Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جنون آلات التنبيه... الضوضاء والصخب يصيب شوارع القاهرة بالصمم

السائقون: نستعين بها للنداء على الراكب ونحذر من انحرف عن طريقه... وعلماء نفس: وسيلة التعبير عن غضب الزحام

فلننسى شوبان، ونتجاهل بيتهوفن. ولنحلق معاً في آفاق موسيقية غير معهودة أو معتادة، اغمض عينيك، وافتح أذنيك، وحلق في آفاق ما تسمع من تداخل الأوركسترا الصاخبة داخل القاهرة، وهي معزوفات لا تعترف بأيام عطلات أو أعياد للهدوء والسكون. فالصخب والضوضاء غاية، رغم القوانين المجرمة لهذا، لتظل "آلات التنبيه"، أو "الكلاكس"، كما هو معروف في مصر، صخب لا نهاية له آناء الليل وأطراف النهار.

صخب بلا مبرر

سؤالي لسائق الأجرة الستيني عن سبب إطلاق "الكلاكس" رغم أن الطريق خالٍ أصابه بالارتباك، أخذ نفساً عميقاً عنيفاً من سيجارته، قبل أن يقول: "الكلاكس رفيقي في الطريق. أنادي به على الزبون. أنبه به من قد يفكر في أن ينحرف نحوي بسيارته. وأحيانًا أدلع (أدلل) به نفسي".

الدلع الذي يشير إليه السائق المتقدم في العمر ليس فريداً أو غريباً في القاهرة. يطلقون عليه أسماء متعددة مثل "تسلية" "درء الملل" "اليقظة" وغيرها، لكنه يظل في نهاية الأمر شكلاً من أشكال التدليل الذاتي والعلاج الآني.

ويمكن القول إن العلاج بإطلاق "الكلاكس"، على النحو الذي تحدث به الرجل الستيني، هو علاج قاهري صميم، ربما لا ينافسها فيه إلا قرينه المطبق في نيو دلهي حيث تقارير صحافية ودراسات استقصائية تشير إلى صخبها المتناهي وإزعاجها المتنامي.

لغة "الكلاكس"

صخب "الكلاكس" يأخذ تفسيرا آخر لدى سائق الميكروباص، المعروف شعبياً باعتباره "عفريت أسفلت" (في إشارة إلى اتباعهم أساليب غير بشرية في القيادة وطرقاً غير تقليدية في إطلاق العنان لآلات التنبيه).

 يقول السيد فتحي (38 عاماً): "من يعتدي على خط سيري أعمل له فضيحة بجلاجل بالكلاكس، وهذا أضعف الإيمان". إيمان فتحي بقدرة آلة التنبيه على عمل فضيحة ذات جلاجل للمعتدين والمتعدين لا تأتي من فراغ، بل من قواعد جماهيرية، سنها الشعب وقننها القائدون وحافظ عليها المصريون، يشرح فتحي كيف أن الكلاكس حين يطلق مرة واحدة يكون سباً خفيفاً، وحين يدق مرتين يكون أكثر حدة، أما إذا تفجر هكذا يكون عابراً للسيارات معبراً عن الغضب الشديد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يضفي فتحي بعداً اجتماعياً يستند إلى منظور علمي ولا يخلو من تحليل معملي متعمق للوضع في الشارع المصري ليفسر نقل ساحات الشتائم اللفظية من الفم إلى آلات التنبيه. يقول بحكمة شديدة: "لو كل سائق توقف عن القيادة، وتفرغ للوم من حوله أو سبهم، لتعطلت مصالح الناس. لذلك توصل الجميع إلى هذا الحل الوسطي حيث ما قل ودل عبر الكلاكس".

"استخدام آلة التنبيه تزعج المرضى وكبار السن" هكذا تقول لافتة إدارة المرور، بينما وزارة الداخلية لا تألوا جهدًا في ضبط المخالفات وتطويق المخالفين. وقبل أيام قليلة، أعلنت الإدارة العامة لشرطة البيئة والمسطحات عن أن جهودها في الفترة الماضية أسفرت عن مكافحة وضبط كافة مخالفات قانون البيئة، وتشمل الدخان الكثيف وإلقاء المخلفات في الطريق ومكبرات الصوت واستخدام آلات التنبيه، وذلك بضبط 359 قضية متنوعة.

