في أوائل السبعينات، أخذت زائراً أميركياً في جولة حول بلفاست في ذروة الاضطرابات، كنت عشت هناك سنوات عدة أُحضّر الدكتوراه في جامعة كوينز، وكنت أعرف المدينة بشكل جيد.
أخبرته عن انقساماتها الدينية والسياسية والأماكن التي تعتبر خطيرة على نحو خاص، كنّا نسير بالقرب من منطقة ساندي رو البروتستانتية للغاية في جنوب بلفاست، عندما سألني صديقي بتوتر "ألم تقل إنّ هذا الشارع خطير؟"، أشّرت له قبالة الشارع، وكما لو أن الأمر معروف للجميع أجبته بالقول "لقد قلت إن ذاك الجانب من الشارع خطير، لكن هذا الجانب آمن تماماً".
غابت عني تلك الحادثة تماماً حتى صادفت الأميركي نفسه في الولايات المتحدة بعد 20 عاماً، وذكّرني بها. قال إن كلماتي أثارت إعجابه، لأنها أوضحت له الدقة التي رُسمت بها خطوط التماس بين الأراضي الوحدوية والقومية في بلفاست. فخلال الاضطرابات أصبحت المخاطر التي يشكلها الانتقال إلى أي مكان في المدينة مبرمجة في أذهان جميع سكانها كآلية بقاء بديهية، ومثل أي شخص آخر في المدينة، اعتدت إجراء تقييم تلقائي للمخاطر أينما ذهبت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعد هذه الحسابات اللا شعورية، والمنقذة الحياة على الرغم من ذلك، الاستجابة الحتمية للأشخاص المضطرين للعيش مع تهديد دائم لحياتهم ومعيشتهم. وعلى مرّ السنين رأيت نشاط الغريزة نفسها في بيروت وبغداد وكابول وعدد من المدن والبلدان الأخرى، حيث شعر الناس بالخطر.
وسوف تسير بريطانيا، في عصر فيروس كورونا، قريباً على النهج نفسه، مع تحوّل تهديد "كوفيد 19" إلى سمة من سمات الحياة اليومية. سيتعيّن على الناس تحديد المخاطر التي هم على استعداد لتقبُّلها ورسم حدود ذلك القبول. وكما حدث في إيرلندا الشمالية ولبنان، فإن التجربة ستعلّم الناس بسرعة كيفية التعايش مع المخاطر التي سيتعين عليهم مواجهتها على أساس يومي.
غادرت بلفاست عام 1975، وذهبت إلى لبنان في بداية الحرب الأهلية التي استمرّت 15 عاماً. وقد بدا لي كل شيء في البداية مرعباً بالقدر نفسه، إذ كانت القذائف تتساقط على ما يبدو بشكل عشوائي، وكان عناصر الميليشيات في نقاط التفتيش يطلقون النار ويقتلون، حسبما ورد، منتمين إلى مجموعات دينية وعرقية مختلفة بعد فحص بطاقات هُوياتهم الخاصة. لكن، بعد بضعة أسابيع كنت قد ميّزت في ذهني بين ما هو خطير حقاً، وما قد يبدو محفوفاً بالمخاطر، لكنه عملياً آمن نسبياً.
قد تجد أحد الشوارع في غرب بيروت فارغاً بشكل مخيف، لكنك ستجد الشارع التالي نشطاً بلا مبرر، ومزدحماً بالمتسوقين، وترى الناس يرتشفون قهوتهم في المقاهي، ويجلسون في المطاعم. كانت بعض الشواطئ مهجورة، لكن البعض الآخر كان مزدحماً بالمتشمّسين والسبّاحين. وقد ثبت أن هناك سبباً عملياً جداً لاختلاف تصوّر التهديد من مكان إلى آخر، مثل التركيبة الطائفية لذاك الجزء من المدينة أو اتجاه أو قرب القناصة ونيران المدفعية.
كان الأمن المطلق مسألة من الماضي، وكان على أهالي بيروت أن يتعلموا التعايش مع مستويات من القلق أعلى مما كانوا يرغبون.
تحذّر الحكومة البريطانية حاليّاً من مخاطر حتمية ستأتي مع تخفيف حالة الإغلاق وإعادة فتح المدارس جزئياً. لكن هذا في الحقيقة ليس خبراً جديداً بالنسبة إلى بقية الشعب، ولأنهم شاهدوا كثيراً من الأخطاء الحكومية منذ مارس (آذار)، التي جعلت بريطانيا تسجّل أعلى عدد وفيات فيروس كورونا في أوروبا، لم يعد الكثيرون منهم يثقون بما تقوله الحكومة عن المخاطر المحتملة، لذا سيتعين على الناس محاولة تقييم مستوى التهديد بأنفسهم، لكن تلك اللحظة لم تأتِ بعد.
وتختلف المخاطر على الأفراد بشكل كبير في هذا الوباء أكثر من الأوبئة السابقة، إذ تعتمد قابلية التأثر بالمرض على عمر الإنسان وصحته ومكان وجوده. وقد كانت الحكومة العديمة الكفاءة بشكل خاص في تحديد الأشخاص الأكثر عرضة للخطر، على الرغم من تعهداتها المبكرة القيام بذلك، ومع تحوّل الشعارات المتعلقة بحماية "خدمات الصحة الوطنية" إلى سياسات غير حكيمة تعطي أولوية لهذا الهدف، تمت إعادة المُسنّين والمرضى الذين لم يخضعوا إلى اختبارات كورونا من المستشفيات إلى دور الرعاية، إذ نشروا "كوفيد 19".
وقد أسهم ذلك في وفاة 12500 شخص ضعيف من الفئات العمرية المعروف بأنها الأكثر عرضة للخطر، علاوة على ذلك، كانت متوقعة الوفاة المبكرة لآلاف الأشخاص المريضين بشدة، الذين تأجّل علاجهم أو كانوا خائفين جداً من الاقتراب من أي مستشفى. وقد جرى الترويج لإنقاذ "خدمات الصحة الوطنية" كواجب شبه ديني، كما لو كان هذا مختلفاً عن إنقاذ الأرواح.
ويعتبر الذعر حالة لا يمكن تجنّبها خلال الجوائح على مر العصور، لكن عندما أغلقت بريطانيا بعد 23 مارس، استخدمته الحكومة من أجل ضمان الامتثال إلى تعليماتها. لكن الذعر والخوف لا يمكن إعادتهما إلى الخلف، وتعارض الحكومة الاعتراف بأن أفعالها كانت غير مدروسة ومفرطة، وأن احتواء المرض كان يمكن أن يتحقق من خلال استجابة موجّهة أكثر ومنظمة بشكل أفضل.
الأمر الأكثر إدانة للحكومة هو أنها كانت بطيئة للغاية في إجراء دراسات تجريبية لتحديد نطاق الإصابة والمخاطر التي تشكلها. لم يتّضح سوى الآن، من خلال دراسة أجراها مكتب الإحصاء الوطني في الأسبوع الماضي، أن "كوفيد 19" هو أبعد ما يكون من الانتشار على نطاق واسع كما كان يُخشى، إذ لم يُصب به سوى 0.27 في المئة من الأشخاص في إنجلترا خارج المستشفيات ودور الرعاية، وتعادل هذه النسبة حوالى 148000 مصاب من أصل سكان إنجلترا البالغ عددهم 56 مليوناً.
وإذا كانت أرقام مكتب الإحصاء الوطني صحيحة، لا سيما أنها من مصدر جيد، فإنّ التهديد خطير، لكنه بعيد عن الخطر الذي كان يحذّر منه الوزراء والمسؤولون. وبالمقارنة مع الأمراض الوبائية الأخرى فإن "كوفيد 19" يخص للغاية فئة عمرية معينة، ويقترب معدل الوفيات بسببه من الصفر عند بعض الفئات العمرية الأخرى، إذ جرى تسجيل حالتي وفاة فقط من بين 10.7 مليون طفل تحت سن 15 سنة، وعلى النقيض من هذا، تواجه الفئة العمرية فوق سن الـ 90 احتمالاً للإصابة والموت بالمرض قدره واحد من 81.
تعد هذه بالتأكيد أخباراً قاتمة للأقلية الأكثر عرضة للخطر، لكن الأرقام تظهر سخافة مقارنة ما يحدث بالموت الأسود في القرن الـ 14 أو الطاعون العظيم في عام 1665 أو وباء الإنفلونزا الإسبانية بين عامي 1918 و1919.
وعلى العموم، أظهرت الحكومة مستوى متسلسلاً من انعدام الكفاءة لم نشهد له مثيلاً منذ الحرب العالمية الأولى. ففي بلفاست وبيروت على الأقل كان يمكننا رؤية المخاطر المحدقة بنا، ويمكننا التصرف لتفاديها أو التخفيف من وقعها علينا. وعلى نحو مماثل، سيجد الناس في بريطانيا طريقة للتعايش مع فيروس كورونا، لغياب بديل لديهم، ولأن الفيروس لا يشكّل تهديداً وجودياً لهم.
ومع ذلك، يتطلب تقييم المخاطر الحقيقي معلومات صحيحة عن طبيعة الأخطار التي سيواجهونها، وهذه المعلومات هي ما فشلت الحكومة تماماً في توفيرها.
© The Independent