلجلة، انتقل سيكور إلى ثعابين البايثون ووجد أنها تُحقق معدلات أيض أعلى بكثير. فلو أكل ثعبان بايثون ما يعادل ربع وزن جسمه، يرتفع معدل أيضه بنسبة ألف في المئة. لكن هذا النوع من الثعابين قادر على تناول وجبات تساوي وزنه بالكامل، هذا لو توافر لدى سيكور ما يكفي من الجرذان ليُقدمها له. وفي مثل هذه الحالات، يُمكن لمعدل أيضه أن يحلق بنسبة 4400 في المئة، وهو أعلى مستوى سجله حيوان على الإطلاق.
وعلى سبيل المقارنة، يرتفع المعدل الأيضي للأحصنة أثناء الجري بنحو 3500 في المئة. لكن الأحصنة لا تركض سوى لبضع دقائق في سباق "كنتاكي ديربي" (Kentucky Derby)، بمعنى أن أيضها المرتفع لا يستمر سوى دقائق معدودة، بعكس ثعابين البايثون التي يُمكن أن تحافظ على معدل أيضي مرتفع لمدة أسبوعين. وقد أمضى سيكور سنوات عدة يُحاول استكشاف ما تفعله الثعابين بهذه الكميات الفائضة من الطاقة. أولاً: إنتاج الحمض المعدي.
نحن البشر نضيف الأحماض إلى معدتنا إبان كل وجبة طعام في اليوم. أما ثعابين البايثون، فتصوم وتظل معدتها خالية من الأحماض وبدرجة حموضة معادلة لدرجة حموضة الماء طيلة فترة صيامها. لكن في غضون ساعات قليلة من تناولها أحد الحيوانات، تبدأ بإنتاج كميات هائلة من الأحماض التي تبقى في أجسامها لعدة أيام فتساعدها في عملية الهضم.
تعمد بعض الثعابين إلى تعطيل عمل جينات إصلاح الحمض النووي كي لا تعود خلاياها محمية من أضرارها الذاتية. "ولولا أنها تفعل ذلك، لانهار نموها"
وما الذي يحدث عندئذٍ لأمعاء الثعابين؟ عندئذٍ، تشهد أمعاء الثعابين طفرة نمو مذهلة، ومرد ذلك إلى انتفاخ خلاياها التي تحتوي على نتوءات إصبعية الشكل قادرة على امتصاص السكر والمغذيات الأخرى، واتساعها بواقع خمسة أضعاف. صدقوا أو لا تصدقوا، يمكن لأي ثعبان بايثون أن يرفع بين ليلةٍ وضحاها حجم أمعائه الدقيقة بواقع ثلاث مرات، متيحاً لقناته الهضمية أن تتحمل ومن دون سابق إنذار موجة الطعام الكبيرة التي في طريقها إليها.
وما إن يبدأ كل هذا الطعام بالسريان في مجرى دم الثعبان، تحاول أعضاء جسمه الأخرى التأقلم مع وجوده. وبحسب سيكور وزملائه، فإن الباقي من جسم الثعبان يستجيب للطعام بنفس الطريقة المثيرة، حيث يتضاعف وزن كبده وكليتيه ويتسع حجم قلبه بنسبة 40 في المئة.
وحالما يصل الجرذ إلى آخر الأمعاء الغليظة لهايدي، لن يتبق منه سوى كتلة فرو صغيرة. وكل ما عدا ذلك سيسري في جسمها لينتهي به الأمر على شكل خطوط طويلة من الدهون. وفي غضون ذلك، ستتقلص أحشاؤها وتعود أمعاؤها إلى حالتها المائية وأعضاؤها الأخرى إلى حجمها السابق.
من وجهة نظر علمية تطورية، نجح سيكور في استنباط المنطق من هذا الانعكاس الهائل. لكنه لم يتمكن من فهم الطريقة التي تتبعها الثعابين لإدارة وجباتها. وللأسف، لم يستطع العلماء الآخرون مساعدته. وبرأي سيكور، "إن بذل كل هذا المجهود هو هدر كبير للطاقة. فلمَ ينبغي على الثعابين إنتاج كل هذا الكم من الطاقة وهي ليست في حاجة إليه"؟
وعندما عرض سيكور على علماء الأمراض صوراً لأمعاء ثعابين متقلصة، ارتبكوا وقالوا له: "حيواناتك مريضة والأغلب أنها تحتضر. فجحافل الطفيليات تمزق أمعاءها". أجابهم حينها بـ"كلا، إنها بصحة جيدة". فهزوا برؤوسهم وتركوني لحال سبيلي"، على حد تعبيره.
وحين أدرك سيكور أن ليس بوسعه الوصول إلى أبعد من هذه النتائج بمجرد احتساب كمية الأوكسيجين التي تتنشقها الثعابين وفحص أمعائها تحت المجهر، لجأ إلى زملائه المتخصصين في الحمض النووي وسألهم عما يُمكن فعله لتتبع طريقة عمل جينات الثعابين أثناء الهضم. "فأجابوه بأن ما يطلبه شبه مستحيل وقد يستغرق تحقيقه سنوات وسنوات وسنوات من التدقيق العميق في كل جين على حدة"، قال سيكور مستذكراً.
وفي عام 2010، التقى سيكور بالخبير في تسلسل الحمض النووي للزواحف، تود كاستو الذي رحب من دون تأخير بفرصة مساعدته في فهم ما يجري مع ثعابينه. فـ"التمثل الغذائي مجنون، والواقع أن جزءاً كبيراً منه مبالغ فيه وغير متوقع"، أوضح كاستو الذي يُدرس في "جامعة تكساس" (University of Texas) في أرلينغتون.