"الطيار" شريك في الصخب

عدد مرات لا تستطيع إحصاءه أطلقه "سامح"، عامل الدليفري المعروف بـ"الطيار"، لآلة تنبيه دراجته النارية، ويبرر كلاكساته الجنونية على آلة التنبيه بأنها لضمان سلامته الشخصية، وإشهار قرب قدومه حتى يفسح الجميع له.

يقول: "الجميع يعرف أن الطيار مرتبط بدقائق معدودة لتوصيل الطلبات من المطعم إلى العميل. والحمد لله أن ثقافة الناس على الطريق تحسنت وارتفع وعيهم، وذلك بفضل كلاكسات الطيارين المتواصلة التي باتت تعني إننا قادمون، فلتفسحوا الطريق"، وفقا لتعبيره.

وسيلة للإعلان عن الغضب

أستاذ الطب النفسي في جامعة الأزهر الدكتور محمد المهدي يقول إن الضغوط والازدحام والانفلات عوامل أدت إلى إعادة هيكلة مفهوم آلة التنبيه في مصر. "فمن آلة تنبيه إلى وسيلة للتنفيس عن الغضب، وإعلان السيطرة، ومحاولة فرض الهيمنة، بل وترهيب الآخرين في كخطوة استباقية للتحذير من الاقتراب من المنطقة التي يعتبرها قائد السيارة مملكته ولا يسمح لأحد بالاقتراب منها.

التغيير الجذري الذي طرأ على تفاصيل الحياة في القاهرة اتخذ من آلات التنبيه وسيلة للتنفيس عن الغضب أو التعبير عن القوة والسيطرة، وهو التعبير الذي لا يفرق بين رجل وامرأة. 

تهديد ووعيد

ريهام مؤمن، 40 عامًا، موظفة، تقول إنها تلجأ إلى آلة التنبيه لتحذر من حولها من استضعافها أو الجور على المنطقة التي تقود فيها سيارتها. تقول: "قبل 20 عاماً حين بدأت أقود سيارة، كنت لا أضغط على الكلاكس إلا للتنبيه. اليوم أضغط عليه للتنبيه والتحذير والتلويح بالتهديد والوعيد من مجرد التفكير في الاعتداء على وجودي في الشارع".

لكن الأمر لا يخلو أيضاً من مواقف محرجة. تقول: "المعروف أن قادة السيارات يستهلكون إطارات، وقود، تيل فرامل، بطاريات. أما أنا فأستهلك آلات تنبيه. لماذا؟ لأنني أدق عليها بجنون لكل من تسول له نفسه استضعافي لأنني أنثى".

جنون استخدام آلة التنبيه في القاهرة ارتقى من مرحلة الظاهرة إلى السمة. فالضوضاء الناجمة عن الإفراط في استخدام آلات التنبيه، وانتهاج البعض – لا سيما قائدي الأجرة بأنواعها- مبدأ الدق المتكرر اللاإرادي، مع الاعتماد عليها بديلاً للسباب اللفظي، ومعها الاحتفال بالعرسان الجدد والاحتفاء بالفوز بالدوري واستدعاء محمد وأحمد ومصطفى من الطابق الثالث، بالإضافة إلى إيقاظ الراقدين وتنبيه الغافلين ممن استسلموا لقيلولة في إشارة متعثرة أو سدة مرورية مزمنة تجعل من القاهرة معزوفة من الصخب.

هي معزوفة لم تفلح معها جهود وزارتي الداخلية والبيئة من خلال الخطة القومية لمكافحة الضوضاء والحد من مصادرها. كما لم تجد معها فقرات التوعية التلفزيونية من مغبة الضوضاء، ودروس القراءة المدرسية المشيرة إلى آثار الصخب السلبية على صحة الإنسان النفسية والجسدية.

دراسة عنوانها "الصخب المجتمعي في القاهرة الكبرى" (2016) لأستاذ طب الصناعات والبيئة الدكتور جمال السمرة أشارت إلى أن الآثار الصحية الناجمة عن الصخب المجتمعي تشمل مشكلات السمع، وعدم وضوح الكلام، واضطرابات النوم، وارتفاع ضغط الدم، وتسارع دقات القلب، وغيرها من الآثار المنعكسة سلباً على الصحة العقلية والسلوكية.

حتى مثل هذه الدراسات التي تدق نواقيس الخطر الصحية لم تسفر عن حذر أو وجل أو حتى ترشيد للدق على آلة التنبيه، نداءً وسباً وتدليلاً ودرءاً للملل.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات