Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الاثنا عشر" لألكسندر بلوك لمحو الحدود بين الثورة والجريمة

الشاعر يتساءل بسجنه العابر: أي مكان للمبدع في دولة الثورة؟

ألكسندر بلوك 1880- 1921 (ويكيبيديا)

تروي أرشيفات الاستخبارات السوفياتية السابقة (كي جي بي) المكتشفة بعد انفراط الاتّحاد السوفياتي أن جهاز التشيكا اعتقل ألكسندر بلوك عام 1919 وأودعه السجن لليلة واحدة، فوجد نفسه في رفقة الكثير من الثوريين وغير الثوريين المغضوب عليهم مثله، وإذ ساد بين هؤلاء جميعاً سجال حادّ حول الثورة وآفاقها، لاحظوا فجأة أن بلوك لا يشاركهم سجالهم، فالتفتوا إليه سائلين عن رأيه في ما يقولون، فإذا به يجيب بهدوء ومرارة "كل ما تقولونه مسلّ ومفيد، ولكن أسألكم: ما هو المكان الذي سيحوز عليه، في دولكم الثورية المستقبلية، المبدع ومهنته التي تحتاج منه إلى تجوال دائم؟". والحال أن بلوك، الذي كان قد آمن بالثورة طويلاً، كان في آخر أيامه قد بدأ بطرح أسئلته عن دور المبدع في الدولة القائمة نتيجة لاندلاع الثورة، وهذا ما جعله يقول قبل موته المبكر آسفاً "إن كل الأصوات توقفت. لم يعد هناك أي صوت...".

مدينة الثورة في زمن الإجرام

ومع ذلك قد يجدر بنا أن نعود عاماً قبل ذلك الاعتقال وثلاثة أعوام قبل رحيل بلوك المبكر، لنرى كيف تعامل الشاعر مع الثورة البولشفية التي اندلعت عام 1917 مستجيبة حينها لحماسة وإرادة كثر من المثقفين والمبدعين الروس ساروا في تأييدها في ركاب كثر من أبناء الشعب. فبلوك كان من الأكثر حماسة لتلك الثورة إلى درجة أنه كتب قصيدته الأقوى والأجمل "الاثنا عشر" من وحيها لتظهر في عام 1918 صاخبة مدهشة، بل غريبة استفزازية أيضاً، مثيرة في وجهه كثيراً من العواصف السلبية، لا سيما في أوساط رفاقه الثوريين أنفسهم، الذين "صدمهم" ذلك الحماس الماثل في قصيدة حوّلت بتروغراد الثورية إلى مدينة إجرامية، والثوار البولشفيك إلى رفاق للسيد المسيح يتجولون في الأزقة مرددين شعارات الثورة معتدين على المارة صارخين صراخ الانتصار. لقد كانت تلك هي الطريقة التي فهم بها ألكسندر بلوك الثورة وانتصارها في عمل أدهشه أن الثوار أنفسهم لم يتبنوه حتى وإن كان كثر من الفنانين بين مغنين وراقصي باليه ومسرحيين لم يترددوا دون الإسراع إلى التقاطه محوّلينه أعمالاً فنية متنوعة تحاول بدورها أن تعبّر عن حماس ثوري يبدو عصيّاً على الفهم.

الثوار "قبضايات" شوارع

تتحدث قصيدة "الاثنا عشر" عن مسيرة في طرقات بتروغراد يقوم بها اثنا عشر جندياً بولشفياً - على عدد تلامذة السيد المسيح طبعاً- غير مهتمين بزعيق الرياح والبرد القارص، بل بالانتصار الذي يحيّونه ويعبرون عنه. في طريقهم يروح الجنود الهائجون يهاجمون كل ما ومن قد يبدو لهم بورجوازياً أو معادياً للثورة. ففي رأيهم البسيط والهائج لا مكان في المدينة بعد الآن إلا للثوريين الخالصين الباحثين عن مستقبل وعدتهم البولشفية به. غير أنهم في لحظات معينة خلال مسيرتهم لا يفوتهم في بعض اللحظات أن يمارسوا "هدوءاً ثورياً" يقطعه بين الحين والآخر حادث عارض. ومن ذلك مثلاً حين تدور خناقة بين واحدة من فتيات الهوى تدعى ماري، تُتهم بقتل ضابط، وبين واحد من الحراس، ما يدفع واحداً من الجنود الاثني عشر، المدعوّ بطرس، إلى قتلها. وهو حين يُؤنَّب على ذلك من رفاقه، يعترف أمامهم بأنه كان يعرفها وكان يحبها، وأن قتله لها الآن لم يكن مصادفة. فيكتفي رفاقه هنا بتنبيهه إلى أن "الأمور الشخصية ليست ذات أهمية على الإطلاق في الأزمنة الثورية". وهكذا تواصل الجماعة مسيرتها الثورية وسط البرد والضباب والرياح العاصفة ليظهر السيد المسيح ذات لحظة وسط الضباب ويتولى قيادة المسيرة المظفرة بنفسه.

