Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ركن في قرية" لكاميل بيسارو عند هدأة الطبيعة الواقية

بعيدا عن المدن وصخبها وسياساتها المجنونة

"ركن في قرية" (1877) لكاميل بيسارو

على الرغم من أن الرسام الفرنسي كاميل بيسارو يُحسب دائماً في خانة الانطباعيين لا سيما إلى جانب بول سيزان الذي ارتبط معه بصداقة طويلة سيقول النقاد إنها أفادت الاثنين معاً وأثّرت في فن كل منهما، فإن بدايات بيسارو الحقيقية كانطباعي لم تكن قبل بلوغه السابعة والأربعين، وبالتالي بعد سنوات من عودته من إنجلترا التي كان لجأ إليها خلال الحرب البروسية – الفرنسية من دون أن تضيف الفترة التي أقام فيها خلالها أي شيء إلى لغته الفنية التي كانت في ذلك الحين طبيعية النزعة. إذا في عام 1877 وتحديداً عبر لوحته ذات المقاييس الصغيرة نسبيا (نحو 55 سم × نحو 56 سم) "ركن في قرية" والمعروفة كذلك باسم "السطوح الحمر"، انتقل بيسارو في أسلوبه الطبيعي إلى تلك العوالم الجديدة التي كانت شديدة الرواج من خلال الشهرة التي كانت من نصيب مانيه ومونيه ورينوار وسيسلي وطبعاً سيزان في تلك المرحلة.

والحقيقة أن بيسارو لم يكن يبحث، من خلال ذلك الانتقال، لا عن الشهرة ولا عن الرواج التجاري. كل ما في الأمر أن إعجابه بسيزان والآخرين قاده إلى أن يجرب ملوّنتهم وخطوطهم وتعاملهم "الثوري" مع الطبيعة ومناظرها بعيداً عن ذلك الفن "الواقعي" الذي كان "يتابع الأحداث خطوة خطوة في وقت بات هناك للأحداث ولواقع الحياة وسائل أخرى تتابعها"، أي الفوتوغرافيا والسينما، بحسب تعبير لجون راسكين الناقد الإنجليزي الذي أتيح لبيسارو كما يبدو من خلال مراسلاته مع ابنه لوسيان، أن يطلع على كتاباته النقدية التي نعرف أنها كانت قد جرّت رساماً كبيراً آخر هو إنجليزي هذه المرة، تورنر، إلى ركاب الانطباعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انطباعية خاصة

ومع ذلك من الواضح أن "انطباعيّة" بيسارو تختلف كثيراً عن تلك التي وسمت تورنر من ناحية وانطباعيي الصالونات الباريسية الكبار من ناحية ثانية، حتى إن كانت تضاهيهم في البعد عن تلك النزعة الفوتوغرافية التي كان راسكين يرى أنها هي ما أغنى الرسم عن التمسّك بالواقعية أو حتى بالواقعيات.

وعلى الرغم من أن اللوحة التي نتناولها هنا تتسم بتجريبية "مونوكرومية" – أي أحادية اللون تقريبا – ما يبعدها كثيراً عن ألق الملوّنة الانطباعية المعتادة، فإنها تحمل العديد من الدلالات التعيينية، فهي من ناحية من خلال أغصان الشجر الكثيفة العارية والمتشابكة المهيمنة على البيوت، تفيدنا عن فصل السنة الذي صُوّرت فيه، ومن ناحية أخرى لا تأخذ من المنظر الطبيعي – الريفي الذي تصوره سوى جزءاً يسيراً (ركن من القرية) مفسحة المجال لحقول شاسعة تمتد إلى الأفق، مع تركيز على اللون البني الذي لا تقطعه سوى جزئيات من اللون الأخضر، ما يعكس خصوبة مدهشة لأرض من مهامها الرئيسة هنا أن تنشر الاطمئنان.

ومن البديهي أن هذه العناصر في تجمّعها هنا في المساحة الضيقة للوحة، إنما تصوّر نوعاً من لحظة هروب إلى طبيعة واقية يحاول الرسام من خلالها أن يصور تلك المصالحة مع النفس التي كان يستشعرها في تلك المرحلة من حياته بعيداً عن الصخب المديني والقلاقل التي كانت تغزو المدن لا سيما باريس في لحظة صعبة من تاريخها، بعد فشل الكومونة وما بدا واضحاً من تأجّل كل المشروعات التغييرية، ما جعل "أي زاوية هادئة في أي ريف تتميّز على فحش المدينة وسياساتها". أو هذا على الأقل ما كتبه يومها بيسارو لابنه لوسيان معلقاً على هذه اللوحة تحديداً.

مهما يكن فإنه إذا كان كل شيء في هذه اللوحة يقول إن بيسارو قد لا يكون الأشهر بين أبناء جيله، وأنه إلى هذا لا يمكن أن يكون، الأكثر ثورية بينهم، فإن في إمكاننا أن نؤكد هنا أنه كان في حقيقة أمره، الفنان الذي تعتبر سيرة حياته نفسها نموذجاً للبداوة التي كان لا بد للفن أن يسلك طريقها في زمن كانت فيه ثورة المواصلات على بساطتها في ذلك الحين، قد بدأت تقلب مفاهيم السفر والاستقرار فيما تقلب المخترعات البصرية الجديدة مفاهيم النظر. ولنتذكر هنا أن كاميل بيسارو، قد عُرف في بداياته بأنه "تلميذ كورو" قبل أن يختلف مع هذا الأخير ليصبح "صديق مانيه" وعدو كورو اللدود.

