Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الممثل ميشال بيكولي الراحل آخر عمالقة السينما الفرنسية 

نجم سينمائي وتلفزيوني ومسرحي من فرنسا إلى أوروبا وأميركا ومن جان رونوار إلى هيتشكوك

الممثل الفرنسي ميشال بيكولي (وسائل التواصل الاجتماعي)

غاب الممثّل الفرنسي الكبير ميشال بيكولي عن 94 سنة، بعد أكثر من 70 عاماً أمضاها قبالة الشاشة الكبيرة. هذا الذي يُعتبر آخر عمالقة السينما الفرنسية، كما أطلق عليه العديد من الصحف الفرنسية، رحل الثلاثاء 12 أيار(مايو)، إلا أن عائلته لم تعلن عن وفاته إلا يوم الاثنين 19 مايو، ربما نزولاً عند رغبته. رحيله لا شك في أنه ترك فراغاً كبيراً، حتى وإن كان توقّف عن التمثيل منذ قرابة العشر سنوات (ما عدا ظهور له هنا وهناك في أفلام صغيرة). وكانت إطلالاته منذ تلك الفترة نادرة جداً. المحظوظون من الناس كانوا يرونه يتجول أحياناً في جوار بيته في الدائرة الرابعة لباريس. 

يصعب عرض سيرة ممثّل بدأت قصّته مع السينما في العشرين من العمر، وعبَر نحو ثمانية عقود من تاريخ هذا الفنّ، منذ الأربعينيات، تاريخ أول أدواره في السينما الفرنسية الكلاسيكية. جسّد كلّ أنواع الأدوار، من الخيّر إلى الشرير، وكلّ ما يقع بينهما من تنويعات. تقمّص كاراكتيرات من صميم الواقع الاجتماعي الفرنسي المعاصر، ولكن أيضاً شخصيات تاريخية أو بعيدة من الواقع، وكان دائم التألق في أي شخصية يحملها على عاتقه. 

مسيرة بيكولي متشعّبة جداً، فهو مثّل في المسرح والسينما والتلفزيون، اشتغل في فرنسا وأوروبا وأميركا والعالم أجمع. كان عالمياً في فرنسا وفرنسياً في العالم. في سجلّه ما يقارب الـ200 فيلم. إنه صاحب حضور مكثّف يحبس الأنفاس ما إن يطل على الشاشة. وعلى الرغم من مشاركته التمثيل مع كبار النجوم والنجمات، من رومي شنايدر إلى بريجيت باردو، إلا أنه بقي طوال حياته، سواء على الشاشة أو خارجها، الرجل العادي الذي تلتقيه كلّ يوم وأنت تذهب إلى العمل، ولا تحيطه هالة أو قداسة. رفض أن يكون نجماً على طريقة جان غابان، آلان دولون أو جان بول بلموندو. حتى جاذبتيه مختلفة. كاريزماه لا تشبه كاريزما أحد على البتة. إنسانوي إلى أبعد حد. كان بيكولي رمزاً للبطل المضاد، برجولة متحفظة من الخارج ورقيقة من الداخل. 

مع كبار المخرجين

عمل مع كبار السينمائيين: جان رونوار وماركو فيرّيري وكلود سوتيه وجان لوك غودار ولويس بونويل وألفرد هيتشكوك وجان بيار ملفيل وآخرون. هؤلاء أودعوه أسرارهم وسلّموه بذور الحداثة في التمثيل، حيث الجمال الشكلي ليس كلّ شيء. عرف دائماً كيف يولد من ذاته أدواراً جديدة ومتنوعة، لا تشبه بعضها بعضاً. وضع عشرات الأقنعة على وجهه، ولكن ظلّ بيكولي، الفانتازم الذي تجسّدت السبعينيات من خلاله، بكلّ تناقضاتها؛ فهو البورجوازي عند كلود سوتيه والثائر على المجتمع الاستهلاكي عند فيرّيري. 

يقول بيكولي إن الممثّل غير موجود سوى في نظرة المُشاهد. تقنيته كانت فريدة: فهو في الواقع سيد الوقوف على الحافة. طوال حياته قدّم أداء ملتبساً، يشبه في ذلك التباس الحياة نفسها، والتباس المواقف التي كانت تُحشر فيها الشخصيات التي جسّدها. من هذه التقنية التمثيلية، استمّد جملة انفعالات تصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان، فلا يعرف المُشاهد ماذا يدور في عقل الشخصية، بل يجد نفسه أمام استحالة كسر هذا السر، حتى بعد نهاية الفيلم. لا يوجد في سلوك بيكولي أي شيء قاطع، نهائي، حاسم، كلّ شيء يتبلور في الحدود الفاصلة بين الأحاسيس، كلّ شيء قابل للتبدّل والتطور والتفاعل مع اللحظة. وهنا تكمن عظمته، علماً أنه لم يكن على هذا النحو في كلّ أفلامه، بل فقط في تلك التي سمحت له بأن يستثمر هذه المساحة المعطاة له من الحرية. 

