Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجوع وراء تحدي إجراءات الحجر في أفقر المدن اللبنانية

"رأيت أناسا بثياب مرتبة يأكلون من حاويات النفايات"

يتربّص الجوع بأفراد عائلة "إنتصار" الخمسة الذين يعيشون داخل منزل بائس في مدينة طرابلس اللبنانية، دفعهم ضيق مساحته إلى وضع مطبخهم المُرتَجَل داخل  حمام (دورة مياه) معطّل.  وفيما تجلس الأم اللبنانية العازبة على أريكة متهالكة تستحيل سريراً وتحتلّ الجزء الأكبر من الحجرة الثانية، تشرح لنا كيف تعتمد أسرتها "على التبرعات" كي تعيش.

هنا، في أفقر أحياء ثاني أكبر المدن اللبنانية، تُعتبر الإصابة بفيروس كورونا ثانوية أمام يقين حلول المجاعة. وبسبب الانهيار الاقتصادي غير المسبوق في البلاد، الذي تزيده الجائحة سوءاً، هجم الجوع على هذه الأحياء. وهذا ما دفع سكان طرابلس، المدينة الأفقر في البلاد إحصائياً، إلى تحدّي إجراءات الحجر المُشدّدة والمخاطرة بالإصابة من أجل المشاركة في احتجاجات حاشدة. ورمت الجموع الغاضبة قنابل حارقة على المصارف واشتبكت مع القوى الأمنية التي قتلت الأسبوع الماضي متظاهراً عمره 26 سنة. وفيما استوطن الفقر الشديد المدينة الشمالية منذ زمن بعيد، يقول السكان وعمال الإغاثة معاً إن الارتفاع الجنوني للأسعار وهبوط العملة يدفعان بأعداد كبيرة من الناس تحت خط الفقر ويذكّيان التوترات التي يخشى كثيرون أن تؤدي إلى اندلاع نزاع فعلي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن مكان إقامتها الصغير جداً في القبة، حيث تميل البنايات كأنها أوانٍ مكدّسة فوق بعضها بعضاً على جانب التلة المنحدر، تقول "إنتصار" إن التبرعات التي يعتاش منها كثيرون تشحّ. فحتى مال الجمعيات الخيرية ينفد. وتشير "يجب أن يُسمّى هذا الحي حي البؤساء"، فيما يركض أطفالها الأربعة حولها، تملؤهم الحماسة لاحتمال الحصول على أول وجبة ساخنة منذ أسبوع.

وفي الخارج، تقدم مجموعة من المتطوعين في جمعية محلية "يخنة اللحم". وهذه أول مساعدة خارجية يتلقّاها الحي منذ أسابيع. تضيف هذه الأم "العام الماضي، كانت الوجبات المشابهة تُقدَّم بانتظام، لكن هذا العام بسبب ارتفاع الأسعار، لا يستطيع أحد تحمّل كلفة الأعمال الخيرية". وتشرح "الوضع انهار والمشاركون في الاحتجاجات يتعرّضون لإطلاق النار والفقر يزيد والأسعار ترتفع بشكل جنوني. لا مستقبل لنا. ولا أمل لنا". 

العاصمة الثانية للبنان

كانت طرابلس التي تبعد 30 كيلومتراً فقط إلى الجنوب من سوريا مركز نفوذ اقتصادي في لبنان في يوم من الأيام، بمينائها المتوسطي النشيط ومجموعات مصانعها. حتى إنّ المدينة ازدهرت خلال الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، ويعود ذلك جزئياً إلى تجارة التهريب النشيطة والمربحة. لكن عقود الإهمال الحكومي في العاصمة الثانية للبنان، والصراع المسلح القاسي بين سكان المدينة من السنة والعلويين، الذي لم تخفّ حدته سوى عام 2015، أغرق أجزاء كثيرة من طرابلس في فقر مدقع.