عواصف في وجه الشاعر

طبعاً كان لا بد لهذه القصيدة أن تثير من العواصف ما يوازي ما تمتلئ به من عواصف برد ورياح. ولكن ليس فقط من جرّاء جرأة موضوعها و"خرقه" كذلك - بحسب تعبير واحد من منقديها- بل كذلك من جراء الفحش الماثل في لغة الشارع التي اعتمدتها والأسلوب الخشن والفظ في تعبيرها عن الوضع بشكل عام. ومن هنا راحت الاتهامات تهطل على رأس بلوك مرة باعتباره يخدم النظام البائد في تشويه سمعة الثورة، ومرات بكونه لم يفهم شيئاً من الحسّ الثوري الجديد ومثله العليا التي "تحوّلت لديه إلى أفكار عبثية جديرة بالبورجوازيين الصغار". صحيح أن القصيدة نُشرت بعد كل شيء ورغم كل شيء في الصحيفة الثورية "لواء العمل" أوائل مارس (آذار) عام 1918. غير أن نشرها أسهم في اشتداد الحملة على بلوك، حيث قاطعه كل رفاقه من أبناء الإنتلجنسيا الروسية، من الذين كانوا قد اعتادوا التعامل معه بجديّة ووقار قبل ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بيد أن ذلك كله لم يبد عليه أنه أثّر فيه أو خفّف من عزيمته، إذ لو أننا تحرينا مسار الشاعر خلال الفترة نفسها سنجده وقد وضع نفسه كليةً في خدمة النظام الذي تناسى في المقابل كونه صاحب "الاثنا عشر" وراح يستفيد من حماسته، وقد وضع هو نفسه إمكاناته في خدمة السلطة الجديدة. إذ أنه، لفرط حماسته لثورة اعتبرته بطلاً من أبطال الحرية، قَبِل وظيفة رسمية متناقضة مع طبيعته، كما يقول الباحث ألكسندر لابزين، وشارك خلال ذلك مجموعة كلفت التحقيق في نشاطات وممارسات سابقة قام بها وزراء الإمبراطورية!

ويبدو أن هذه الوظيفة، أكثر من شعر ألكسندر بلوك كله، كانت هي التي جعلته يفوز برضى السلطات البولشفية، ويُعتبر واحداً من شعراء الثورة الكبار، ويؤبن لدى رحيله عام 1921 بوصفه واحداً من كبار المبدعين الثوريين الذين أنجبتهم روسيا، وتظلّ تلك هي سمعته وأهميته طوال عقود تالية من الزمن.

هل استحق شعره تكريمهم؟

فالحال أنه لو اكتفي بالنظر إلى ألكسندر بلوك من خلال شعره وحده، لما استحق ذلك التكريم الرسمي أبداً، بل لاستحق أن يعتبر معادياً للثورة بالأحرى! فالشاعر المولود عام 1880 في سانت بطرسبرغ، كان رومانسياً رمزياً في شعره، الذي كان قد بدأ يكتبه منذ اكتشف إمكانياته باكراً، حيث كان يدرس في ثكنة ويفكّر طويلاً وعميقاً في مصائره الشخصية، هو المتحدّر من أسرة تجاور فيها الجنون مع الثراء، وكانت رغم تأصلها في سان بطرسبرغ لا تنسى أبداً أنها ألمانية الأصل. ولقد كان بلوك في الثامنة عشرة من عمره حين كتب أشعاره الأولى وبدأ يدرس الحقوق التي سرعان ما تركها ليلتحق بكلية الآداب.

أما المرة الأولى التي نشرت فيها قصائده فكانت في 1903، وهو العام نفسه الذي تزوج فيه. ولقد أصدر بعد عامين مجموعته الأولى (وهي الأجمل بين أشعاره حسب نقاده) بعنوان "قصائد السيدة الجميلة"، واستقبلتها الأوساط الأدبية الروسية بحماسة شديدة أضفت على الشاعر مجداً مكّنه من أن ينشر بعد ذلك بسهولة وعلى التوالي، أشعاراً ومسرحيات، مثل "كوخ المعرض" (1906) و"سرور غير متوقع" (1907)، وقد كتبتا تحت تأثير خيبة أمله إزاء هزيمة ثورة 1905 التي كان آمن بها وناضل من أجلها بكل جوارحه. بعد ذلك لم يكفّ بلوك عن الكتابة، فأصدر "في ميدان معركة كوليكونو" (1908)، ثم المسرحية الشعرية "الوردة والصليب" (1915).

وهو بعد انتصار ثورة أكتوبر (تشرين الأول) انغمس في الكتابة مجدداً، لكن شعره ازداد رمزية وغنائية على عكس ما كان يمكن أن يُتوقع منه، وكان من الواضح أنه، منذ اللحظة التي انتصرت فيها الثورة، كان قد بدأ يطرح على نفسه أسئلة حائرة ومريرة، بخاصة مثلاً من خلال مسرحيته "رمسيس"، التي كلفه ماكسيم غوركي كتابتها، فإذا بها من خلال تعاطيها مع الزمن الفرعوني المصري تتساءل بقلق ومرارة عن مآلات ثورة بلاده. ولم يكن موته شاباً في الحادية والأربعين غريباً عن حيرة وقلق أيامه الأخيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة