لا يُعتبر الإنسان في علم التصنيف الحيوي عاقلاً (Homo sapiens) فحسب، بل صانعاً (Homo Faber) أيضاً، حيث سُجل أول تحرر فعلي للإنسان بإطلاق يديه، فرَبطت علاقة طردية بين عدد الأشغال التي تتقنها اليدين ودرجة نجاح صاحبها، وتمكن البشر نتيجة ذلك من القيام بمهام متعددة وابتكار أدوات معقدة، ومن النجاح بمهمة التفاعل التكافلي مع المحيط الطبيعي.
أما اليوم فقد تحولت البيئة الطبيعية وأدواتها المحفزة إلى صناعية آلية ومكررة بشكل يبعث على الملل على المدى الطويل مع ساعات عمل مرهقة للعقل والتفكير، في حين يُشكل عامل التطور الفردي نسبة تكاد لا تلاحظ في معادلة غير متكافئة نسبة للجهد المُقدم.
يعمل إنسان "مجتمع الوفرة" اليوم ما يتراوح بين الـ 40 و60 ساعة في الأسبوع لتأمين حاجاته اليومية، إضافة إلى ساعات الأعمال المنزلية، بينما كان يكفي الإنسان الأول ما يقارب 35 ساعة في الأسبوع فقط لضمان حياة مستقرة مع عبء منزلي أقل وتفوق مرعب على الجانب النفسي، إذا ما قارنا شروط وتفاصيل وبيئة العمل.
حلقة العمل
العمل اليوم حلقة في سلسلة صناعة اقتصادية يؤمَّن فيها المال اللازم للإنفاق في الاقتصاد المحلي وتغذية القوة الشرائية، مما يسهم في نمو المشاريع وتأمين مزيد من الوظائف، بالتالي زيادة العائدات الضريبية التي تسهم في تمويل الإجراءات الاجتماعية.
لقد كان عالم ما قبل الثورة الصناعية يتشكل من جماعات صغيرة تجمعها روابط قوية، وكان التعاون أهم المميزات التي منحتهم تفوقاً في ذلك الوقت، حيث خرج الجميع إلى العمل الزراعي ولم يكن للبطالة مكان بينهم. في ما بعد جاءت الأنظمة الجديدة الخاصة بالسوق والسلطة لتقول لك لم تعد محتاجاً للاعتماد على محيطك الاجتماعي سنقوم نحن بدلاً من ذلك برعايتك وتوفير الوظائف والمعاشات والتأمين والحماية مزودين بجيش ضخم من الاختصاصيين، وعلى الأرجح من هنا بدأت البطالة تتقنع.
عاطل برتبة موظف
لا شك في أن فكرة البطالة المقنعة متغلغلة في معظم المؤسسات، بخاصة الرسمية منها، لكنها تجسدت بشكل جليّ في أزمة كورونا التي أثبتت أن شريحة كبيرة من الموظفين المسجلين رسمياً على لائحة العمل لا حاجة حقيقية لهم، وهم يندرجون بشكل أو آخر على قائمة البطالة، حيث كان البعض منهم عاطلاً بشكل عملي عن العمل والبعض الآخر كان يعمل بطريقة غير فعالة، أي لا دور حقيقياً لهم في عملية الإنتاج ولا تأثير لوجودهم على الناتج الكلي، سواء التزموا مكاتبهم أم بيوتهم.
واللافت أن بعض شاغلي المهن تُهدر طاقاتهم بوظائف لا تتناسب مع مهاراتهم وخبراتهم، وفي بعض الأحيان في غير مجال عملهم أو اختصاصهم الفعلي، أي أنهم يعيشون آثار البطالة المتخفية بكل ما يترتب عليها من تأثيرات نفسية واجتماعية وعاطفية، حيث تُعرّف البطالة على أنها ظاهرة صناعية اقتصادية فقط، تختفي بتأمين عمل ما، من دون الأخذ بالاعتبار حقيقتها النفسية الاجتماعية، وأهمية الشعور الحقيقي بالإنجاز على المستوى النفسي الذي يُغيّب في جملة المهام والأعمال الاعتيادية التي يتطلب منا القيام بها يومياً.
حاجات أُخرى
تُعد الحاجة لتأمين أساسيات البقاء أول خطوة للصعود الصحي على هرم الحاجات، إلا أن الغالبية قابعة اليوم في قاعدته، ومنشغلة بسد الحاجات الفيزيولوجية فحسب، ومحرومة من نتائج العمل الفعلية التي يفترض أن تؤمن جوهر الحاجات الاجتماعية والنفسية والإنسانية، وتعزز مُحفزات السلوك ومشاعر التقدير والمكانة والإنجاز.
لقد شكل العمل نقطة تحول كبيرة فَصلت الإنسان عن الكائنات الأخرى وميزته ورفعت منزلته، وساعدته على تحقيق غاية وجوده. لا يمكن تحجيم العمل اليوم ليقتصر على دوره في ضمان البقاء من دون الاهتمام بقيمته نفسها، بالتالي من الطبيعي أن يفقد شغفه إذ يُركز على دوره المادي فقط، بعيداً من العامل النفسي الذي يعد شرطاً مكملاً لتحقيق الغاية الأساسية من المال.
مجتمع المعرفة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منذ أن بدأ الإنسان الأول البحث عن الطعام والمواد اللازمة للبقاء بحث عن المعرفة أيضاً كشرط أساسي للتطور والاستمرار وحاجة ضرورية لرفع كفاءته في البحث واكتشاف المحيط البيئي وفهم الظواهر الطبيعية والتعامل أو تطويع بعضها. فجمع معرفة فردية واسعة ومتنوعة عن محيطه، وتحكم داخلي وكفاءة جسدية تفوق بها حتى على أخلافه الحديثين، حيث لازمت فكرة العمل كلٌ من المعرفة والبحث والتطور.
أما اليوم فيُروج للعمل على أنه مجموعة من المهام الروتينية التي يتوجب عليك القيام بها بشكل شبه آلي باستخدام القليل من المهارات المكتسبة لإنجاز عمل أو تقديم خدمة ما دون الدراية الحقيقية بها.
مهنة دائمة
عندما فَقد الكاتب والمنظر الثقافي السويسري دينيس دي روجيمونت عمله، وصف حالته حينها بأنّه "في حالة بطالة" بدلاً من "عاطل من العمل"، منطلقاً من اعتقادِ أنه عندما يكون التفكير مهنتك فحتى البطالة تكون عملاً على أي حال.
فالتفكير وظيفة لا تشترط وجود عمل محدد بأجر وإطار زمني مسبق، بالتالي ليس بإمكان المثقف أن يكون عاطلاً من العمل بالمعنى الدقيق، فتوقفه عن عمل ما سيتيح له الانتقال مباشرة إلى عمل آخر، متحرراً من الجداول المسبقة أو التقيد بتوقعات منتظرة.
لا يمكن لمهنة شكّلها الشغف أن تُقعد صاحبها عاطلاً من العمل. العمل فِعل رغبة وانتماء فكري وعاطفي يحفز صاحبه، وليس مهمة ننتظر تكليفنا بها. إنه نمط حياة وعملية مستمرة من الإنجاز الفكري الذي طُور عشرات المرات قبل أن يتحول إلى كيان مادي.