Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الورشة" تجربة مصرية غيرت مفهوم العرض المسرحي

فرقة مستقلة منذ 33 عاماً قدمت فن الراوي والسير الشعبية وخيال الظل

الفنان سيد رجب في أحد عروض "الورشة" (اندبندنت عربية)

في مصر، إذا أردتَ الحصول على خزانة ملابس مثلاً، ستكون أمام نوعين من الخزانات، الأول يطلقون عليه "شغل سوق"، والآخر يسمى "عمولة". "شغل السوق" ربما يكون براقاً وأقل سعراً، لكنه مصنوع من أردأ أنواع الأخشاب، لا يعمر طويلاً، ولا يصمد أمام عاديات الزمن. أما "العمولة" فهو أكثر متانة، وأعلى سعراً، اشتغل عليه صانعُه بعناية فائقة ووفَّر له أجود أنواع الأخشاب، لذا فهو يعمر طويلاً. لكن هذا النوع، في الغالب، لا يقبل عليه الكثيرون، إما لأنهم لا يقدرون "الصنعة المتقنة"، أو لأن "السوقي" يكون أكثر بريقاً فيخطف أنظارهم، بغض النظر عن كونه "مجرد منظر".

في الفن أيضاً، وبخاصة في المسرح، هناك شغل "سوق"، وشغل "عمولة"، الأول منتشر بشكل لافت، وعليه إقبال شديد، بينما الآخر حركته ثقيلة، وإن كانت أكثر ثقة وتأثيراً، جمهوره أقل، وتلك مفارقة غريبة، لكن مصر لا تنفرد بها وحدها، فثمة أعمال مسرحية أو سينمائية، في دول العالم كافة، خفيفة وسطحية، يقدمها صناعها على عجل، وعلى الرغم من ذلك تحقق نجاحات مبهرة.

عرفت مصر الكثير من ورش التمثيل والفرق المسرحية المستقلة، وشهدت تجارب عديدة في هذا الشأن، لكن الملاحظ أن "الخفة" تكسب في الغالب- مالياً بالطبع- هناك على سبيل المثال ما يسمى "تياترو مصر" الذي قدم عشرات الوجوه عبر مسرحيات تدعي أنها كوميدية، في حين أن صناعها لا يفرقون بين الكوميديا، التي هي أصعب أنواع الدراما، وبين الاستظراف الذي يمكن لأي عابر سبيل أن يمارسه. الغريب في الأمر أن الممثلين الذين تخرَّجوا في هذه الفرقة وغيرها من الفرق المشابهة، هم الأكثر حضوراً وعملاً، وربما الأعلى أجراً، وهو ما نشاهده، مثلاً في دراما رمضان التليفزيونية، أو في أغلبها بمعنى أدق، حتى إنهم يقدمون بطولات مطلقة أفنى ممثلون أكثر خبرة وموهبة أعمارهم حتى يصلوا إليها.

في المقابل فإن هناك ورشات وفرقاً تعمل على إعداد ممثليها بشكل جيد، وتنضجهم على نار هادئة كما يقولون، وبشكل علمي ومنهجي، صحيح أن هؤلاء الممثلين، لا مكان كبيراً لأغلبهم ، سواء في الأفلام السينمائية أو في المسلسلات التليفزيونية، لكن الفرصة عندما تتاح لهم، يلفتون الأنظار إليهم بشدة، بقوة حضورهم ومواهبهم، ويجعلون البعض يتساءل: أين كان هذا الممثل أو هذه الممثلة من قبل، ولماذا تأخر ظهورهم، مع إنهم أكثر موهبة وثقافة من كثيرين يحتلون الساحة الفنية.

المسرح المستقل

من بين هذه الفرق تبرز "الورشة" التي أسَّسها قبل أكثر من ثلاثين عاماً من الآن – تحديداً في العام 1987- المخرج حسن الجريتلي، وربما تكون رائدة ما يسمى في مصر المسرح المستقل، حيث لم تبرز قبل ذلك التاريخ فرقة أخرى وتستمر كل هذه السنوات، مطورة من نفسها ومقدمة جديداً ومختلفاً في كل مرة تطل فيها على جمهورها. قدمت "الورشة" مجموعة كبيرة من الممثلين الموهوبين، وربما تكون عبلة كامل هي الأكثر حظاً من بين هؤلاء العشرات، مدعومة بالتأكيد بموهبتها الكبيرة التي لم تعد تستثمرها في السنوات الأخيرة بشكل جيد، ومن بين من قدمتهم الورشة أحمد كمال الذي لم يأخذ حقه كاملاً في الانتشار والنجومية، وإن كان معروفاً لدي المشتغلين بالفن بأنه من أبرز مدربي التمثيل في مصر الآن، وهناك أيضاً سيد رجب، الذي بدأ مع "الورشة" بالحكي الشعبي، وعمل الثلاثة معاً "عبلة وكمال ورجب" في أول عرض حكي تقدمه الفرقة وكان بعنوان "نوبة صحيان"، عن نص للإيطالي داريو فو، تم تمصيره ويتناول قضايا سياسية واجتماعية. ومن وجوه "الورشة" التي لفتت الأنظار عبر الدراما التلفزيونية الرمضانية الحالية الفنانة عارفة عبدالرسول ومحمد عبدالعظيم، وشريف الدسوقي. الأخير عانى طويلاً، وعندما جاءته الفرصة وشارك في فيلم "ليل خارجي" للمخرج أحمد عبدالله، كانت المفاجأة أنه نال عن هذا الدور جائزة أحسن ممثل فى مهرجان القاهرة السينمائي دورة العام 2018. قدمت "الورشة" أيضاً فنان الحكي الراحل سيد خاطر، فضلاً عن عدد من المطربين والمطربات، منهم دينا الوديدي، فاطمة عادل، كما اكتشفت العديد من الفنانيين التلقائيين، ولاعبي خيال الظل، والأراجوز، وغير ذلك.

منذ بداية عمله بالفن وهاجس المغايرة والتجديد يلح على المخرج حسن الجريتلي الذي تخرج في جامعة بريستول في بريطانيا بدرجة امتياز في الدراما والأدب الفرنسي، ثم عمل ممثلاً بالمركز القومي للمسرح بمقاطعة الليموزان في فرنسا، ثم مساعد مخرج، وبعدها عمل مخرجاً وقدم أعمالاً لكتاب عالميين من أمثال شكسبير وألبير كامو، وستريند بيرغ، وبريشت، وفي المقاطعة الفرنسية نفسها أسس فرقة مسرحية أطلق عليها "مسرح الأرض والريح" استمرت خمس سنوات من العام 1975 إلى العام 1980 وقدمت أعمالاً تخص ثقافة وتاريخ واقتصاد هذه المقاطعة، وأهلها، وهي أعمال اشترك أعضاء الفرقة في كتابتها.

حين عودته إلى القاهرة في العام 1982 وبعد أن عمل مساعداً ليوسف شاهين في فيلمي "الوداع يا بونابرت"، و"اليوم السادس"، ثم مع المخرج يسري نصر الله في فيلم "سرقات صيفية"، أسس الجريتلي فرقته "الورشة" وكانت بداياتها مع المسرح العالمي بمعالجات تقربه إلى البيئة المصرية، فقدم أعمالاً للإيطالي داريو فو، والألماني بيتر هاندكه، والبريطاني هارولد بينتر، والفرنسي ألفريد جاري، وغيرهم. وبموازاة النصوص العالمية، وعلى الرغم من ثقافة الجريتلي الغربية، أو ربما بسببها فقد حرص على الاهتمام بالتراث المصري، فقدمت الفرقة عروض الحكي الشعبية التي لفتت إليها الأنظار، كما قدمت عروضاً للسيرة الهلالية، والسير الشعبية عموماً وعروضاً للعبة التحطيب، وخيال الظل وغيرها من الفنون التراثية.

مرجعية المخرج

يرى حسن الجريتلي أن الإنتاج يجب أن يظل في يد المخرج، وقد عمل مديراً لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وعمل أيضاً في مسرح الطليعة ومركز الهناجر التابعين لوزارة الثقافة، وعندما اكتشف أن الفنان لا يستطيع أن يعمل في علاقة تبعية مع الدولة، استقال من العمل الرسمي. هو يأخذ أيضاً بفكرة الفنان الشامل الذي يستطيع التمثيل والغناء والحكي والرقص واللعب بالعصا، ولأجل ذلك فالتدريبات لا تعتمد عليه وحده، بل يشاركه فيها مدربون مصريون وأجانب. يرى أن المسرح هو ملتقى كل الفنون، وهو لا يقتصر على التمثيل فحسب، فهناك لغة الجسد والصوت، ولا بد أن يكون هناك تناغم بين هذا وذاك وإلا فقد العرض صدقيته.

من العروض اللافتة التي قدمتها الفرقة: "غزير الليل"، "غزل الأعمار"، "السيرة الهلالية"، "حلاوة الدنيا"، "رصاصة في القلب" لتوفيق الحكيم، "أيام العز" لبديع خيري، "يوم القيامة" لبيرم التونسي، "يموت المعلم" لبيتر هاندكه، "المستعمرة التأديبية" لفرانز كافكا، وغيرها من العروض التي يمكن تقديمها في أي ساحة بعيداً عن الأبنية المسرحية التقليدية.

قدمت الورشة عرضاً بعنوان "محمود درويش شاعر طروادة"؛ لكنه لم يكن عرضاً مسرحياً بالمعنى المفهوم، بل كان عبارة عن "كولاج" مسرحي: مجموعة من قصائد محمود درويش يلقيها الممثلون، تشير إلى قضية تهجير الفلسطينيين، والمجازر الإسرائيلية في حقهم. استعاد العرض مقاطع من "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض"، و"البيت قتيلاً"، و"ذباب أخضر"، إلى جانب أغان متداولة عن قصائد درويش، ومنها "أحن إلى خبز أمي"، و"ريتا"، و"في البال". قدمت "الورشة" هذا العرض في العام 2008 في احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، وما يشفع لها هو رغبتها في التعبير عن قضية العرب أجمعين، القضية الفلسطينية.

حسن الجريتلي، المولود في العام 1948، لا زال حتى الآن شاباً في أفكاره وطموحاته، يبحث عن الجديد دائماً، ويقدم مسرحاً نوعياً، وعلى الرغم من نوعية مسرحه فقد استطاع الوصول إلى الجمهور العادي والبسيط الذي يذهب إليه في القرى والنجوع، وربما وقف هذا الجمهور على أقدامه لساعات عدة مستمتعاً بما يقدمه هذا الفنان من خلال "ورشته" التي ما مرَّ أحدٌ عليها واستمر بها إلا وترك علامة حتى ولو بعد حين.

المزيد من ثقافة