عندما كان في حالة شديدة من العشق أو الحقد أو النزاهة، ما كان ممكناً قراءة أي شيء من هذا على جبينه، ولا في سلوكه، أو على لسانه، بل يجب التقاطه بين السطور وفي الحيز الضائع. وهذا ما جعل منه سيد أداء خاص لا ينافسه فيه أحد، وهذا ما حوله أيضاً إلى أسطورة في مجال الفنّ الدراماتاكي.  

وأكثر مَن أتاح له تكريس هذه المهارة وهذا النمط هو كلود سوتيه في الأفلام التي أنجزاها معاً، وأروعها هو "أشياء الحياة" الذي يحكي عن رجل في منتصف العمر (بيكولي) يتعرض لحادث سيارة، فتعود به الذاكرة إلى لحظات السعادة والأسى التي عاشها، لحظات موزعة بين زوجته (ليا ماساري) وعشيقته (رومي شنايدر) التي على وشك الانفصال عنها. في معظم الأفلام التي مثّل فيها، كان يعرف بيكولي كيفية التجول بين المشاعر المتناقضة، محدثاً ارتباكاً عميقاً عند المُشاهد. قطع مع إرث طويل في السينما، حيث كان على الممثّل أن يمتاز بالوسامة. بمظهره الخارجي الذي كان أقرب إلى الرجل المتوسطي، فرض نموذجاً جديداً للرجولة، بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، حيث السلوك وقوة الشخصية يتغلبان على الشكل الخارجي. 

الرمز الدائم

لا يمكن تصوّر السينما الفرنسية من دونه. إنه نوعاً ما رمزها الأبدي، إذ واكب مراحل تطورها كافة عبر العقود. لبس رداء عشرات الأدوار، إلا أنه لا بد للمرء الذي يكتب رثائه أن يلاحظ أنه من المستحيل اختزاله في دور. من المستحيل الإشارة إلى دور والقول "هذا هو ميشال بيكولي". والذاكرة السينمائية للواحد منا، قد لا تسعفه ليتذكّر كلّ إطلالاته على الشاشة، ولكن هناك حفنة منها ستبقى ماثلة في وجدان كلّ سينيفيلي ولا تسقط في النسيان، منها: "الاحتقار" (1963) لجان لوك غودار إلى جانب بريجيت باردو، والذي يتحدّث عن تصوير فيلم على خلفية قصّة حب تدور فصولها في فيللا واقعة على مرتفعات جزيرة كابري الإيطالية. هذا الفيلم يُعتبر العمل الذي كرس بيكولي وقدّمه ممثلاً من الطراز الأول، علماً أنه كان انطلق العام السابق في "لو دولوس" لجان بيار ملفيل. 

في العام 1966، اضطلع بيكولي بدور مهم في "جميلة النهار" للويس بونويل، إلى جانب كاترين دونوف، رائعة أخرى للمخرج الإسباني الذي كان يعمل في فرنسا في تلك المرحلة، علماً أنه كان قد شارك في "الموت في هذه الحديقة" للمخرج نفسه قبلها. التعاون مع بونويل لم يقتصر على فيلمين، فهو أصبح إلى حدّ ما ممثّله المفضّل، بعدما جمعهما ستّة أفلام، منها "سحر البورجوازية الخفي" أو "اشباح الحرية". 

في مطلع السبعينيات، انتقل بيكولي إلى عالم كلود سوتيه، فكان بينهما تعاون (يمكن اعتباره الأهم) أثمر أفلاماً بديعة لا يمكن التغاضي عنها عند الحديث عن السينما الفرنسية في تلك المرحلة: "أشياء الحياة" (1970)، "ماكس وعمّال الخردة" (1971)، "فنسان، فرنسوا، بول… والآخرون" وغيرها. السبعينيات أيضاً هي فترة ظهوره في فيلم انقلابي، "الوليمة الكبيرة" للإيطالي ماركو فيريري الذي أحدث ضجّة كبيرة وفضيحة عند عرضه، وهو عن مجموعة أشخاص يجتمعون في بيت بورجوازي قديم كي يأكلوا حتى الموت. لبيكولي نتذكّر أيضاً أحد آخر أدوراه، "لدينا حبرٌ أعظم" (2011)، إخراح ناني موريتي، عن بابا يتم انتخابه، ولكنه يهرب بعدما يرفض تسلم مسؤولياته. 

 

المزيد من سينما