بداوة ما

ولم يكن ذلك بالتغيير الوحيد في حياة بيسارو، الذي وُلد ونشأ منذ طفولته، متنقلاً جوالاً لا يقر له قرار. فالطفل الذي ولد في عام 1830 في جزيرة سان - توماس في الآنتيل الدنماركية، لأم من أهل البلاد الخلاسيين وأب يتحدر من أصول يهودية برتغالية، توجه وهو طفل ليتلقى دراسته في باريس، ولم يعد إلى مسقط رأسه إلا وهو في السابعة عشر من عمره. لكنه حين عاد شكل خيبة أمل كبيرة لوالديه. فهما كانا يريدان منه أن يتولى إدارة دكان أبيه، أما هو فكان يرغب في أن يصبح رساماً، إذ في باريس كان قد أمضى معظم وقته وهو يتجول على المعارض والغاليرهات ما أقنعه بأن الرسم سيكون طريق حياته الوحيد. وإذ احتدم الخلاف بينه وبين والديه فرّ إلى فنزويلا مع رسام دنماركي صديق له، فما كان من الوالدين إلا أن أذعنا وصار بإمكان بيسارو أن يعود إلى فرنسا ليدرس الرسم جدياً هذه المرة.

وصل بيسارو إلى فرنسا في عام 1855، سنة المعرض العالمي، وهناك راح يدرس الرسم في الوقت نفسه الذي راح يشاهد مراراً وتكراراً أعمال كبار رسامي تلك المرحلة من ديلاكروا إلى كورو وانجيه وكوربيه وميياه. بيد أنه، رغم إعجابه بأعمالهم، كان يحس أن فيها قسطاً من النزعة الأكاديمية لا يناسب مزاجه الاستوائي ولا رغباته الفنية، وهكذا بعد أن تأثر خلال مرحلة أولى بكورو، اكتشف مانيه وفنه الـ"ما - قبل - انطباعي"، وأدرك أنه وجد سبيلاً جديداً لحياته.

منذ ذلك الحين لم يعد في إمكان شيء أن يوقف بيسارو عن الرسم، فهو الذي أفرط ثوريته على الكلاسيكية والأكاديمية، فكان ينادي بضرورة إحراق متحف اللوفر برمته. ويبدو أن ذلك الكلام أغضب القائمين على المعارض الموسمية الرسمية فراحوا يرفضون اشتراكه فيها، إلى أن قيض له أن يشارك في معرض "المرفوضين" في عام 1863، لتكون تلك المشاركة بداية شهرته، حين أصبح واحداً من الانطباعيين إلى جانب رينوار وسيسلي ومانيه ومونيه، واستقر في بلدة بونتواز القريبة من باريس، التي كانت معقل الانطباعيين في ذلك الحين.

صراع طويل مع الجوع

هناك ابتدأ صراع دام أكثر من ثلاثين سنة بين بيسارو والجوع والفاقة، صراع لم ينته إلا مع رحيل هذا الفنان المبدع فقيراً بائساً في خريف عام 1903. غير أن الفقر لم يمنعه من أن يرسم ويرسم من دون هوادة، وأن يتنقل بين شتى القرى والمواقع التي كان يقيّض للانطباعيين أن يعيشوا فيها على هواهم. في أثناء ذلك وسّع بيسارو من دائرة أصدقائه، وبدأ يرتاد حلقات الأدباء (إميل زولا وصحبه) والرسامين والنقاد وفناني المسرح، وهاجسه واحد: أن يجد بين أولئك الأصدقاء من يساعده على تجاوز أزماته المالية الدائمة. وكانت المساعدة تأتي دائماً عن طريق معاونته في بيع لوحاته، وإن بأثمان بخسة. كان بيسارو يبيع اللوحة بأيّ ثمن كي يتمكن من إنفاق ثمنها على طعامه وسكناه، وهو كما كان له أساتذة وأصدقاء كان له أيضاً تلامذة اتبعوا خطه الاستثنائي في عالم الانطباعية، ومن أبرزهم جورج سورا وبول سينياك اللذان استعارا منه أسلوب التنقيط، الذي بدأ يدخله إلى لوحاته في عقوده الأخيرة، ليطوراه.

في سنوات فان غوخ الأخيرة، ارتبط هذا بصداقة مع بيسارو الذي كان هو من آواه لدى الدكتور غاشيه. وكانت النتيجة أن نظم تيو، شقيق فان غوخ، معرضاً لأعمال بيسارو في باريس في عام 1890، كان فاتحة لاهتمام نقدي جدي بأعمال هذا الفنان. ولكن حتى ذلك الاعتراف لم يخلصه الفاقة والجوع، والمرض أخيراً، الذي قضى عليه وهو يمضي آخر سنواته في باريس.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة