للقاصة والروائية المغربية ربيعة ريحان، مكانة محترمة داخل المُنجز الروائي المغربي المعاصر، على الرغم من الغياب المخيف الذي أحدثه فقدان أحد أفراد عائلتها. ولا يزال اسمها مُتداولاً داخل الأوساط الثقافية المغربية، كصاحبة تجربة روائية قلّما يجود بها الزمن المغربي اليوم الغارق في الترفيه والاستسهال لجنس الرواية بوصفها موضة، قد تمنح لكاتبها شرعية الذيوع، انطلاقاً من الجوائز السخية التي باتت تحظى بها الكتابة الروائية على حساب أجناس أدبية أخرى. وهي في مجملها مجرد "بضائع" ثقافية يتم تسويقها مثل أيّ منتوج آخر، وغالباً ما يتم طمس ذكرها بمجرد مرور بعض الأشهر، لتطفح رواية أخرى على السطح وتُعيد معها الحياة مرة أخرى.
غير أن الأمر لدى الروائية المغربية ربيعة ريحان في روايتها الجديدة "الخالة أم هاني"(2020) الصادرة حديثاً ضمن منشورات دار العين (القاهرة)، تأخذ طابعاً مصيرياً وجدياً وهي تعمل على الحفر أنثروبولوجياً في بنية المتخيّل النسوي المغربي. وهي تستند بشكل دقيق ومُكثف إلى آلية الحكي، وما يُتيحه من قدرة هائلة على البوح عن طريق شخصيات، هي في مُجملها تنتمي إلى قاع المجتمع المغربي. كما أن فعل الكتابة لدى ربيعة ريحان في "الخالة أم هاني"، يتسم بطابع أركيولوجي، يقوم على الحفر في هذا المُتخيّل المكبوت من المجتمع المغربي، الذي لم تستطع لا الكتابة التاريخية ولا الأنثروبولوجية، بسبب تقريريتهما القبض على تفاصيل صغيرة من حياة الناس وإعادة بنائها بطريقة مُتخيّلة، يُصبح فيها فعل الكتابة ضرورة وجودية وليست معرفية. هكذا تُعيد ربيعة ريحان استكشاف عوالم حقيقية، ظلت مُهمشة وفي حكم اللامفكر فيه من تاريخ المغرب، وحتى الأشياء المُضمرة منه، لم يقربها المؤرخ بسبب حساسيتها، كما هو الأمر في قضية المرأة وعلاقتها بالمُحيط الذكوري القهري، الذي تترعرع فيه.
لكنّ الكتابة الروائية عند ربيعة ريحان في روايتها تستعيد عنفوانها وسحرها عن طريق اللغة ويتأتى لها الحق في استعادة مجد هؤلاء النساء وجعلهن يعتمرن قبعة الحكي ويجلسن على عرش التاريخ والمركز. كأنها تنفض عنهما هسيس الجرح، محاولة إبراز أدوارهن وقيمتهن داخل المغرب، منذ منتصف الثاني من القرن العشرين إلى حدود الآن.
التاريخ والتخييل
نادراً ما نعثر على رواية تتشرب التاريخ وتعمل على تخييله، من دون أن تقع في فخ الأرشيف وجفافيته، فاللغة هي ما يمنح لهذا التاريخ سحره والكتابة الأدبية بالضبط، هي ما يُحرّره من أساطيره، إلاّ أن التاريخ في "الخالة أم هاني" لا يُسيطر بشكل كليّ على تضاريس النصّ الروائي، بل يعمل كموتيف جماليّ خفيّ يمنح النصّ واقعيته وامتداده، ضمن صيرورة المجتمع المغربي. لكن طرق تفكير الروائية جعلته تاريخاً مُتخيلاً أو بالأحرى تاريخاً لا يرصد مراحل مدينة آسفي كرونولوجياً، وإنما استشكال مُتخيّل المدينة أنثروبولوجياً من خلال استحضار بعض العادات والتقاليد من أكل ولباس ولغة المحكي اليومي وغيرها من الأمور الأخرى المُرتبطة بالحكايات والأمثال الشعبية. وتعمل ربيعة ريحان داخل جميع فصول الرواية على استحضارها وجعلها تؤتث فضاء الرواية جمالياً ومعرفياً. على الرغم من أن استعمال لغة الكلام المحكي اليومي داخل الرواية المغربية ليس بجديد وتعرفنا على ذلك بشكل أقوى في كتابات محمد زفزاف ومحمد شكري وبقية الروائيين المغاربة من الأجيال الجديدة. لكن ربيعة ريحان، لا تُحاول أن تستطرد في استحضار هذه الموروث الشعبي المغربي، إلا بالطريقة التي تجعل من فضاء مدينة آسفي يتسم بأبعاد غرائبية وتاريخية وأنثروبولجية، لا تزال إلى حدود اليوم حاضرة في مخيال سكان المدينة وما يُجاورها جغرافياً. كلّما همّت شيماء في الحديث عن شخصية "الخالة أم هاني" التي تُحبها وتعتبرها قدوة لها بسبب حبها وجمالها وشغفها بالحياة على الرغم من مظاهر الرفض والاحتقار والمذلة، الذي يُوجه لها بسبب طلاقها لأكثر من خمس مرات، إلاّ ويتشعب خيط الكلام ويتدفق مثل شلال حكي، يضيق معه مفهوم الوصف.
يُعزى ذلك في كون ربيعة ريحان، تعمل على تسليط الضوء على نموذج (الخالة أم هاني/ المفروحة) من النساء خلال القرن العشرين داخل المغرب، وما ظلت تعانيه المرأة في إبان ذلك من سلطة مجتمع ذكوري ومن عادات وتقاليد ظالمة في حق المرأة، ترى أن لا حياة لها إلاّ بالزواج والإنجاب وتكاثر النسل، بخاصة أن المرأة المُطلقة في المخيال المغربي "عاهرة" ولا تصلح للزواج مرة أخرى، إلاّ في حالات نادرة جداً تُزكيها التربية والتنشئة الاجتماعية السلبية التي تتلقاها المرأة منذ ولادتها. وكيف أن تقاليدنا لا تُعطي للمرأة حقها في التعبير عن جسدها وما يرّج في كيانها من لحظات آسرة، تُحاول من خلالها إتباث نفسها للعالم، بل وتُقدّم نفسها ككائن اجتماعي لا ينفصل عن المجتمع الذي تعيش فيه.
تحرير المرأة
هكذا تبدو الرغبة عارمة بين أنامل ربيعة ريحان، وهي تدعو بشكل مُبطّن إلى تحرير المرأة من كبتها ومن البدع الأخلاقية ومن التنميطات الأقنومية التصغيرية، التي تلجم حريتها وتجعلها تابعاً للرجل، بخاصة أن تاريخ المغرب الحديث حافل بهذا الاحتقان ضد المرأة.
لكن ونحن نقرأ أحاديث "الخالة أم هاني" يستيقظ فينا جرح المجتمعات العربية الذكورية، وكتب كثيرة من الرحالة خلال القرن التاسع عشر وبعض تقاريب الضباط الفرنسيين والإنجليز مع بدايات القرن العشرين داخل أبحاث أنثروبولوجية بامتياز، تناولت قضية المرأة العربية وحريتها التي ظلت مُرتبطة بمؤسسة الزواج، التي تُغذيها النصوص الدينية. وجميع هذه البحوث الأنثروبولوجية، لم تعمل سوى على تأجيج فكرة المجتمع الذكوري، الذي يعمل على تملك المرأة وحريتها وفق أشكال معينة من الاستغلال السياسي(المصاهرة) والنفسي والاجتماعي. على الرغم من أن مجمل الأعمال الروائية العربية، التي تناولت بين ثناياها مسألة المرأة والتحرّر، لم تخرج من التأثير الغربي وتصويره للمرأة، وظلت في أحيان كثيرة تعيد إنتاج نماذج جاهزة لمساراتها وقدرتها على التحرّر داخل بعض المجتمعات الغربية. وهي صُوَر لا تحاكي طبيعة المرأة العربية وخصوصياتها ولا تراعي الأبعاد السياسية والتاريخية والاجتماعية والثقافية، لأنهم اكتفوا بصورة تحرّر المرأة داخل بيئة معينة عوض البحث عن حقيقتها.
وهذا الأمر، فطنت إليه ربيعة ريحان في أحاديث الخالة، فحاولت التفكير في قضية المرأة داخل مدينة آسفي بالضبط، عاملة على إستشكال المخزون التاريخي والنفسي والشعبي النسوي المغربي، الذي يؤسس لصورة المرأة داخل مجتمع تقليدي قبيل الاستقلال.