Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا بعد ما أصبحت الأمازيغية من الثوابت الدستورية في الجزائر؟

ما يجري من نقاشات تبدو متوترة وحادة مسألة عادية جداً في بلد عاش كبتاً سياسياً مدة نصف قرن

مسيرة احتجاجية في العاصمة الجزائرية في مارس الماضي (أ.ف.ب)

ظهور مسودة الدستور الجزائري الجديد، وتوزيع نسخ منه على الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني ووضعه على منصات التواصل الاجتماعي وعلى المواقع الرسمية للدولة الجزائرية، جاء موازياً لتاريخ رحيل الفنان القبائلي العالمي إيدير (واسمه الأصلي حميد شريت)، الذي توفي في 2 مايو (أيار) 2020، حيث غرقت شبكات التواصل الاجتماعي بنقاشات تصب كلها أو جلها في مسألة الهوية واللغة وشكل العلاقة مع العالم العربي، نقاشات تميزت بالعنف في بعض الحالات ووصلت في حالات أخرى إلى حد الاتهامات والتشكيك والتخوين... بخاصة بعد أن بدأ التيار العروبي- البعثي والإسلاموي في شن هجوم على مضمون مسودة الدستور التي اعتبرت اللغة الأمازيغية، إضافة إلى تثبيت واقعها كلغة وطنية ورسمية كما كانت في الدستور السابق، من الثوابت التي لا يجوز مسها أو تغييرها. كما شن التيار الإسلاموي هجوماً على اللغة الأمازيغية، وهو يعني هجومه على مسودة الدستور، هجوم جاء من بوابة وفاة الفنان العالمي إيدير وذلك بالمطالبة بتنحية مدير الشؤون الدينية والأوقاف لولاية بجاية السيد بوعلام جوهري لأنه تجرأ وترحم على الفنان إدير بطريقته الخاصة المتمثلة في نشر فيديو يظهر فيه هذا المدير وهو يؤدي أغنية لإيدير باللغة الأمازيغية، وهو ما أثار جنون الإسلاميين.

ولكني أعتقد بأن كل هذا الذي يجري من نقاشات تبدو متوترة وحادة والتي وصلت في بعض الحالات إلى درجة التخوين والتكفير والتهديد والسب والشتم، هي مسألة عادية جداً في بلد عاش كبتاً سياسياً مدة نصف قرن وأزيد من الاستقلال، حيث الإعلام مكبل، وها هو هذا الجيل الجديد يجد بين يديه شبكات التواصل الاجتماعي مفتوحة لإبداء رأيه، وأعتقد بأن كثيراً من هذه الأصوات الشاذة من البعثيين والإسلامويين المتطرفة وغيرها ستسكت، وشيئاً فشيئاً لن يبقى في ساحة النقاش السياسي سوى الأصوات الهادئة والعاقلة من أجيال مختلفة، ومن تيارات سياسية مختلفة أيضاً، والتي تدرك كيف ترفع المطالب في الوقت المناسب وبالدرجة السياسية المناسبة، حفاظاً على وحدة البلد وعلى تنوعه في الوقت نفسه.

وقد كشفت هذه النقاشات بكل ما يميزها من إيجابي وسلبي عن شيء مركزي لا تزال تعيشه الجزائر السياسية والثقافية حتى الآن، وهو أن مسألة "الهوية" كجرح سياسي وثقافي لا يزال مفتوحاً ونازفاً في الجزائر، وأن قضية الهوية لم تحل بشكل جذري، بل في كل مرة، وفي كل مرحلة، يتم تأجيلها إلى فترة لاحقة. وبينت أيضاً بأن مسألة الهوية في الجزائر ليست قضية جيل بعينه، فكما شغلت الجيل السياسي والثقافي الأول، جيل الثورة التحريرية من أمثال آيت أحمد وعبان رمضان وكريم بلقاسم وعلي يحيى عبد النور وكاتب ياسين وعمار مزداد ورشيد علاش ومولود معمري و... شغلت أيضاً وبالحدة نفسها الجيل السياسي الثاني الذي نشأ سياسياً وتكويناً وتعليماً في مرحلة الدولة الوطنية تقريباً، من أمثال سعيد سعيد وسالم شاكر ومقران آيت العربي وفرحات مهني وفاتة سعدات وجمال زناتي وأرزقي آيت العربي وصلاح بوكريف وإيدير وآيت منقلات وعبد الرحمن بوقرموح ويوسف مراحي وعبد السلام عبد النور وإبراهيم تازغارت ورشيد أولبصير وجمال عصاب وحسن حلوان وسعيد زموش وغيرهم، وهو جيل سياسي ولكن ميزته أنه جيل بحس ثقافي وفني، فجل مناضليه البارزين هم من الكتاب والفنانين والسينمائيين والمسرحيين والجامعيين والصحافيين الذين دخلوا السياسة من باب الكتابة الإبداعية أو الممارسات الفنية أو الإعلامية.

ولكننا سنكتشف هذه الأيام، ومع صدور مسودة الدستور الجديد، بأن مسألة جرح الهوية حاضرة وبشكل قوي لدى الجيل الجديد أيضاً، أي الجيل الذي تكوّن بشكل أساس في مدرسة جزائرية معرّبة. وما يميز هذا الجيل الثالث عن سابقيه أنه يستثمر في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل جيد من أجل رفع مطالبه، وهو جيل فتح عينيه على الربيع الأسود الذي تمثل في تظاهرات عارمة حدثت في يونيو (حزيران) 2001 والتي راح ضحيتها 128 شهيداً، ويمكن وصف هذا الجيل الجديد أيضاً بأنه يتميز بشيء أساسي هو "القراءة"، فهو جيل يقرأ، ولعل منطقة القبائل وضواحيها (تيزي وزو وبجاية وسطيف وبومرداس والبويرة ومدينة الجزائر العاصمة) هي من أكثر المناطق استهلاكاً للكتاب الأدبي والسياسي، والمنطقة التي تنشط فيها جمعيات المجتمع المدني بشكل كبير والتي أسست لتقليد ثقافي وسياسي متميز هو ما سمي المقاهي الأدبية، حيث لا تخلو مدينة كبيرة أو صغيرة أو متوسطة أو قرية في منطقة القبائل من مقهاها الأدبي، والذي يدعى إليه أكبر الكتاب لتنشيط لقاءات وتوقيع كتبهم للقراء، بل عرفت المنطقة أيضاً، مع هذا الجيل الجديد المسكون بمسألة الهوية، ظاهرة الصالونات الأدبية الصغيرة والمهرجانات المحلية بمساعدة بعض البلديات وبإشراف جمعيات ثقافية أو المجتمع المدني بشكل واضح، كما هو صالون الكتاب لبلدية بوجيمة ولاية تيزي وزو وهي بلدية صغيرة، لكن صالونها للكتاب أصبح ظاهرة متميزة تقام بمناسبة ذكرى الربيع الأمازيغي في نهاية الأسبوع الثالث من أبريل (نيسان) من كل سنة، وكذا مهرجان راكونتار الذي يقام سنوياً في يوليو (تموز) وهو مهرجان أدبي وسينمائي وموسيقي وتشكيلي ويتميز بأنه مهرجان متنقل من قرية إلى أخرى، حيث يستضاف المشاركون الذين يجيئون من الجزائر ومن الخارج أيضاً من قبل الأهالي وفي بيوتهم، وتملك هذه التظاهرات هامشاً من الحرية لأنها بعيدة عن الدعم المادي من النظام أو هياكله، فهي تقوم على تكاتف المواطنين وعلى الدعم من بعض الخواص من المقاولين وأرباب العمل والشركات التي تؤمن بمسألة دعم الثقافة والفن.

إن رحيل الفنان العالمي الكبير إيدير وتوزيع مسودة الدستور الجديد الذي وعد به رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون وتضمنه اقتراحاً يقضي باعتبار اللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية وضمّها إلى المواد التي هي من الثوابت التي لا يمكن مسّها بتغيير لاحقاً، وما تبع ذلك من نقاشات، كشف بأن الجزائر لا تزال أمامها عقبة كبيرة يجب حلها بكل شجاعة، وبعقلية سياسية جديدة، وهي مسألة الهوية، وهي مسألة بدأت تطرح في بلدان شمال أفريقيا كلها بدرجات متفاوتة.

وأعتقد بأن النقاش الهوياتي الذي يطغى عليه حتى الآن الكثير من الحماسة والتجاذبات والتخندقات، سينتقل لاحقاً وبهدوء أكبر إلى تناول المسائل الجادة التي يجب توفرها للإجابة عن "سؤال الهوية"، ولعل أولها مسألة المنظومة التعليمية: إذ لإنقاذ الجزائر من أي فتنة محتملة، أصبح ضرورياً وبكل شجاعة سياسية وعلمية وتربوية إعادة النظر في المدرسة الجزائرية لكي تتكيف مع ظرف هوياتي جديد، مدرسة بلغتين وطنيتين. فالمدرسة الجزائرية منذ نشأة الدولة الوطنية المستقلة عام 1962 كانت مدرسة قائمة على توجه "عروبي" أغفل الجانب الأمازيغي في بنية التعليم والتكوين. وأعتقد بأن هذه مهمة اللسانيين وعلماء البيداغوجيا، وهي مهمة ليست باليسيرة.

ومن دون شك، سينتقل النقاش حول الهوية والمنطلق من مسودة الدستور الجزائري الجديد، في خطوة لاحقة، وبكثير من الهدوء أيضاً، إلى طرح تصور للبدائل الثقافية التي يمكنها أن تستجيب لظرف سياسي جديد، بدائل ثقافية لجزائر جديدة، من خلال إعادة النظر في سياسة الكتاب والنشر باللغتين، وسياسة القراءة باللغتين الوطنيتين أيضاً، والبحث عن مسرح وسينما يتناغمان مع الراهن السياسي الجديد، حتى لا نترك الإرث لجيل يأتي من بعد ويضطر للبدء من الصفر الثقافي.

كما أن الإعلام، وفي ظل البحث عن جزائر جديدة بدستور، يريد أن يكون خريطة طريق ويكون حامياً لها. يجب إعادة النظر في منظومة الإعلام في الجزائر التي لا تزال تشتغل بعقلية السبعينيات السياسية، وأن يتم تحرير المنافسة الإعلامية بما يكفل حرية الصحافة من قبل النظام واحترام أخلاقيات المهنة من قبل الممارسين.

لقد حركت مسودة الدستور نقاشاً حول الهوية كان يجب أن يكون، ومهما تكن النقاشات ساخنة حتى الآن، فهذا الحال يعد إيجابياً، لأن مواجهة المرض ليست بتجاهله ولكن بمجابهته ومعاينته وتحليله.

المزيد من آراء