صعد مصطلح المسؤولية خلال أزمة كورونا، وسيطر على جميع نواحي الحياة، بخاصة الاجتماعية. كما راهنت الدول والمؤسسات الصحية في خطابها على الوعي الفردي والالتزام الدقيق بالتوجيهات والإجراءات المفروضة، انطلاقاً من مبدأيْ الحماية والواجب الأخلاقي للسيطرة على الوضع بروح جماعية.
لكن هل كان الرهان على حسّ المسؤولية وانتعاش الضمير الأخلاقي صائباً خلال أزمة كورونا؟
التباعد الأخلاقي
الفرد الذي تعوّد على أن يكون جزءًا من مجموع يقوده ويوجّهه بشكل مباشر أو غير مباشر، ويُحدّد دوره في المشاركة "الحرة"، أصبح يُخاطب ككيان مستقل فاعل ومسؤول، وتثمّن مسؤوليته الفردية ضمن سياسات العالم الصحية والاجتماعية، كضامن أساس لحياة المجتمع وبقائه، وللوجود الإنساني أيضاً بشكل أو بآخر.
لكنّ خطاب المسؤولية هذا يلفّه بعض التناقض، كما قصة كورونا كلها، وإذا ما حيّدنا جانباً درجة فاعليته من الناحية العملية، فإن مضمونه ترك انطباعاً عكسياً بعض الشيء لدى الغالبية، وهو في تغليفه بالذعر وتعزيزه بروايات التفشّي الخطير ودعوات الانعزال الاجتماعي الكلي، قوّى النزعة الفردانية. فالدعوة غير المدروسة إلى التباعد الاجتماعي عزّزت التباعد الأخلاقي، الذي تجلّى في عددٍ من الممارسات الجائرة والسلوكيات غير المسؤولة المدفوعة بحبّ البقاء والخوف من المرض والحاجة، وكانت دعوة معكوسة إلى الهروب من المسؤولية الاجتماعية وإعفاء النفس من الواجب الأخلاقي والانغلاق على المصلحة الشخصية للخروج بأقل الخسائر.
هذه الدوافع الغريزية تتنافى مع مقتضيات حياة الجماعة، كما أنها تستعبد صاحبها، فالحياة الأخلاقية تتطلّب تركيباً توافقياً بين رغباتنا ورغبات الآخرين، مستندين إلى أساس من العقل، "الممثل الشرعي للإنسان" لتنظيم الحياة الاجتماعية، التي تُعدُّ شرطاً من شروط الحياة الأخلاقية.
فضيلة المعرفة
إنّ الرهان على الأفراد في التغيير الحقيقي للوصول إلى النتائج المطلوبة، أمرٌ يتكرّر تاريخياً من دون الالتفات إلى مدى جاهزية المجتمع كوعاء حامل للفكر والمعرفة، يستقي منه الفرد ليصبح مؤهلاً للانفصال عنه، مستزيداً بوعي حقيقي اكتسبه وتشاركه مع غيره من أبناء هذا المجتمع، حيث يشكّل سلوك كل فرد جزءًا من منظومة عامة تسير وفق قواعد وقوانين أخلاقية ومعرفية واحدة، منظومة اجتماعية تنتج بنية أخلاقية يتأسّس عليها الأفراد لدعم وتحقيق وجودهم ولاستثمار وعيهم في التعامل مع المستجدات والمشكلات الطارئة.
لكن هل الرهان في هذه الحالة على حسّ المسؤولية الأخلاقية عند الأفراد، صائب؟
لكي نصل إلى إجابة عادلة، يجب أن نبحث أولاً عن مدى فاعلية المجتمع وطبيعة ممارسته لدوره الأسمى في إعلاء شأن المعرفة والحرية كقوة أساسية في بناء الفرد المسؤول الذي يُعدُّ نواة التغيير الحقيقي وضمان الوصول إلى النتائج المرجوّة. فسلوك الأفراد انعكاس لالتزامهم بمجموعة عادات وتقاليد انتهجوها كـ"عُرف"، بالتالي لا يمكننا تقييم سلوك الفرد بمعزل عن منهج الجماعة في هذه الحالة.
سمة كامنة
الحقيقة أنه لا يمكننا القول إن الالتزام الجزئي الذي مارسه بعض الأفراد خلال الجائحة الحالية، ناجم عن الإحساس بالروح الإنسانية الواحدة والتعاطف والتضامن للخروج معاً من هذه المحنة.
