Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموسيقى تشفي جراح الإنسان في معركته مع العزلة

فنانون يهبون أصواتهم لتخليص البشرية من قلق كورونا

أندريا بوتشيلي يغني للعالم وحيدا من أمام كاتدرائية ميلانو (أ.ف.ب)

على الرغم من أن فيروس كورونا التهم لحظات لا تحصى من البهجة، فإن الموسيقى ظلت عصية على شهيته المفتوحة، إذ تجسد تأثيرها في حملات عالمية لتشجيع الناس على الالتزام بالعزل المنزلي، وتفادي الوقوع في فخاخ الوحدة، من خلال التضامن معاً تحت أنغام المعزوفات الخارجة من أسوار البيوت من دون تكلف، في مبادرة لاسترداد جزء يسير من الحياة الطبيعية.

حفلات الإنترنت

بعد رفع مستوى التدابير الاحترازية إثر تفشي كوفيد - 19، كان متوقعاً أن تلغى الفعاليات الغنائية التي يترقبها الملايين. بغرض الاستمتاع بمشاهدة فنانيهم المفضلين على المسارح العالمية، لكن الواقع اضطر البشر بمختلف أعراقهم واهتماماتهم على التزام قوانين العزل المنزلي، التي طالت بطبيعة الحال الفنانين العالقين مثل محبيهم تحت وطأة إجراءات خانقة، دفعتهم إلى تنظيم الحفلات المباشرة على الإنترنت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وشهد السبت الماضي، حفلا موسيقيا ضخما، نظمته نجمة البوب الأميركية، ليدي غاغا، بالتعاون مع "غلوبال ستزن"، وانعكس التعطش العالمي في مدة الحفلة التي استمرت لثماني ساعات متواصلة، وضمت أندريا بوتشيلي، وجون لجند، وألتون جو، وكريس مارتن، وغيرهم من الفنانين الذين أدوا أجمل الوصلات الموسيقية لمساندة العالم في مأساته، كما أعلن المنظمون التبرع بعائدات الأمسية المقدرة بـ 35 مليون دولار، لصالح صندوق منظمة الصحة العالمية المخصص للتعامل مع الأزمة الحالية.

صوت الأزمات

على مر التاريخ، كانت الموسيقى رفيقة الإنسان التي لا تخون، يكتبُ الشاعر القصيدة لتصف دواخله بأنانية، ويغنيها الفنان ليوحد بها فؤاد الآلاف، في الأزمات، ربما تكون الموسيقى بإيقاعها الحر عزاء الإنسان. عندما صُدم الأميركيون عام 1963، باغتيال جون كينيدي، الرئيس الذي رأت فيه الجماهير حيوية الشباب، نجمت عن الحادثة المأساوية حالة حزن لم تتجاوزها الولايات المتحدة، إلا على وقع أغنية البيتلز الشهيرة ( I Want To Hold Your Hand) ، "أريد أن أمسك يدك"، حينها استعادت الأمة بهجتها، متمسكةً بكلمات القصيدة وعنوانها المحفوف بالتضامن والمواساة، التي احتاجهما الوجدان الأميركي للنهوض مجدداً.

المفارقة، أن الفرقة البريطانية تمزقت منذ عقود، لكن بول مكارتني، أحد أهم فرسانها النبلاء، ما زال يحتفظ بصوت الستينيات الأصيل، وعلى الرغم من حضوره المتقطع في الساحة الموسيقية، فإنه سطع، أخيراً، ليواسي العالم بإحدى أغانيه الشهيرة. خروج نجم مثل مكارتني، في ظل الأضرار الجسيمة التي يحدثها كورونا في بريطانيا وأميركا له وقعه الخاص على أجيال تقدر نجوم البيتلز لتأثيرهم العميق في ثقافتهم.

ومن إيطاليا، تناهى إلى العالم، مشهد أندريا بوتشيلي، وهو يغني وحيداً بمناسبة عيد الفصح من أمام كاتدرائية ميلانو. استمع الملايين إلى الصوت الأوبرالي الفريد بواسطة يوتيوب، لكن هذه المرة لم يدهشهم أداؤه فحسب، بل شجاعته، وإطلالته الملهمة التي كانت بمثابة إنعاش لكل القلوب التي فطرها فيروس كورونا، ولم يكن منظر الإيطاليين يغنون من على شرفات منازلهم، إلا تجسيداً لمرارة الحال، فبالأمس كانت الموسيقى مرادف الفرح، أما اليوم، فهم يلوذون إليها في خضم أزمة غير مسبوقة.

العلاج بالموسيقى

في الولايات المتحدة، يوجد عدد من العيادات التي تستخدم الموسيقى لعلاج المرضى، وتعرّف جمعية العلاج بالموسيقى هذه الممارسة، بأنها الاستخدام السريري للموسيقى لتحقيق أهداف فردية ضمن علاقة علاجية تساعد على التحكم بمشاعر القلق، وتوفر طرقاً لتحسين التواصل لمن يجدون صعوبة في التعبيرعن أنفسهم بالكلمات، كما أثبتت الأبحاث فاعلية العلاج في إعادة التأهيل البدني، والتحفيز النفسي، وتوفير الدعم العاطفي للعملاء وعائلاتهم.

وبحسب الجمعية، فإن العلاج الموسيقي بدأ بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، عندما بادر مجتمع الموسيقيين من الهواة والمحترفين بزيارة المستشفيات العسكرية للعزف والغناء للجنود الذين يعانون من الإصابات الجسدية، والمشكلات النفسية الناجمة عن الحرب، وعندما لاحظ الأطباء التحسن في حالة المرضى واستجابتهم، طلبوا توظيف الموسيقيين، الذين كانوا آنذاك بحاجة إلى التدريب الأكاديمي المسبق لتجهيزهم قبل دخول المنشآت الطبية، ولعل استعمال الموسيقى في ذلك الوقت، يتشابه في جوهره مع مجريات الوضع الحالي، حيث تضج مواقع التواصل الاجتماعي، بمقاطع مرئية تظهر بعض العازفين بالقرب من المستشفيات، وفي المحاجر الصحية، حتى أن بعض الطواقم الطبية انضم لهذه المبادرات بهدف مساندة المصابين بفيروس كورونا.

العالم العربي

عربياً، توجه بعض الفنانين مثل كارمن سليمان، ومصطفى الحاج، وفرقة ديسكو مصر، وتامر عاشور إلى تنظيم حفلاتهم على الإنترنت، وبعد النجاح المتحقق، أطلقت وزارة الثقافة المصرية، مبادرة "الثقافة بين يديك"،  التي استضافت الموسيقار عمر خيرت وأصالة وأنغام وآمال ماهر وأوركسترا القاهرة. كما سارعت وزارة الثقافة السعودية، الأربعاء الماضي، بتنظيم حفلة غنائية للفنان محمد عبده، عبر البث المباشر بتطبيق انستغرام، لتنتظم في عقد المبادرات التي أطلقتها الوزارة لمساندة الأفراد أثناء عزلتهم، منها مسابقة التأليف المسرحي، وأدب العزلة، وماراثون القراءة، وفيلم الليلة.

سهرات يومية

وعلى الصعيد الشعبي في السعودية، أطلق مقهى أرباب الحرف، في مدينة جدة غرب البلاد، حزمة من الأمسيات الموسيقية عبر الفضاء الإلكتروني، بمشاركة عدد من العازفين والعازفات من مختلف بلدان العالم العربي، بهدف كسر عزلة الواقع المخنوق، إثر التدابير الاحترازية المتزايدة للحد من انتشار فيروس كورونا.

