Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرصاصة الطائشة تسبب نجاح المسلسل اللبناني "بالقلب"

قضية وهب الأعضاء في معالجة درامية متقنة وممثلون يرتقون بفن الأداء

الممثلة سارة أبي كنعان امام زوجها المصاب برصاصة طائشة (موقع الإنتاج)

ينطلق الكاتب طارق سويد في المسلسل الذي وضعه بعنوان "بالقلب" (محطة إل بي سي) من حادثة كثيراً ما عانى – ويعاني- منها اللبنانيون، هي الرصاص الطائش الذي يطلقه في الهواء أشخاص متهوّرن وموتورون، في الأعراس والمناسبات السعيدة وكذلك في الجنازات، فينهال على أناس أبرياء، يقتلهم أو يجرحهم. هذه الظاهرة المرضية التي تعمّ لبنان، أفراداً وجماعات، كانت منطلق المسلسل وليس هدفه أو موضوعه الرئيس. وقد جعلها الكاتب ومن ثم المخرج جوليان معلوف، ذريعة لمعالجة قضايا أخرى مثل وهب الأعضاء والحمل اللاشرعي والحبّ والخيانة، عطفاً على صراعات إنسانية واجتماعية تحفل بها الحياة عادة. بدا النص واقعياً ووفيّاً لواقعيته غالباً، فلم يتغرّب ولم يتمَسْكَك (الدراما المكسيكية) ولم يَتَتَرْكن (الدراما التركية) مقدار ما أمكنه، ليخلص إلى التجذّر في بيئة حقيقية، لبنانية صرف ومسيحية تحديداً، بعيداً من الشعارات الوطنية المصطنعة التي تقع فيها أعمال درامية عدّة.

يكسر المسلسل بعض المحرّمات أو التابوات التي ما زالت تتحكّم بـ"العقلية" اللبنانية: الشاب ناهي (وسام فارس) يقع في حب الشابة ديانا (سارة ابي كنعان) التي هي ابنة زنى وأمها السيئة السمعة (دارين الجندي) حملت بها من عشيقها (حسان مراد)، فيتزوجها على الرغم من الاعتراض الشديد من أهله، خصوصاً أمه (نوال كامل) التي تعلم بالسر أن ديانا هي ابنة خال زاهي، فوالدها الهارب ليس سوى شقيقها. يسقط العريس الشاب ناهي الذي تحدّى عائلته، برصاصة طائشة، ويكون موته نقطة التحوّل التي تنبثق منها أحداث ووقائع ومفارقات، تتشابك وتتقاطع. العروس ديانا التي فقدت عريسها الشاب تعيش مع عمتها فريال (كارمن لبس) وأبيها السِكّيرالذي تكتشف في الختام أنه ليس أباها وأن أمها الهاربة تزوجته لتستّر حملها ثم تركته. ولا تلبث ديانا التي تظل وفية لزوجها الميت أن تتعرّف إلى جواد (بديع أبو شقرا)،  المهندس الذي اقتحم حياتها وفي ظنه أنه يحمل قلب زوجها المقتول، بعدما تمّ التبرع به، فحين قُتل ناهي، خضع جواد لعملية زرع قلب.

انطلاقاً من هذه المعادلة، ترتسم بنية المسلسل وتتداخل العلاقات: فريال تحبّ جريس (غبريال يمين) الذي تركها عشية العرس وسافر وتزوج وأنجب ثم عاد بعد عشرين عاماً، مريضاً ليعتذر منها ويؤكد لها أنه ما زال يحبها، لكن فريال تتخبّط في حال من الحيرة العاطفية، فهي تكرهه وتحقد عليه ولكنها ما زالت تحبه.  الشاب جواد خاطب وخطيبته (ألين لحود) التي تتقاسم معه ومع ابن عمه (دوري السمراني) أسهم الشركة، تدفع ثمن حبه المجنون للأرملة الشابة. ابن عمه أيضاً يدفع ثمن هذا الحب بعدما وقع أيضاً في غرام الأرملة "غير السعيدة"، ويعيش صراعاً قوياً بين محبته لابن عمه وغيرته منه. الممرضة ستيفاني عطالله، شقيقة العريس القتيل تقع أيضاً ضحية خيانة يرتكبها خطيبها الطبيب مع صديقتها (دانية مروة) وتعيش تجربة مريرة مع شاب يعمل في المستشفى، كانا على علاقة حب بريئة وعابرة، يخطفها وينتحر أمامها. آمال الأم الهاربة (دارينا الجندي) تعيش قصص حب، إحداها ملفّقة ومدبرة مع رجل تحاول سرقته قبل أن يرديها عشيقها الأول خطأ، بينما كان يريد قتل ديانا، ابنته التي يجهلها، بتحريض من شقيقته أم ناهي، ذات السلوك العنيف، انتقاما لابنها القتيل.

ربما لا جديد في أجواء القصة المركّبة وفي مساربها أو تقاطعاتها سوى قصة الرصاص الطائش ووهب القلب الذي يعني الحياة والإشكال الذي يحيط بهذا الامر، فموت شخص يعني حياة شخص آخر، وهذا الشخص الآخر يحلّ محلّ الميت في حب زوجته الأرملة، لكنهما يكتشفان في الختام أن خطأ ما وقع، فالقلب الذي يحمله الحبيب ليس قلب الزوج المغدور، بل قلب شخص آخر، لكن الحب ينتصر على الرغم مِمّا أوقع من ضحايا. وقد عالج الكاتب والمخرج هذه الموضوعات (التيمات) بواقعية، متّكئاً على مواقف وجدانية وإنسانية ونفسية، وعلى ردود فعل طبيعية ومواجهات غير مفتعلة.

قوة التمثيل

وإذا كان الإخراج وفيّاً للنص والسيناريو، وإذا بدا المخرج والكاتب شبه متعادلَيْن في إيجاد الصيغة الدارمية المؤاتية للموضوعات هذه، فيمكن القول إن التمثيل في المسلسل كان أشبه بنقطة الثقل والأساس الذي أسهم في ترسيخ نجاح المسلسل. كوكبة من الممثلين اللبنانيين ينتمون تقريباً إلى جيل واحد، هم:غبريال يمين، كارمن لبس، دارينا الجندي، بديع أبو شقرا، حسان مراد. ولا أدري كيف يضعون في الجنريك مثلاً اسم غبريال يمين، الممثل الكبير الذي يملك حضوراً فنياً راقياً، بعد أسماء لا تبلغ قدراته وموهبته الكبيرة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى دارينا الجندي وحسان مراد، الاسمين اللامعين في حقل التمثيل المسرحي والتلفزيوني والسينمائي. هؤلاء الأربعة تليهم كوكبة أخرى من ممثلين ينتمون إلى الجيل الجديد غير المحدّد عمراً، وفي طليعتهم الممثلة سارة أبو كنعان وستيفاني عطالله ودوري السمراني ووسام فارس وألين لحود... وبرزت أيضاً ممثلات من أجيال مختلفة: نجلاء الهاشم في دور الأم العجوز الفاقدة الذاكرة، نوال كامل في دور الأم المضطربة والشرّيرة وسمارة نهرا في دور الصديقة الفضولية والثرثارة.

قد لا تحتاج كارمن لبس إلى مديح، فهي دأبت في السنوات الأخيرة على فرض نفسها ممثلة متفرّدة صاحبة حضور مشرق، على الرغم من اعتمادها بعض التعابير القليلة المكرّرة في ملامح وجهها في لحظة ردّ الفعل على موقف أو حادثة، . أما بديع أبو شقرا، فأدّى دوراً مهماً جداً في مساره الدرامي ويُحسب له، فهو ممثل يملك سرّ الأداء والتقنيات الدرامية ويجيد التفاعل مع الشخصية وعيشها. وصادف أنه كان يؤدي دوراً بطولياً آخر في مسلسل عُرض في الوقت ذاته على قناة "أم تي في" هو "بردانة أنا" مع الممثلة كارين رزق الله، وكانت المقارنة بين المسلسلين لصالح "بالقلب" طبعاً، خصوصاً أن بديع أطلّ فيه مع الممثلة سارة أبي كنعان التي تفوق كارين رزق الله في أدائها الجميل والمتين وفي القدرة على منح الشخصية بعدها النفسي والتعبيري، بينما تقع رزق الله دوماً في التسطيح والافتعال وادّعاء النجومية. وقد تكون سارة أبي كنعان التي شاهدتُها سابقاً في مسلسل "الشقيقتان" و"ثورة الفلاحين"، "نجمة" المسلسل، وهذا لا يلغي بتاتاً "نجومية" الآخرين ( بديع وكارمن وغبريال...) وأستخدمُ هنا كلمة "نجمة" في المعنى الإبداعي وليس في المعنى الرائج عندنا الذي أفقد هذه الكلمة مضمونها الحقيقي. سارة أبي كنعان لم تؤدِّ دوراً واحداً، بل أدواراً متعدّدة داخل الدور الواحد، وعاشت مواقف عدّة، وواجهت صدمات عدّة، وقد نجحت كثيراً في جعل هذه الصدمات نوعاً من "بيريبثيا" (كما يُقال في النقد المسرحي) أي حافزاً على "التحوّل" الداخلي والانقلاب أو الانتقال من موقع إلى موقع. بدت هذه الممثلة الجديدة (هل هي من خرّيجي معهد الفنون؟) تملك فعلاً تقنيات التمثيل وأدواته التعبيرية ونجحت تماماً في مرافقة التحوّلات التي عاشتها شخصيتها، عيشاً "نفسياً واقعياً" (نتذكّر مقولة ستانيسلافكي حول "الواقعية النفسية") من دون أن تتخلّى عن البعد العفوي والحي  والانفعالي المضبوط في الأداء، فلم تقع لحظة في الافتعال أو التصنّع.

قد يكون مسلسل "بالقلب" واحداً من أنجح المسلسلات اللبنانية التي شاهدها الجمهور في الفترة الأخيرة، ولعلّ ما تميّز به هو تمكّنه من تقديم الواقع أو القضية التي يعالجها تقديماً حقيقياً وغير مشوّه، كما يتم عادة في الدراما اللبنانية العادية والهزيلة، إضافةً إلى اعتماده لغة تصويرية وتعبيرية جميلة ومتينة.

المزيد من فنون