وفي منطقة القبة بمنازلها التي ما زالت تحمل آثار قذائف الحرب الأهلية والصراع الطائفي الذي تلاها، بلغ معدل البطالة قبل آخر ضائقة اقتصادية 60 في المئة وفق إحصاءات الأمم المتحدة. أما معدل الفقر الحقيقي في طرابلس التي يقطنها نحو 73 ألف نسمة، فغير معروف، إنّما يُعتقد أنه الأعلى في البلاد.

ويقول قدامى سكان طرابلس بمن فيهم الصحافيون الذين غطّوا أحداث الحرب الأهلية والصراع الذي تلاها داخل مدينتهم إنه لم يسبق لهم أن رأوا هذا القدر من الإحباط والتوتر في المدينة.

وتشرح عليا ابراهيم، وهي صحافية وُلدت وعاشت في المدينة وشاركت في تأسيس الموقع الإخباري المستقل "درج" (Daraj.com) "إن مستويات الفقر هذه لم يسبق لها مثيل".

"إذا خيّرت الناس بين الإصابة بالفيروس أو بالجوع المؤكد سيختارون مكافحة الجوع. وسينفجر الوضع". 

داخل تجمّع حاشد أُقيم يوم أحد، يتصاعد الغضب من الجموع في ساحة النور في طرابلس، فيما يتحدّى المتظاهرون إجراءات الحجر كي يجتمعوا حداداً على فواز فؤاد السمان الذي أردته القوات الأمنية قتيلاً خلال مظاهرة في 27 أبريل (نيسان) المنصرم. 

يحمل الجَمع صور الأب الشاب ويتوجه إلى بيت الفقيد، مردّداً هتافات تدعو إلى إسقاط النظام، بينما يتابع المشهد أفراد القوى الأمنية المدجّجون بالسلاح.

وتقول شقيقة فواز الصغرى، فاطمة، 24 سنة وهي نفسها ثائرة متحمسة، لـ"اندبندنت" إن الحكومة والمصارف انكبتّ على سرقة الشعب طوال عقود ولذا تطالب حركة الاحتجاجات بتغيير النظام كاملاً. وهي تحذّر من وقوع صراع أكبر.

وتلفت فيما تقف إلى جانب يافطة طُبعت عليها صورة شقيقها "هذه المدينة من أفقر المدن في البلد، ولما كان أخي عاجزاً عن تأمين الطعام لابنته انضمّ إلى الاحتجاج، فرُمي بالرصاص". 

"أخشى أن يكون موت أخي قد فتح صفحة جديدة في هذه الثورة التي قد تصبح أكثر عنفاً. ليس أمام الشعب ما يخسره". ويقول أحد أفراد الجمع، رامي هادي، 41 سنة، العاطل من العمل منذ ستة أشهر إنّ من يديرون البلاد هم "الميليشيات والسياسيين الفاسدين، لا أعلم إلى أين تتّجه الأمور. لقد بلغنا حدّ الجوع. نستطيع أن نُعلّي صوتنا وسوف نُسمع".

بعد عقود من سوء الإدارة المزمن والزبائنية والفساد، تفاقمت المشكلات المالية في لبنان مع الوقت لتبلغ حدّ إشعال ثورة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وزاد وصول فيروس كورونا الوضع الاقتصادي المتردي سوءاً مع إغلاق المؤسسات التجارية والحدود بغية الحدّ من انتشار الجائحة. ولم يسجّل البلد الذي يقطنه أكثر من 6 ملايين شخص، من ضمنهم مئات آلاف اللاجئين السوريين والفلسطينيين، سوى 740 إصابة بكوفيد-19 مقابل 24 وفاة.