ويقول مؤسس المبادرة عبدالله الحضيف، بأن الفكرة بدأت بالتواصل مع أصدقائه الفنانين الذين أبدوا استعدادهم بالمشاركة، من منطلق إيمانهم بدور الموسيقى في المواساة والتخفيف من الضغوط التي تعيشها مجتمعاتهم، ويتابع: عندما لاحظنا أن الأزمة ستطول، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة العزل المنزلي، اتجهنا نحو إقامة سهرات موسيقية بشكل يومي على منصات التواصل الاجتماعي.

وبحسب أميرة الفاضل، مشرفة المجالس الثقافية، فإن جهود فريق العمل تركزت على إيجاد بدائل تسهم في الحيلولة دون توقف الفعاليات، لذا جاءت فكرة البث المباشر، الذي لم يكن جسراً لمرتادي الملتقى فحسب، بل فتح آفاقاً جديدة أسهمت في الوصول إلى شريحة واسعة في مختلف الدول.

ويعتبر الفنان منير الحبشي، تجربة العزف الأخيرة بديلاً لا مناص منه خلال الوضع الحالي، وعلى الرغم من دورها من ناحية التوسع والوصول لشرائح جديدة، لكنها حتماً ليست كالتواصل الحي. ويصف مشاعره بأنها مزيج من التفاؤل والحذر، منوهاً بأنه يلوذ إلى الموسيقى لأنها تتسلل إلى دواخله بخفة، فيسترق من خلالها أملاً شارداً. فالموسيقى، على حد وصفه، تلامس وجدان العالم المكلوم، وتخفف ما يعتري النفس من ألم، وصولاً إلى نسيانه. ويستدرك، هذا لا يعني التغافل والهروب من الواقع، لكن البقاء حبيس الضغوط لفترة طويلة تنتج منه أضرار وخيمة.

تجربة مثيرة

من جانبها، تقول عازفة الكمان البحرينية، كيان، إنها إنسانياً حزينة على موت الآلاف، وخسارة البعض لوظائفهم، لكنها من الناحية الفنية، استثمرت وقت العزل بالتدريب، والتواصل مع الناس عبر العالم الافتراضي، مبدية سعادتها بأنها ساعدت في الحد من مشاعر القلق والتوتر لدى الناس من خلال أوتارها، وتصف التجربة بأنها تبعث الإيجابية، وتضفي البهجة في عالم يحتاج إلى المواساة والوقوف معاً.

ويبدي عازف الساكسفون اللبناني فادي بشارة، تفاؤله بزوال الأزمة قريباً، مشيراً إلى أن العزف ساعده على تحمل البقاء بالمنزل طيلة الوقت، ويصف تجربة إقامة حفلة موسيقية على الأونلاين بـ"بالمثيرة"، كونها تمنح موسيقاه القدرة على اختراق الحدود، من دون الحاجة إلى تعريض نفسه والآخرين للخطر.

وتعبر الأردنية دانة أبو صبيح، عن ارتياحها خلال العزف بالبث المباشر، كما تخطط لتنظيم المزيد بعد إقامة ثلاث أمسيات لاحظت فيها تفاعل الجمهور. تقول إنها خلال أزمة كورونا، تشعر بالحرية في إدارة وقتها، بعدما استطاعت إنجاز الكثير من المهام المعلقة التي لم يمكنها القيام بها مسبقاً، لضغط عملها كمهندسة في مجال الطاقة الشمسية. وتتابع، "من دون التشللو، آلتي المفضلة، لكان مصيري الغرق في حالة اكتئاب بسبب العزل المنزلي".

وبحسب عازف الغيتار المصري مجدي سليم، فإن الفقد يحيل الإنسان إلى تثمين الأشياء، وهو ما يتفق معه الفنان السعودي فيصل العمري، آملاً بأن تعود البشرية أكثر قوة، ويشير إلى أن الجميع حول العالم في ظل قيود الحركة، يعيش مأساة قد تطول، ما يحتم على الفرد البحث عن السلوى والموسيقى الحية من خلال العوالم الافتراضية.

المزيد من متابعات