Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كورونا يدفع البشر نحو الاحتماء بالطبيعة

أثرياء نيويورك يهربون إلى الأرياف والجبال الخضراء تواسي السعوديين وسوريون يعتصمون بـ"الضيعة"

الوضع في الريف السعودي جنوب البلاد يبدو أكثر هدوءً وأقل خطورة في هذه الأوقات (وزارة الثقافة السعودية)

في ظل شيوع مفردات كالعزل والتباعد الاجتماعي، ينمو شعور الناس بالارتباط بالطبيعة، كونها تمنحهم نوعاً من العزلة التأملية وسط المسطحات الخضراء، بعيداً عن المدن ذات النسب المرتفعة بإصابات فيروس كورونا، غير أن المثير في ذلك، هو تطرف كثير من الأفراد الذين لم تكن بدائلهم عبارة عن قضاء وقت أكبر بالحدائق القريبة منهم، بل قرروا مغادرة المدن، والاستقرار بالضواحي والأرياف المجاورة.

نيويورك فقدت جوهرها
لم تعد نيويورك وجهة مرغوبة للسياح، رغم أنها إحدى المدن القليلة التي يمكن القول عنها بأن مجرد التجول في شوارعها يعد متنفساً، فضلاً عن ركوب قطارها الذي هو ملمح من ثقافتها السياحية، لكن اليوم عربات الأنفاق متوقفة، وجنبات وول ستريت خالية من المستثمرين، وكورونا يقف كسمسار يقلب أسواق العالم رأساً على عقب بنزقه وعناده، بل إنه يأتي في زيّ وحش متنكر، يتلذذ في مباغتة ضحاياه، الذين وإن لم يعرفوا من أي طريقٍ يمر الموت، فإنهم يدركون أنه حولهم، وكلما ابتعدوا، قلَّ منسوب الخطر. 

لم ينفر كورونا السيّاح من نيويورك فحسب، بل حتى إن أهلها من الأثرياء، تتملكهم النزعة إلى الهروب نحو الأرياف بقصد الإقامة الطويلة، مودّعين قبلة الملايين التي تجمع في طياتها شتى تناقضات الحياة، بدءاً من سكينة "السنترال بارك"، وصخب "التايمز سكوير"، مروراً بناطحات السحاب التي تحجب بساطة الأحياء الفقيرة، بينما يُوقف كورونا شرايين المدينة، كما أوقف قلوب ما يربو على 15 ألف شخص من سكانها. 

ووفقاً لإحصاءات "نيويورك تايمز"، بلغ عدد المغادرين أكثر من 400 ألف شخص، اتخذوا خطوة بالتأكيد لم تكن سهلة بالنسبة لمن قضى عقوداً في رحاب المدينة التي لا تنام، قبل أن تدخل مع وجهات عالمية أخرى إلى الإغلاق التام، لتفقد بذلك ميزتها المتمثلة في الحركة النشطة، والفرص التواصلية الجمة، وفقاً لأحد سكانها الذي روى لـ"اندبندنت عربية"، كيف أدى حظر العلاقات الاجتماعية والمهنية إلى جعل نيويورك، محض كومةٍ من البنايات الأسمنتية الشاهقة. 

يقول سامي أحمد، الذي لم يمنعه الوباء من ممارسة الجري على ضفاف نهر هدسون الشهير، إن "رحيل الآلاف أمر طبيعي، فكل ما يدفع المرء إلى الاستقرار اختفى، المقاهي مغلقة، والمطاعم خاوية"، لكنه ومع ذلك لم يستسغ فكرة الانتقال، إذ لا ينفك عن إبداء تفاؤله بتحسن الوضع، وعلى الرغم من خلو الشوارع، ونشاط المواصلات الجزئي، فإنه يبدي دهشته من اكتظاظ الحدائق المجاورة لشقته، ونزوع الناس لممارسة رياضتي المشي والجري، بالإضافة إلى تمشية حيواناتهم الأليفة صباحاً، حيث يرتدي معظم المتجولين الكمامات، وسط التزام جمعي بقواعد التباعد الاجتماعي، وتجنب التجمعات قدر الإمكان. 

دافع آخر للرحيل غير انعدام التواصل، هو مشقة العيش دون ممارسة تصرفات من الممكن أن تزيد احتمال الإصابة بالفيروس، بداية بتجنب لمس أزرار المصاعد، ومقابض القطارات، وتحاشي الممرات المزدحمة من خلال سلوك طرق خالية، حتى لو أصبح المسار للمنزل أطول، وغيرها من الإجراءات الاحترازية المقلقة.