وبدأ سيكور في التعاون مع كاستو لدراسة الثعابين على المستوى الجزيئي. وفي عام 2013، نشر الرجلان مع زملائهما الجينوم الخاص بالثعبان من نوع بياثون بورمي. وبعدها بسنوات، أصدرا قائمة مفصلة بكل جين من الجينات التي قد تستخدمها الثعابين لهضم الطعام.
وبفضل هذه القائمة، يتتبع العلماء اليوم كيفية استخدام هذه الجينات. أما سيكور وطلابه، فيستمرون في تشريح الحيات والأفاعي المختلفة سواء أخلال فترة صيامها أو بعد تناولها وجبة، متفحصين كل عضو من أعضائها ومحتفظين بعينات قد تفيدهم في دراسات لاحقة.
"كل شيء مخلل أو مجمد"، ذكر سيكور الذي يقوم بإرسال بعض العينات إلى تكساس، حيث يتولى كاستو وفريق عمله استكشاف خلايا الثعابين والعثور على إشارات جزيئية تنشط لها الجينات في أعضائها المختلفة.
وكانت صدمة كبيرة للباحثين لما تبين لهم بأنه، وبعد مرور 12 ساعة على ابتلاع الثعبان لفريسته، تنشط مجموعة كبيرة من الجينات في أجزاء مختلفة من جسمه. "ولا تظنوا بأننا نتكلم عن 20 أو 30 جيناً، العدد أكبر بكثير ويصل إلى حد ألفين وثلاثة آلاف جين"، أكد كاستو. بعضها مسؤول عن النمو، وبعضها الآخر مسؤول عن إصلاح تلف الحمض النووي ويستجيب للتوتر والإجهاد. إنه خليط غريب لم يشهد العلماء له مثيل في الحيوانات من قبل.
وبحسب كاستو، فإن الأفاعي تستخدم جيناتها الخاصة بالنمو بكثافة أكبر من أي طفلٍ بشري في طور النمو؛ ومن شأن هذا الأمر أن يسمح لها بمضاعفة حجم أعضائها في ظرف ساعات وأيام. ولكن حالة النشاط المتصاعدة هذه لا تأتي إلا بثمن: فالخلايا تنمو وتنقسم بسرعة فائقة لا تسمح لها بتوخي الحذر. لذا ينتج منها الكثير من البروتينات المشوهة التي قد تُلحق الضرر بالخلايا.
ولما تتقلص الأعضاء المنتفخة وتعود إلى حجمها الطبيعي، تعمد الثعابين بكل بساطة إلى تعطيل عمل جينات إصلاح الحمض النووي حتى لا تعود خلاياها محمية من أضرارها الذاتية. "ولولا أنها تفعل ذلك، لانهار نموها"، فسر كاستو.
ويُعتبر الصيام المتقطع نمط عيشٍ غير عادي حتى في صفوف الثعابين، بحيث لم يتطور سوى مرات قليلة فقط. ومع مراقبة العلماء لثعابين صائمة أخرى، لاحظوا بعضاً من التغيرات المذكورة أعلاه في نشاط جيناتها. وها هم يصبون اليوم جام تركيزهم على دراسة هذه المجموعة الصغيرة من الجينات.
"الأمر أشبه بمحاولة تقطيع الفطيرة التي لا نُريد منها سوى القطعة التي تحتوي على أكبر قدرٍ من العصارة"، علق كاستو. ولو تسنى له ولسيكور استيعاب حقيقة ما يحدث داخل الثعابين، فقد يكون هناك أمل كبير بالعثور على قوى مماثلة في أجسامنا البشرية، كيف لا ونحن نتشارك جينات عدة مع الحيوانات.
ولو صدق العلماء في توقعاتهم بأن الثعابين تُنسق تحولها بواسطة عدد قليل من المحفزات الجزيئية وبفضل قدرة بعض الجينات على تفعيل الجينات الموجودة داخل أحد الأعضاء وتنميتها. ولو تمكنوا في يومٍ من الأيام من تحديد هذه المحفزات، فقد يُتيحون لأهل الطب القدرة على تجديد الأنسجة التالفة في جسم الإنسان.
وفي المقابل، قد يتوصل أهل الطب إلى محاكاة الطريقة السريعة - لكن الآمنة - التي تعكس بها الثعابين نموها وقد يجدوا في تركيبتها البيولوجية أدلة على كيفية ضبط النمو العشوائي لأمراض السرطان. "لو حصلنا على الإجابات الشافية لكل هذا، سوف يكون لدينا على الأغلب أدوية علاجية للقضاء على عشرات الأمراض".
قال كاستو هذا الكلام مع أنه يرى أن الطريق لا تزال طويلة قبل التوصل إلى مثل هذه الفوائد. فهو حتى هذه اللحظة، لا يمتلك هو أو أي من زملائه أدنى فكرة عن المحفزات داخل الثعابين.
ولكي يعرفوا، هم يعملون حالياً على مراقبة الثعابين بعد مرور ساعات معدودة على التهامها الفرائس. وقد تمكنوا حتى الآن من ملاحظة بعض التغيرات في الخلايا. لكن هذه التغيرات تحدث بصورةٍ سريعة جداً لتكون نتيجة نشاط جيني. الأرجح أنها نتيجة قيام الثعابين بإعادة ترتيب البروتينات الموجودة أصلاً في خلاياها، حتى تقوم بأمورٍ جديدة.
"كان بودي أن نرسم المسار من بدايته إلى نهايته. ولكننا لم نقترب بعد من حل كل اللغز"، ختم سيكور.
© The Independent