فنزعة الاستغلال والاستثمار التي تجلّت بشكل واضح سياسياً على مستوى الدول، لم تقف عند هذا الحدّ بل استثمرت تجارياً واجتماعياً على مستوى الأفراد بشكل أناني سبّب الضرر للمجتمع بكامله. كما ظهرت أيضاً دعوات مبالغ بها لممارسة السلطة على الخارجين عن السياق الاجتماعي والقانوني، الذي حُدّد لتجاوز خطر الفناء. واستُثيرت سمة العنف الخاملة الكامنة في داخل الطبيعة البشرية، حتى وصل الأمر إلى المطالبة بعقاب بدا أكثر قسوة مَمَّا يمكن أن يخرج عن إنسان عادي لم يسبق له القيام بأي ممارسات عنيفة أو وحشية سابقة، معتقدين أنهم يمتثلون بذلك لإرادة القيادات السياسية والصحية ويطيعون التوجيهات.
وهنا يجب أن نَتذكّر أنّ تعاظم مقدرة وقوة المجتمعات يُضائل شأن الأهمية التي توليها لتقصير أحد أفرادها، إذ إنّ واحداً منهم ما عاد يشكّل خطراً على وجود المجموع القوي. بالتالي، لم تعد هنالك ضرورة لمعاقبة المسيء أو عزله، بل أكثر من ذلك، تَعظم أهمية الدفاع عن المخالف وحمايته بشكل خاص، لتسوية الأمور بينه وبين المتضرّرين ضرراً كبيراً وحصر الحالة في نطاق محدود.
العمى الأخلاقي
غالباً ما تُعيد الأزمات الطارئة المفاهيم الأخلاقية وإسقاطاتها إلى الواجهة، إذ تستعيد السمات الخامدة في النفس البشرية نشاطها كحاكم أساس ومسيطر على رد فعل وسلوكيات الأفراد في الأوقات الصعبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يصف الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو في كتابه "العمى" مشهداً دقيقاً يصوّر لحظة تعرّض رجل مسكين لحالة عمى مفاجئ في طريقه إلى منزله، فيدفع هذا الموقف رجلاً طيباً للتبرّع بقيادة سيارة الأعمى وإيصاله، لكن المفاجأة أن الرجل الطيب بعد أن قام بواجبه الأخلاقي تناسى مفاتيح السيارة معه وسرقها، علماً أنه عرض عرضاً ثانياً على الأعمى بمساعدته في الدخول إلى منزله والمكوث معه ريثما تصل زوجته، لكن الأعمى رفض طلبه متوجّساً.
تَفترض القصة أن الرجل عندما تطوّع لمساعدة الأعمى، لم تكن لديه أيّ نية سيئة، في تلك اللحظة بالتحديد، فما فعله كان انقياداً لمشاعر الشهامة والغيرية، اللّتين تُعدّان أفضل سمتين في الطبيعة البشرية. ولو أن الأعمى قَبِل عرض الرجل بالمكوث معه، فربما كانت الشهامة ما زالت هي الراجحة في تلك اللحظة. وهذا ما يرجّح فرضية أن "المسؤولية الأخلاقية التي تنتج من الثقة الممنوحة، تكبح ذاك الإغواء الإجرامي وتسهّل انتصار العواطف النبيلة التي يمكن أن توجد دائماً في أكثر النفوس فساداً".
إنّ التوصل لإيجاد فهم واضح للطبيعة البشرية، لا يزال موضع غموض وعرضة للتأويلات المتناقضة، إذ لم تفلح أيّ من الثورات الذهنية والمعرفية والعلمية في تحديد قائمة تفسيرات ثابتة متفق عليها تربط بين حدث معين واحتمالية ظهور سلوك مرافق له، بشكل لا مجال للاجتهاد فيه، إلّا في ما يتعلّق بالإضافات الحيوية الدائمة التي تفرضها التغيرات الاجتماعية والمعرفية المتلاحقة.
لكن وعلى أي حال، إذا كان لا بد من رهان على شيء ما، فيجب أن يكون الرهان دائماً على الاستعداد المسبق والتسلّح بالشفافية والتأكيد على أهمية تعزيز "فضيلة المعرفة" التي تكفي وحدها لأعمال الخير الذي فيه الصالح العام وتجنّب الضرر. هذه الفضيلة التي يصدر عنها عدد كبير من الفضائل الأخلاقية الأخرى التي تنتج حالة وسطية مطلوبة بين سلوكين متطرفين، لاجتياز الحدّ الفاصل ما بين التأثير السلبي والإيجابي.