يبدي ماثيو سلايب، أحد سكان مانهاتن منذ 30 عاماً، في حديثه لـ"نيويورك تايمز"، استعداده للانتقال إلى منزل بمقاطعة ناسو في لونغ آيلاند، في وقت تشهد مدن الضواحي نشاطاً ملحوظاً زاد على إثره أعداد المغادرين بين منتصف مارس (آذار) الماضي، وأواخر أبريل (نيسان) الماضي، من نيويورك إلى ولاية كونتيكيت بواقع 74 في المئة عن العام الماضي، بالإضافة إلى زيادة 38 في المئة للمنتقلين إلى نيوجيرسي، و48 في المئة من نصيب لونغ آيلاند.

"الحزن يغمرنا"
من جانبها، تشبّه هانا فولكمان، موظفة في إحدى شركات الإعلام الجديد، الجو الحالي في نيويورك، بما شهدته إبان أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، حينما غمر المدينة الحزن من رأسها حتى إخمص قدميها.

تتابع، "هناك الكثير من التشابهات، وكثير من الحزن"، ضمن عوامل عديدة دفعتها إلى مقايضة شقتها في بارك سلوب بروكلين، بمنزل في مونتكلير بضواحي نيوجيرسي، غير عابئة حتى ببيعها، لرغبتها في الاستقرار قبيل بداية السنة الدراسية المقبلة. 

لكن، لا يمتلك الجميع القدرة المادية على امتلاك عقارين في وقت واحد، كما يواجه آخرون صعوبة في الانتقال بسبب توقف النشاط العقاري، وحظر العروض، وتعقيد العلاقة بين البائع والمشتري، وأظهرت البيانات أن معظم من يغادر على الأغلب من المستأجرين للسهولة النسبية في إلغاء عقود الإيجار.

وعلى الرغم من تزايد الهاربين من جحيم كورونا، والاعتقاد السائد بأن وطأة الفيروس أشد من أي أزمة أخرى، فإن، هل غافيز، المدير التنفيذي للتأجير بشركة دوغلاس إليمان، يتوقع مستقبلاً في ارتفاع أرقام المشترين والمستأجرين، ويستشهد بتجربتهم بعد الهجمات الإرهابية على برجيّ التجارة العالمية، عندما تقلص التعداد السكاني في مانهاتن قبل أن يتدفق الناس مجدداً.

تقول أثينا ويت، التي انتقلت هي الأخرى إلى كونيتيكت، إن كثيراً من المطاعم سيكون فتحها صعباً، مستبعدةً العودة قريباً، إذ إن من أسباب اختيارها مانهاتن، هي قدرة الاختلاط والتواصل مع الآخرين، وهو ما "لم يعد متوفراً، فما فائدة البقاء؟".

وتبدي شارون ميرفي، التي اعتادت تمشية كلبها في السنترال بارك، امتعاضها من اكتظاظ الحديقة الضخمة بأشخاص لا يرتدون الأقنعة، قائلةً "أحدهم يسعل بينما كلبي يقفز"، وتشير إلى أن امتلاك منزل كبير في عصر الحجر، صار أمراً ملحاً، لا سيما أن ابنتها أُرسلت للمنزل بعد إغلاق الحرم الجامعي، ما يعني ازدحام البيت الذي يقطنه أيضاً مراهق بالمرحلة الثانوية، معربةً عن نيتها الانتقال إلى هدسون فالي، بعد نحو ثلاثين عاماً قضتها في نيويورك. وأضافت، "أشعر أحياناً أنني في أمان في سيارتي فقط، ربما أذهب إلى المكان الجديد، ولا يعجبني ثم أعود إلى المدينة، لكني أشعر أن الأمر يستحق المحاولة".

كورونا يتسلل إلى الأرياف 
وسجلت بعض الولايات الأميركية زيادة في الإصابات بالمناطق الريفية، يمكن أن يكون سببها مغادرة أبناء المدن إليها، ووفقاً لإحصاءات حصلت عليها "وول ستريت جورنال" من جامعة جون هوبكنز، فإن الإصابات في المناطق الريفية، قفزت بواقع 30 في المئة خلال الفترة من 20 أبريل (نيسان) الماضي إلى 4 مايو (أيار) الحالي. ويبدو الخطر بهذه الأماكن محدقاً، لأن معظم من يقطنها من كبار السن، الأكثر احتياجاً للعناية المركزة، وأجهزة التنفس الصناعي في حالة الإصابة، كونهم ضمن الفئات المعرضة للمضاعفات الخطيرة الناتجة عن الفيروس، بالإضافة إلى ضعف الأنظمة الصحية، التي تمثل عاملاً مقلقاً للسلطات المحلية في مواجهة أي تفشٍ محتمل، خصوصاً أن عدد أسرّة العناية المركزة في المدن، أكبر بواقع عشر مرات من الأرياف.

