وصل الإسلام الثقافي والحضاري إلى أوروبا عن طريق مجموعة من الكتب الأساسية التي أعطته صورة إنسانية عالمية ومتميزة، تتحقق فيها الحريات الفردية والجماعية، ويحضر فيها النقاش العقلي، وتتحقق فيها المتعة والجمال، وقد لعب كثير من المستشرقين الإيجابين دوراً كبيراً في توصيل هذه الخزانة من الكتب إلى بلدانهم، كما أنهم، وفي الوقت نفسه، فتّحوا عيون العرب والمسلمين على جزء أساسي من ثقافتهم الأدبية والفلسفية والحضارية والدينية أيضاً التي ظلوا يجهلونها.
وكان لأسماء من أمثال كارل بروكلمان ولويس ماسينيون وجاك بيرك وأندريه ميكيل وغيرهم، اليد الناجزة والوازنة في إيصال التراث الإسلامي من المشرق ومن شمال أفريقيا إلى نخب الأنوار الأوروبية التي قرأته واستوعبته واحتفلت به وتمثلته في تفكيراتها الفلسفية وفي نصوصها الإبداعية.
وأول هذه الكتب التي شكلت هزة بل زلزالاً حقيقياً في المخيال الأدبي والإبداعي الأوروبي والعالمي هو كتاب "ألف ليلة وليلة"، فمنذ ترجمته الأولى إلى الفرنسية من قبل أنطوان غالون Antoine Galland عام 1704، ومن بعدها ترجمته إلى لغات الكرة الأرضية جميعها، استطاع أن يصبح كتاب القراءة الأولى أوروبياً، لدى النخب والعامة على السواء، ومن خلال هذا الكتاب وصل المثقف الأوروبي إلى صناعة صورة جديدة عن الإسلام وعن المسلم، وهي صورة إيجابية تتميز بقيم الدفاع عن جماليات الحياة وعن الحرية الفردية والجماعية التي هي نشدان الإنسان أينما كان، بغض النظر عن دينه أو ثقافته أو لغته أو جغرافيته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد أثر كتاب "ألف ليلة وليلة" على صياغة صورة جديدة وإيجابية عن الإنسان المسلم وعن دينه في أوروبا أكثر مما أثّر القرآن نفسه، لأن قراءة "ألف ليلة وليلة" هي قراءة متجردة من كل بعد أيديولوجي عقائدي مسبق كما هي مع قراءة نص القرآن، فهما قراءتان مختلفتان، فقراءة "الليالي" قراءة حرة لأنها لنصّ إبداعي وقراءة "القرآن" قراءة مقيدة لأنها لنصّ مقدس.
لم يتوقف تأثير كتاب "ألف ليلة وليلة" على الأدب الأوروبي والعالمي فقط بل أثّر في السينما، فهوليود اقتبست كثيراً من أفلام الأشرطة المتحركة من حكايات "ألف ليلة وليلة"، كما أن تأثير "الليالي" واضح على "ريبرتوار" الإنتاج المسرحي والموسيقي و"الكوريغرافي" الأوروبي والعالمي منذ أكثر من ثلاثة قرون، ولا يزال هذا التأثير مستمراً والإنتاج متواصلاً.
يمكن اعتبار كتاب "ألف ليلة وليلة" أول كتاب عربي يدخل التراث الإنساني العالمي الأدبي بامتياز، بل يعتبر المشترك الثقافي الأدبي الذي صنع كثيراً من التقارب بين الشعوب والديانات والثقافات، فهو الرحم الذي منه خرج كثير من الإبداعات السردية العالمية الكبرى من دون كيشوت لـسرفانتيس مروراً بكتابات فولتير وصولاً إلى غارسيا ماركيز وبورخيس وغيرهم.
كان للشاعر حافظ الشيرازي، الذي ترجم إلى الإنجليزية أولاً، الفضل في فتح باب القراءة الأوروبية على الثقافة الصوفية الإسلامية العميقة، والتي تتميز بحرية في التفكير وفي السؤال الوجودي، حرية من دون حدود، فإذا كانت بداية اكتشاف هذه الثقافة الكبيرة بالشيرازي، فإن القارئ الأوروبي وعن طريق الباحث والمترجم لويس ماسينيون سيكتشف شاعراً استثنائياً أنتجته الحضارة الإسلامية على الرغم من نهايته المأسوية، إنه الشاعر ابن منصور الحلاج، لقد شكل الحلاج صدمة جديدة إيجابية في مخيال القارئ الأوروبي والعالمي، وهي الصدمة التي غيرت أيضاً من صورة الإسلام ومن صورة المسلم ومن صورة الإبداع لدى المسلم وفي بلاد الإسلام.
لقد أصبحت نصوص الحلاج الشعرية تقرأ كما تقرأ نصوص أي شاعر فرنسي أو إنجليزي أو روسي أو ألماني أو أميركي معاصر، لقد أصبح جزءاً من القراءة العالمية الإنسانية، وهو ما حرر صورة الإسلام من أيديولوجية الفتوحات، وستتأكد أكثر صناعة صورة جديدة وإيجابية للإسلام في العالم بعيداً عن العنف والسيف والغزو من خلال نصوص جلال الدين الرومي وابن عربي وعمر الخيام، وبذلك تكون الثقافة الوجودية التي قدمتها الإبداعية الصوفية من داخل بنية الإسلام هي التي تمكنت من تغيير كثير من الأحكام المطلقة عن المسلمين من خلال قراءة التاريخ قراءة معينة.
وستشكل "مقدمة" ابن خلدون ناقوساً معرفياً جديداً، يساهم في إعادة النخب الأوروبية لمفهوم سلّم أحكامها القيمية عن الإبداعية في بلاد الإسلام، فكان ابن خلدون رائداً في ما يسمى بعلم الاجتماع العمراني، وقبل ذلك، وبالإحساس المعرفي نفسه، تم استقبال كتابات ابن رشد كفيلسوف عقلاني وحلقة أساسية ما بين الفلسفة اليونانية وفلسفة الأنوار الأوروبية، وبإيقاع آخر، قرأ الأوروبيون كتاباً استثنائياً في الحب لفقيه ظاهري، إنه كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي، وهو كتاب في الحبّ بكل تجلياته الشبقية والوجودية والمثالية، كتب بجرأة فكرية نادرة.
إذا كانت الخزانة التي تحتوي على كل من "ألف ليلة وليلة" وكتب الحلاج وحافظ وابن عربي وابن خلدون والخيام وابن رشد وابن حزم وغيرها هي ما صنعت صورة جديدة للإسلام الحضاري، في مخيال الغرب، وقرّبت بين الإنسان في ديار الإسلام وأخيه في ديار الديانات الأخرى من يهودية ومسيحية وكونفوشيوسية وغيرها من الديانات واللاديانات، وتمكنت، وإلى حد كبير من تحرير الإسلام والمسلم من أيديولوجيا الغزو والفتوحات والسيف والسبي، إلا أننا سنلاحظ عودة الإسلام السياسي إلى أوروبا وبالتأكيد منذ ستينيات القرن الماضي على يد الإخوان المسلمين، من خلال الترويج لسلسلة من الكتابات التي تحاول أن تعيد "إسلام الفتوحات" إلى الوجود ثانية.
وتأتي كتب سيد قطب على رأس هذه الكتب التي تدعو إلى إسلام أيديولوجيا الفتوحات المعاصرة، ويحتل كتابه "في ظلال القرآن" وبشكل خاص كتابه "معالم في الطريق" الذي يعدّ ورقة طريق الإخوان المسلمين في بث الفتنة بين الشعوب والديانات من أجل الوصول إلى السلطة، وسيجد إسلام أيديولوجيا الفتوحات الجديد مرجعية لأفكاره في كتابات ابن تيمية وبالأساس في كتابه "مجموعة الفتاوى" وبعض رسائله في السلطة والعلاقة مع الآخر من ملل أخرى.
وسيتكرس إسلام أيديولوجيا الفتوحات المعاصر من خلال الكتابات والخطب والمحاضرات والحصص التلفزيونية والإذاعية لكل من محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وغيرهما من الدعاة الأيديولوجيين، وسيجد إسلام أيديولوجيا الفتوحات وسطاء أيديولوجيين له ممثلين في بعض الوجوه الدعوية والثقافية والجامعية من نخب الجالية الإسلامية التي استقرت وتجنست في أوروبا وعلى رأسها طارق رمضان حفيد حسن البنا أحد قادة الإخوان المسلمين في مصر.
وإذا كان الإسلام الحضاري الذي وصل أوروبا والعالم من خلال نصوص فلسفية وأدبية راقية في الفكر والجمال يتوجه في خطابه إلى النخبة والعامة الأوروبية والعالمية على السواء، فإن إسلام أيديولوجيا الفتوحات وهو يعتمد نصوصاً قائمة على فتاوى التكفير وفكرة الجهاد يتوجه بالأساس إلى الجالية الإسلامية الأوروبية من أجل تجييشها ضد البلدان التي تعيش فيها وذلك بتكفير مواطنيها، ومن هذا الموقف سيكون إسلام أيديولوجيا الفتوحات من العوامل التي أنتجت ظاهرة "الإسلاموفوبيا" العنصرية.