المصارف

لكن كثيرين يخشون أن تصبح الأزمة المالية أشدّ فتكاً من المرض. وانصبّ جزء كبير من الغضب بالتالي على المصارف. وتُرمى قنابل المولوتوف بشكل دوري على واجهاتها وعلى ماكينات الصراف الآلي. في هذه الأثناء، أصدر البنك المركزي، الذي اتّهمته الحكومة بالتسبّب بالتضخم المفرط، سلسلة من الإجراءات المتناقضة أحياناً في سعيه إلى التعامل مع شحّ احتياطي العملات الأجنبية. وأتى فرض إجراءات قاسية عبر السيطرة على رؤوس الأموال ووضع سقف للسحوبات النقدية وتحويل الدولار، ليخنق الأُسر أكثر.  ومع خسارة العملة اللبنانية أكثر من نصف قيمتها، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل حاد. وتضاعفت أسعار بعض المواد الأساسية مثل الأرز ثلاث مرات تقريباً هذا العام. كما ترتفع معدلات البطالة بشكل كبير.

وبلغت شدّة الأزمة مبلغاً حمل الأمم المتحدة إلى الإدلاء برأيها في المسألة هذا الأسبوع، فشدّد مجلس الأمن على "الحاجة الملحة" إلى أن تطبّق السلطات اللبنانية "إصلاحات اقتصادية حقيقية".

كما حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من "تسارع ارتفاع أعداد" الأشخاص الذين يعانون من الفقر المدقع.

ودفع اليأس رئيس الحكومة حسان دياب، الذي يرزح تحت وطأة الضغوطات إلى الاعتراف بأنّ الاقتصاد يشهد "هبوطاً منفلت العقال" وقدّم طلباً رسمياً للحصول على مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي.

في الوقت ذاته، عرض خطة إنقاذ اقتصادية طال انتظارها تغطّي فترة خمس سنوات، تتوقّع خسائر تُقدّر بعشرات مليارات الدولارات في القطاع المالي الذي أسهم في تمويل عقود من العجز الكبير في ميزانيات الدولة.

ومن جانبها، رحبت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا، بالخطة واعتبرتها "خطوة مهمة". وحظيت هذه الخطوة كذلك بتأييد التنظيم اللبناني الشيعي النافذ "حزب الله"، الذي يملك ذراعاً عسكرية وسياسية، ودعا زعيمه حسن نصر الله البلد إلى إعطائها فرصة. 

لكن الجهة التي قد تُفسد هذه الخطة هي المصارف اللبنانية نفسها التي رفضت المقترح جراء الاستياء من عدم استشارتها. وقالت جمعية المصارف في البلد إن الوثيقة التي تقع في 53 صفحة لن تنجح سوى في تقويض الثقة بالبلاد.

ولم تؤدِّ هذه المناوشات على أعلى المستويات في العاصمة سوى إلى إذكاء الغضب في شوارع طرابلس.  وحذّر كثيرون هناك من أن المعاناة لا تقتصر على الفقراء فقط، بل تطال الطبقة الوسطى التي درجت تاريخياً على دعم أضعف أفراد المجتمع لكنها تصبح بسرعة بدورها تحت خط الفقر. 

وتروي "سحر منقارة"، 45 سنة، من سكان طرابلس ومتظاهرة كانت تدير حتى الأسبوع الماضي مبادرة شعبية لإطعام عشرات العائلات في ظل الحجر والإغلاق "رأيتُ ما لم أره من قبل، مثل أشخاص بثيابٍ مرتبة يأكلون من حاويات النفايات حرفياً". مع حلول الضائقة الاقتصادية، توقّفت التبرعات التي تتلقّاها المبادرة. ومع أنها عاصرت الحرب الأهلية وكل موجات الاقتتال التي عصفت بمدينتها، تقول "سحر" إنها لم تخشَ يوماً على مدينتها كما تخاف عليها اليوم. وتضيف "نقف على شفير الانهيار التام، وتفاقم حدّة العنف والصراعات الداخلية بين عدد أكبر من الأقليات والمزيد من اليأس. للمرّة الأولى، أشعر بالخوف".

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير