Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الراوي يسرد ماضي الحرب كي يتخلص من أشباحها

سليم بطّي يرصد مصير اسرة في رواية "ثوب حداد ملوّن"

مأساة المخطوفين في الحرب اللبنانية (يوتيوب)

"ثوب حدادٍ ملوَّن" (نوفل / هاشيت أنطوان) هي الرواية الثالثة للروائي اللبناني سليم بطّي، بعد "لن أغادر منزلي" (2017)، و"فونوغراف" (2018). وهو، فيها، على غرار ما فعله في سابقتيها، ما يزال يدور في فلك الحرب الأهلية اللبنانية وتداعياتها، المباشرة وغير المباشرة، على ضحاياها، مع اختلاف الوقائع والشخوص، بين رواية وأخرى. ثمّة ماضٍ موجعٌ يطارد الكاتب، فيروح يكتبه، في نوعٍ من المازوشيّة، ليتحرّر منه. غير أنّ الماضي لا يكفّ عن مطاردته، وهو كلّما فعل، نراه يهرب منه إلى الكتابة. لذلك، يقول في الكلمة الأخيرة التي يُذيّل بها الرواية: "أنا في أمسّ الحاجة لأبتعد عن ماضيَّ وماضي مَنْ حولي. أحتاج نزهةً بعيدةً عن الورقة والقلم، بعيداً عن الفقد والتيه والحزن... وما الكتابة إلاّ كلّ ذلك".

في العنوان، يكسر الكاتب نمطية لون الحداد، فثوب الحداد عادةً ما يكون أسود. أمّا أن يجعله ملوناً، فلعلّ ذلك يعود إلى تعدّد الموتى موضوع الحداد في الرواية، أو إلى أنّ الذين وقع عليهم فعله، هم من الأطفال الذين لا "يليق بهم الأسود"، بالإذن من أحلام مستغانمي. والتفسيران نقع عليهما في متن الرواية.

عدد الأمكنة 

في المتن،  تدور أحداث الرواية، على المستوى المكاني، بين لبنان والعراق ودبي، ما يعكس تعدّدية المكان الروائي. وتحصل، على المستوى الزمني، في مرحلتين زمنيّتين طويلتين، تشمل الأولى العقد التاسع من القرن العشرين، أي مرحلة السنوات العشر الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية، وتشمل الثانية العقدين الأوّل والثاني من القرن الحادي والعشرين، أي المرحلة التي أعقبت حرب الخليج الثانية وتداعياتها التي ما تزال مستمرّة حتى اليوم، ما يعكس امتداداً زمنيّاً طويلاً، رغم حجم الرواية المقتصر على  مائتي صفحة ونيّف. ويتناول بطّي فيها تداعيات الحرب، المباشرة وغير المباشرة، على شخوص الرواية. وهم أسرة صغيرة مؤلّفة من والدين وثلاثة أطفال، يرصد هذه التداعيات، على المستويين الجسدي والنفسي، ويُسند إلى جيوفاني، الطفل الثاني في الأسرة، مَهَمَّةَ روي الأحداث التي عاشها أو شهدها، فيأتي الروي شهادةً صارخةً على بشاعة الحرب، وخطورة مضاعفاتها، وتأثيرها المستمر على الضحايا، حتى بعد أن تلقي أوزارها، بعشرات السنين.

  يشكّل مقتل الأب العائد من عمله نقطة انطلاق، على المستوى الوقائعي، يكون لها ما بعدها من نتائج وخيمة على الأسرة، لا سيّما أنّ شخصية الأب تلعب الدور المحوري في حياة أفرادها؛ فهو المعيل، والمؤنس، والمحبّ، والحنون، والمرشد. وتتمّ ترجمة هذه الصفات في النص من خلال: مشاركته الأطفال لعبهم، تجهيز الطعام لهم، كيّ ثيابهم، شراء الهدايا لهم، توجيههم لما فيه سلامتهم، ودسّ مصروف إضافي في حقائبهم خفيةً عن الأم. ولعلّ هذه الترجمة جعلته حاضراً في حياة الراوي، حتى بعد ثلاثين عاماً من مقتله. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بطّي يكسر الصورة النمطيّة للأب، المتداولة في الرواية العربية، فيسند إليه من الصفات والسلوكيات ما يتعلّق بالأمّ عادةً. ولعلّه يقوم بعمليّة تبادل أدوار بين وظيفتي الأب والأم في الرواية، وما ينطبق على شخصية الأب، في هذا السياق، ينطبق، بدوره، على شخصية الأم.

 دور الأم

تلعب الأمّ في الرواية دورها المحوريّ في حياة أفراد الأسرة لا سيّما بعد رحيل الأب، فتصطنع قسوةً هي ممّا يتناقض مع دور الأمّ الطبيعي. لذلك، نراها تتقشّف في التعبير عن عاطفة الأمومة، تعاقبهم بالخيزرانة عند أدنى خطأ، تزجرهم إذا ما نقلوا كلاماً يُشْتَمّ منه رائحة طائفية، ما أدّى إلى أن يكرهها أطفالها، ويعادل بعضهم بين "صياحها ونواح الحمام وعجيج القنابل وهرج الرصاص" (ص 65)، ويتمنّى بعضهم الآخر موتها. غير أنّها، في المقابل، تتفانى في تأمين لقمة العيش لهم، ولا تجعلهم يمدّون اليد لأحدٍ من أقرباء الأب، وتمارس الخياطة ليلاً لتؤمّن ما يَسُدّ رمقهم، و"تلمّ القرش على الآخر حجارةً تُعمّر بها ما انهدم بموت الأب" (ص 110)، وتجوع وتجوّعهم لتعلّمهم في مدارس خاصّة.  وكثيرًا ما كانت تلوذ بنفسها باكيةً خفيةً عنهم. ولعلّ هذا ما حدا بالراوي الذي تمنّى موتها، ذات يوم، للإقرار بفضلها والقول لاحقاً: "لقد صنعت منّي انسانًا حقيقيّاً" (ص 120). وتتوّج الأمّ تضحياتها بأن تُقتَلَ على أحد الحواجز الطائفية بينما تأتي بالطعام إلى أولادها، فتموت دون عيالها، و"من مات دون عياله فهو شهيد"، على حدِّ تعبير الحديث الشريف. 

 يشكّل مقتل الأم نقطة التحوّل الثانية في مصير الأسرة، فيصبح الأطفال بلا معيل، وتلقي بهم الأقدار بين يدي أسرة عمّهم التي كانت تقيم في شارع الحمرا في بيت العائلة الكبير الذي استأثر به العمّ دون أخيه القتيل، فيُمارَسُ بحقّهم التّمييز عن أولاد العمّ، في التعليم والمعاملة والاهتمام، ما يجعل عمر الأخ الكبير ينقطع عن الدراسة بعد نيله الشهادة الثانوية، ويقوم بالعمل لتأمين طلبات أخويه الصغيرين: جيوفاني ولميس، حتى إذا ضاق ذرعًا بالتّمييز الذي يمارس بحقّه وحقّ أخويه من زوجة العمّ وأولادها، يغتنم فرصة غيابهم عن البيت ويقوم بإضرام النار فيه، ويقتاد أخويه إلى بيت صغير استأجره في الدكوانة. ولعلّ هذا التصرّف يعكس التأثير النفسي للحرب على الجيل الشاب من ضحاياها، فلا يتورّع عن ممارسة الانتقام ورفع الظلم عنه بيده، الأمر الذي أقدم عليه عمر.

دور الأب

 يلعب عمر دور الأب الصغير لأخويه، فيسعى إلى تأمين كلّ ما يحتاجانه، ولعلّ هذه الحاجة مشفوعةً برغبةٍ مضمرةٍ في الانتقام من قتلة والديه، هي ما يدفع  به إلى الارتماء، في أحضان عصابة مسلّحة، تقوم بأعمال الخطف والقتل وتصفية حسابات الحرب القديمة، حتى إذا ما اختفى عمر، ذات يوم، ولم يعد، يُشكّل اختفاؤه نقطة تحوّل ثالثة في حياة الأخوين المتبقّيين من الأسرة، لميس وجيوفاني، فتسافر الأولى إلى العراق للإقامة مع أسرة خالتها ومتابعة دراسة الأدب الفرنسي. هناك، تلتقي بحسام، طالب الطبّ الذي يقوم بخطبتها، حتى إذا ما تمّ خطفه وقتله من قبل جماعة إرهابية، خلال الفوضى التي استشرت في بغداد، بعد حرب الخليج الثانية، تُصابُ بالانهيار، وتُوضَعُ في مِصَحّة نفسية. أمّا الثاني، جيوفاني، وقد تخرّج من دراسة الهندسة المدنية، فَيُسافر إلى دبي للعمل. هناك، يتعرّف إلى كارلا الفرنسية، المتحدّرة من أبٍ لبناني وأُمٍّ فرنسية، وينخرط في علاقة ملتبسة معها لأربع سنوات، لا تُؤتي ثمارها بسبب تردّده والرواسب النفسية الثقيلة التي راكمتها الحرب في أعماقه، ما يدفعها إلى التخلّي عنه والارتباط بغيره، الأمر الذي يزلزل كيانه. وتكون ثالثة الأثافي حين تغادر كارلا دبي فجأةً، ويروح يبحث عنها في كلّ مكان، حتى إذا ما ضاق ذرعًا بدبي وصقيع أبراجها، وعصف به الحنين إلى بيروت ودفئها، يعود إليها ليقيم في استوديو في الجمّيزة. وإذ يلتقي بكارلا، ذات صدفة، في مقهى في شارع الحمرا، تلك التي كان يرى فيها العائلة البديلة والأمان المفقود، وتعترف بخطئها في الابتعاد عنه، وتعرض عليه مداورةً وصل ما انقطع بينهما، يغادر المكان لا يلوي على شيء، ومع الزمن تذوب صورتها من رأسه. 

 وحدات سردية

بالانتقال إلى الخطاب الروائي، تقع الرواية في أربعٍ وثلاثين وحدة سردية، تتوزّع على أربعة فصول، بوتيرة تتراوح بين ثلاث وحدات للفصل الواحد، في الحدّ الأدنى، وتسع وحدات، في الحدّ الأقصى، مع الإشارة إلى تعدّد المشاهد الروائية ضمن الوحدة السردية الواحدة، وقد يقتصر المشهد على ثلاثة أسطر فقط، في إحدى الوحدات (ص 38). وهو، إذ يستخدم الترقيم للوحدات المختلفة ضمن الفصل الواحد، فإنّه يستخدم العنونة للفصول وأقسامها الداخلية بالإضافة إلى الترقيم. واللافت للانتباه أنّه لا يخلو عنوان من العناوين الداخلية باستثناء عنوان الفصل الأوّل من مفردة أو أكثر تحيل إلى الحقل المعجمي للوجع الناجم عن الحرب، وحسبنا أن نذكر المفردات التالية: الحزينة، مفقود، تائه، هرمة، الوجع، الأنين، شائكة، تبكي، عطشى، التي تشتمل عليها هذه العناوين، ما يجعلها مفاتيح مناسبة للمتون المختلفة. وتأتي المقتبسات الروائية الكثيرة التي يُصدّر بها الكاتب متونه لتضفي عليها ما ينسجم مع المناخ العام للرواية، ولتعكس ثقافة الكاتب السردية وَتَنوَّعَ مخزونه الروائي. وهو يسند مهمّة الروي إلى الشخصية المحورّية في الرواية مستخدماً تقنية الراوي الشريك، وحين تروي ما يتعلّق بالآخرين تُضيف إلى التقنية الأولى تقنية الراوي العليم. وهكذا، تجمع بين التقنيّتين، في آن. أمّا الاتجاه الذي تتّخذه هذه العملية المزدوجة، فكثيراً ما يكون الاتّجاه المعاكس لسير الأحداث الطبيعي، في مفارقة واضحة بين الوقائعي والفنّي، بين الحَدَثي والنَّصّي. لذلك، نراه يبدأ الروي من الآخر، على المستويين المكاني والزماني، يبدأ من بيروت في العام 2017، ويعود القهقرى إلى أمكنة سابقة وأزمنة ماضية، دون أن يعني ذلك أنّ هذه العودة خطّيّةَ الخطّ بل هي متكسّرة في كثير من الحالات. وبذلك، نكون أمام بنية روائية حديثة، تطيح البنية التقليدية المتعارَف عليها.

المزيد من ثقافة