Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جيسّي بول يكتب رواية الرحلة على الطريقة الأميركية

"إحصاء" نشيد احتفاء بالحب ومعجزات الحياة وسط المعاناة

الروائي الأميركي جيسّي بال (دار النشر)

شاعر، رسّام، قاصّ، يدين الأميركي جيسّي بول بشهرته الواسعة في وطنه لعمله الروائي الذي ما برح يصوّر فيه عالماً خيالياً معتماً ومنظّماً بطريقة يستحيل على قاطنيه الإفلات منه وبلوغ السعادة. روايته الثامنة، "إحصاء" (2019)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "سوي" الباريسية، لا تشذّ عن هذه القاعدة لكونها، مثل سابقاتها، تحفةً أدبية مقلِقة لا تصرف الانتباه عن شبح الألم والمعاناة ــ موضوع بول الثابت ــ بل تلحّ عليه وتساعد على التأمّل في أسبابه، علماً أن مصدر قوتها وفتنتها يكمن خصوصاً في تشكيلها، في الوقت نفسه، نشيد احتفاءٍ بالحب غير المشروط وبمعجزات الحياة.

بطل الرواية طبيب جرّاح يقرر، حين يعرف أنه لم تعد تفصل بينه وبين الموت سوى أيام معدودة، تحقيق حلم زوجته المتوفية في السفر برّاً مع ابنهما الراشد والمصاب بمتلازمة داون (trisomique). سفر بلا هدف غير متعة الترحال. ولذلك، يتابع دورة سريعة كي بصبح مندوب إحصاء سكاني، وينطلق برفقة ابنه في جولته التي ستقودهما إلى شمال بلدٍ مجهول حيث يعبران بلدات وقرى كثيرة يقتصر اسم كل منها على حرف من حروف الأبجدية. وأثناء هذه الرحلة الطويلة، يلتقيان بأشخاص كثر يشكّلون، بودّ بعضهم وعدائية بعضهم الآخر، خير عيّنة عن البشرية. ولأن سيارتهما القديمة غير مجهّزة براديو، نراهما يغنّيان سويةً على طول الطريق ويتحاوران في مواضيع مختلفة. لكن غالباً ما يلصق الابن وجهه بزجاج النافذة ويتأمّل بصمتٍ في ما يتعذّر تحديده. ولإنجاز مهمته كمندوب إحصاء، يطرق الوالد باب أشخاص كثر ويطرح عليهم، بحضور ابنه، الأسئلة التي من المفترض به طرحها. وفي نهاية كل لقاء، يقوم بوشمهم كدليل على أنه تم إحصائهم.

الأب والإبن

الروابط الفريدة التي تجمع هذا الوالد بابنه تتكشّف شيئاً فشيئاً، بينما تلوح في الأفق النهاية المحتمة لرحلته وتغزو ذهنه صورٌ من شبابه، من طفولة ابنه، من المرأة التي أحبّها وكانت مهرّجة شديدة الرقّة والذكاء... باختصار، من عالم لم يتبق منه سوى ذكريات لن تلبث أن تتوارى بدورها مع وفاته الوشيكة. أما الأسئلة التي تتسلّط عليه أثناء هذا السفر فكثيرة، أبرزها: في أي عالمٍ سيترك ابنه وحيداً؟ مَن سيعتني به ويحميه؟ وما الذي يدفعنا عموماً إلى الرقّة أو القسوة؟ ولا عجب في هذا النوع من الأسئلة، فالابن شكّل مركز اهتمام هذا الأب ــ الراوي منذ ولادته، لكنه لا يحضر في سرديته إلا من خلال ردود الفعل المختلفة التي يثيرها لدى الآخرين: النفور، السخرية، العدائية، الفضول، اللطف، التقبّل، المحبة، وخصوصاً الإعجاب؛ إعجاب والده به نظراً إلى قدرته على التأمّل في جميع الأشياء والكائنات حوله بتعاطفٍ مؤثِّر ومبلبِل، سواء تعلّق الأمر بسلحفاة أو بعجلة.

في أحد المنازل التي يتوقّف فيها، يلتقي الوالد بزوجين كانت ابنتهما مصابة أيضاً بمتلازمة داون قبل وفاتها، وتقول الزوجة له بعد مراقبتها سلوكه مع ابنه: "أرى من طبيعة علاقتك به أنك ترى ما رأيناه في ابنتنا، أي أن مَن هو في حالتهما يعيش العالم مثلنا، لكن من زاويةٍ أكثر إشراقاً".

ولا نخطئ إن وصفنا "إحصاء" بالرواية المسارّية، علماً أن هذه الصفة لا تختصر طبيعة نصّها الذي يصعب تصنيفه لوقوعه عند تقاطع أدب الرحلة (على الطريقة الأميركية) والـ "ديستوبيا" (dystopie) والشعر. نصٌّ يفوح قلقٌ غريب من خلف بساطته ورقّته الظاهرتين، ويقودنا إلى عالمٍ موازٍ وخيالي، لكن شديد الواقعية، مانحاً إيانا تأمّلاً عميقاً ومؤثّراً في الحب والفقدان والأبوة. نصٌّ يدعونا، بعفّته وبالانفعالات الكثيرة التي يثيرها داخلنا، من دون أن يكشف مصدرها، إلى إلقاء نظرة جديدة على عالمنا والكائن البشري، وإلى اكتشاف كاتبٍ ذي صوتٍ فريد.

إيقاع موسيقي

وفعلاً، تمسك "إحصاء" بنا منذ السطر الأول بتلك الكلمات البسيطة جداً التي تملاً فصولها ونتلقّاها كنوتات موسيقية عذبة، بمناخها الذي يستحضر رواية كافكا الأولى، "أميركا"، وتحقيقات صامويل بيكيت الميتافيزيقية حول المتشرّدين، ونصوص إيتالو كالفينو، بجُمَلها التي تصلنا همساً وتداعب نفوسنا، وخصوصاً بذلك الأسى وتلك الرقّة اللامتناهية اللذين تعبق صفحاتها بهما ويعودان من دون شك إلى كون الكاتب استوحى هذه الرواية من تجربةٍ شخصية، مؤلمة بقدر ما هي غنية ومنيرة، عاشها مع شقيقه أبرام الذي كان مصاباً بمتلازمة داون وتوفي في سن الرابعة والعشرين.

لكنّ قيمة هذا العمل لا تقتصر على ذلك، فلدينا أيضاً السؤال المبلبِل حول معنى أن يكون الفرد مندوب إحصاء في عالم الرواية الملغز، إذ يصوّره الكاتب كمخلّصٍ أو محوِّل لحياة الناس بعد تفحّصه إياها. وخلف هذا السؤال نستشفّ استحضاراً لقول الفيلسوف سقراط إن الحياة التي لا يتم تفحّصها لا تستحق أن نعيشها، وأيضاً لفكرة الملاك الحارس الذي يدوّن أفكارنا وأفعالنا، في الديانات التوحيدية.

ومثل كل رواية تدور أحداثها على الطرقات، لدينا في "إحصاء" تلك اللقاءات السريعة مع شخصيات مثيرة تفتح للوالد وابنه بابها وتتحاور معهما، كمحقق الشرطة المعتِم والبصير، والطبيب الصموت الذي يعمل في مصنع حِبال قاتل، والمرأة الشهوانية التي تعيش في دار أختها وتحاول استدراج الوالد العجوز إلى سريرها... باختصار، شخصيات تبدو جميعاً وكأنها خرجت تواً من أحد أفلام ويس أندرسون، من إحدى روايات تولكيين أو من إحدى قصص برونو شولز، وينجح جيسّي بول في تجسيدها بطريقة حيّة وبمدّ كلّ منها بقصّة قاتمة أو غرائبية ضمن سعي فلسفي إلى محاصرة من خلالها طبيعة التعاطف بين البشر وحدوده.

وفي هذا السياق، نشير أخيراً إلى أن لا حاجة لاهتمام بالغ بمتلازمة داون لولوج هذه الرواية والاستمتاع بقراءتها، فهي ليست نصّاً جدالياً حول الحاجات الخاصّة للمصابين بهذا المرض، بل تمثيلاً مفصّلاً ومؤثِّراً لتلك البراءة التي تميّزهم وتشكّل براديكاليتها مرآةً تنعكس على سطحها حسنات البشر وسلبياتهم.

المزيد من ثقافة