وكشفت بيانات لموقع أكسيوس، نية ما يقارب الثلث من الأميركيين الانتقال إلى أماكن ذات كثافة سكانية أقل. وأفصح 39 في المئة من سكان المناطق الحضرية عن رغبتهم بالمغادرة لأماكن أقل ازدحاماً. وفقاً لدراسة شملت 2050 أميركياً أواخر أبريل الماضي، وتزداد هذه الرغبة بين فئتي الشباب من 18 – 34 عاماً، كما تظهر الدراسة بأن 43 في المئة من سكان المدن بحثوا في مواقع عقارية، مقابل 26 في المئة بالنسبة لسكان الضواحي، و21 في المئة لقاطني الأرياف، الذين أبدى 77 في المئة منهم، قلقهم من الإصابة بالفيروس التاجي إثر ارتفاع مستوى العدوى في بيئاتهم.

كورونا يتسلق الجبال السعودية
وفي جنوب السعودية، تخفّف الطبيعة وطأة الفيروس على السكان بمحافظة "رجال ألمع" التي تشهد هجرة عكسية. ويقول الكاتب لاحق آل هادي، إن البلدة شهدت عودة مجموعة كبيرة من الناس بسبب رغبتهم في قضاء عزلتهم بجوار المناظر الطبيعية الخلابة، والاستمتاع بالطقس المعتدل الماطر، وغيرها من الميزات التي لا تتوافر في الشقق الضيقة. يضيف، "خفّف سكني في مكان طبيعي معاناة حظر التجول، خاصة أننا هنا في السعودية، لم يسبق لنا وأن تعرضنا للحظر".

ويقضي آل هادي معظم وقته برفقة أسرته في المزرعة، لا سيما أن منازلهم في العادة ليست ملتصقة ببعضها البعض، مما يعطي حرية نسبية في الحركة، وعلى الرغم من عودة بعض سكان المدينة إلى بيوتهم الريفية، ومزاولتهم مجدداً الزراعة، وتنظيف أراضيهم استعداداً لموسم الصيف، فإنه يشدد على ضرورة تكثيف خدمات القرى، وتشجيع الناس على تأهيل المدرجات الزراعية، وإعادة ترميم المنازل المهجورة، مشيراً إلى أن توفر الخدمات الصحية والتعليمية والطرق والكهرباء والمياه، والإنترنت، سوف يُحدث هجرة عكسية من المدن إلى الأرياف.

الطبيعة البيت الكبير
وتصف القاصة عائشة عسيري، أجمل لحظاتها بأنها حين تنصت إلى جيرتها من العصافير المقيمة فوق شجرة السدر العتيقة المجاورة لنافذتها، بينما ترسم سماء الجبل الفسيحة الملبدة بالغيوم لوحة سريالية.

وقالت، "الإنسان ابن الطبيعة وربيبها كونها ملاذه الآمن، فبوسع من يقيم في شقةٍ مغلقةٍ ألا يرى سوى الشارع من نافذته، أن يرقب شروق الشمس كل يومٍ فيرى أملاً مقبلاً، وفرجاً قريباً، أيضاً بوسعه أن يرفع بصره للسماء ليرى القمر حين يطلع، وبوسعه كذلك فتح نافذته، لتتسلل له نسائم الطبيعة فتهدئ من توتره"، غير أن من أسعدهم القدر بالعيش في القرى، لا يمكن أن نقول إنهم يعيشون في عزلةٍ، بينما تحيطهم الطبيعة من كل جانبٍ، بل هم على حد تعبيرها، في جنةٍ صغيرةٍ، يعيشون أحراراً كطيور السماء، حتى ولو لم يغادروا بيوتهم، إذ إن بيوت القرى رحبةٌ، بأفنيتها الواسعةٌ، التي يشعر المرء فيها بأنه يجوب الأرض وهو لم يخرج من بيته.

وعن انعكاس مشاعرها المتأثرة بالأزمة على كتاباتها، فتقول إنها مزيجٌ من الألم الذي يسود العالم بسبب هذه الجائحة، ومزيجٌ من الأمل في زوالها، وعلى الرغم من أنها تكتب تحت تأثير مشاعر مختلطة، فإنها تحرص على عدم ظهور الألم للآخرين إلا في صورة أمل محض، مؤكدةً دور الطبيعة في الكتابة كونها رافداً مهماً للكتاب والشعراء والرسامين وغيرهم، كما أنها كانت ولا تزال ملهمةً لها بمكوناتها الفاتنة، واصفةً علاقتها ببلدتها بالارتباط الروحي القديم، الذي لا ترغب بهتكه خلال الأزمة من خلال نشر الروح السلبية بين قرائها، فعلى العكس تماماً، تُشير إلى عدم تطرقها لهذه النازلة إلا لماماً، من منطلق استشعارها خوض الجميع في الموضوع حتى أنه أُشبع كتابة وتحليلاً.

وتخلص عسيري إلى القول بأن ساكن القرية، لا يمكن أن يُعتبر معزولاً سواء أكان ذلك باختياره أو مضطراً لأن "الطبيعة هي بيته الكبير، وفضاؤه الرحب، والكتف الذي يستند إليه كلما أتعبته الحياة، فيبثها همومه في مناجاةٍ رقيقة ويطلق آهاته، فيسمعها تواسيه، وحين يفرح تفتح ذراعيها لاستقباله كذلك، بينما تتردد صدى ضحكاته بين جبالها الشم العالية".

كورونا يعيد الاعتبار لـ"الضيعة"
وفي سوريا، على الرغم من المعاناة التي يعيشها الريف السوري، وتبعات الصراع التي دفعت أبناؤه على الهجرة بحثاً عن العيش الكريم، بعدما شهدت الأراضي الزراعية التخريب والتدمير جراء النزاعات العسكرية، اتجه عدد من سكان المدن إلى الفرار إلى الريف على خلفية الإجراءات الاحترازية الخانقة، إلى جانب الازدحام، وارتفاع الأسعار، وكشف تقرير لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، عودة سوريين إلى المناطق الريفية، كونها ملاذاً أكثر حيوية من منازلهم في المدن، وتلفت سوزان، طالبة في كلية الفنون الجميلة بدمشق، إن أزمة كورونا دفعتها إلى تغيير بحث تخرجها، والكتابة عن الضيعة (الريف) عقب قضائها الحجر في بيت جدها باللاذقية. 

ويقول عابد إن شقته بالعاصمة أثناء الحظر تحولت إلى "عصفورية"، لفظ يطلق على المصحة النفسية في سوريا، في إشارة إلى حركة الأطفال ونشاطهم المقلق، ما دفعهم إلى تمضية فترة الحجر في "الضيعة" حيث المساحات الواسعة والأقارب، وكذلك يسر المعيشة في ظل انخفاض التكاليف. أما مواطنته سلمى، فتبدي تذمرها من تأهبها للعودة إلى دمشق، بعدما قضت عشرة أيام في ريف حماة، رغم رغبتها في إمضاء كامل شهر رمضان هناك، حيث تجنبت الازدحام وغلاء الأسعار، واستفادت من منتجات المزارع الطازجة من خضراوات وألبان.

واتخذ الفريق المعني بالسيطرة على فيروس كورونا في سوريا، عدداً من القرارات، على رأسها حظر التجول بجميع المناطق في الرابع والعشرين من مارس (آذار) الماضي، ومنع تنقل المواطنين بين مراكز المحافظات، والمناطق، والأرياف في جميع الأوقات لغير المصرح له، قبل السماح بذلك "اعتباراً من 30 أبريل (نيسان) ولغاية 2 مايو (أيار) الحالي، ولمرة واحدة فقط ليتسنى للأهالي السفر بين المحافظات بعد تحديد موعد امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، وإلغاء حظر التجول المفروض بين المدن والأرياف ضمن المحافظة الواحدة، كي يتسنى لأهالي الطلاب العودة".

إذا كان النزوح إلى الأرياف بسبب فيروس كورونا أمراً مثيراً، فإن موقفنا من المدن في المستقبل موضوع لا يقل إثارة، لا سيما أن تباطؤ النمو فيها لم يعد محض افتراض، بل صار واقعاً يتنامى إثر نية شركات كبرى، تبنّي العمل عن طريق الإنترنت، في خطوة ستغني الموظفين عن بذل التضحيات المثقلة لحياتهم الأسرية، والمتمثلة في الانتقال من الأماكن المحببة التي اعتادوا عليها، إلى مراكز الشركات الرئيسة بالمناطق الكبرى.      

المزيد من تحقيقات ومطولات