Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السلطة الإيرانية ومحطات من المصادرات العلمية

أحد قادة الحرس الثوري اتهم إسرائيل الصيف الماضي بسرقة الغيم والتسبب بالجفاف

الجنرال سلامي ادعى اختراع جهاز خارق يكتشف كورونا (أ.ف.ب)  

موضوعياً، لا أحد ينكر الموقع التاريخي لسكان الهضبة الإيرانية ودورهم في سياق الحضارات البشرية والإسهامات التي قدموها على مر العصور، إن كان في الحقب الماضية قبل الإسلام أو في مرحلة ما بعد انتشاره في هذه البلاد، إذ استطاعوا أن يتركوا للتراث الإنساني إنجازات علمية وفكرية وثقافية، وهذه المسيرة لم تتوقف، بل استمرت في العصور الحديثة، حيث استطاعت النخب الإيرانية العلمية إثبات مدى الحيوية التي تتمتع بها شعوب هذه الهضبة بغض النظر عن طبيعة الحكم وموقعه ودوره، وتاريخ العلوم خير مؤشر على هذا المدعى قديماً وحديثاً.

وقد يحدث أن يحاول مَنْ في السلطة مصادرة إنجازات النخب العلمية مستفيداً من سلطته التي يمارسها في كل الاتجاهات، أما في الحالة الإيرانية، فإننا نرى مشهداً مختلفاً دخل فيه النظام ومراكز القوى والقوة التابعة له سباقاً محموماً وتنافسياً مع الشعب الذي يقع تحت سيطرته، إلى حد محاولة إلغائه أو مصادرة آخر الحلقات التي تقع خارج قدرته وحيز سلطته ونفوذه، وهي جهود تنم عن حالةٍ من انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم، وأن الأفراد أو الجماعات، وهنا تحديداً العلمية، تغرد خارج السرب، لذلك فهو يدرك أن الفعل العلمي لا يمكن أن يكون بناءً على أوامر منه واجبة الطاعة، إنما انبثاق ذاتي من الفرد والجماعة الحاضة التي تتحرك بناءً على إدراكها لدورها وموقعها في الحضارة الإنسانية. فضلا عن إدراك واضح لحجم الخلل أو الضعف الذي يعتري شرعيته الشعبية أمام المخارج التي يجترحها المجتمع للتملص من قبضته وهيمنة أجهزته ومؤسساته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لذلك، وفي الأزمات على وجه الخصوص، تحاول الأنظمة الدخول في سباق تنافسي مع الجماعة الخاضعة لسلطتها لتحقيق إنجازات علمية قد تساعدها على ترميم صورتها، ولكي تبرهن للمعترضين والمعارضين أن مصادرتها للسلطة وهيمنتها على المقاليد لا تشكل عائقاً أمام قدرتها على تحقيق الإنجازات العلمية التي تخدم شعوبها والبلاد في الأزمات والكوارث والجوائح التي تواجهها، وأن قدرتها على الإبداع تتخطى الجانب العسكري، بل تتخطاها إلى جميع المجالات العلمية والفنية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية.

وحديثاً، لعل المعركة القاسية التي خاضتها وتخوضها هذه القوى مع حكومة الرئيس حسن روحاني على المستوى الاقتصادي والقيادة السياسية للبلاد داخلياً ودولياً، تشكل مؤشراً واضحاً ونموذجاً للطموحات التي تسعى وراء السلطة، من دون أن ننسى حجم المسؤولية التي تقع على روحاني وفريقه في الإدارة الاقتصادية وتراجعها. إنما ما تهدف له السلطة هو إثبات أنها الأعرف والأقدر على إدارة البلاد من غيرها، وأن ما تحققه من إنجازات هي التي تسمح لإيران بتسجيل اسمها على لائحة الدول المتقدمة علمياً وعسكرياً وسياسياً.

لقد كان لافتاً الاستعراض الذي قام به قائد قوات حرس الثورة الجنرال حسين سلامي، خلال تقديمه للاختراع الخارق لكل المقاييس القادر على اكتشاف "فيروس كورونا" من خلال جهاز للاستشعار الثنائي الأقطاب عن مسافة مئة متر خلال خمس ثوانٍ. الأمر الذي كشف عن القابلية غير العادية للمسؤولين الإيرانيين بالانخداع بما قدمه لهم من يدَّعي العلم والقدرة، وأن هذا الانخداع لا يقتصر فقط على عطش المسؤولين لتقديم المراكز التي يقودونها على أنها قادرة على تحقيق المعجزات في الأوقات الحرجة، بل أيضاً محاولة هذه المراكز بسط نفوذها وسيطرتها ومصادرتها لقطاعات من المفترض أن تكون مستقلة، وأن تتمتع بهامش من الاستقلالية والحرية اللازمة للإبداع والتقدم.

وفي هذا الإطار، لا بد من التوقف عند ما قاله الفيزيائي الإيراني المعروف رضا منصوري، الذي سبق أن شغل منصب المساعد العلمي لوزير العلوم "التعليم العالي"، من أن الوسط العلمي يمارس "التُقية" في التعامل مع السلطة، وأن السكوت عن هذا الاستعراض الذي قام به سلامي يطرح الكثير من الأسئلة حول مصير البحث والتحقيق العلمي في المجتمع الإيراني، وبالتالي يزيد من القلق على مستقبل البلاد، خصوصاً أن هذا الوسط غير قادر على الاعتراض أو مخالفة المسرحيات التي يقوم بها البعض، مضيفاً أن "ليس فقط الوسط العلمي يمارس التُقية والوقوع في فخ مدعي العلم، بل إن الوسط الديني (رجال الدين) أيضاً يمارس هذه التُقية عندما صمت عن الخدعة التي وقع فيها أحد رجال الدين (إبراهيم رئيسي) عندما تحوَّل إلى ضحيةٍ للدجال "تتلو" (مطرب ومغنٍ) ولم يعترض عليه أي أحد من الوسط الذي ينتمي إليه".

وقد وصلت حالة التردي إلى مستوى دفع منصوري إلى مناشدة الوسط العلمي الوقوف في وجه هذه الخرفات التي تسهم في إضعاف البنية العلمية للبلد، داعياً الإيرانيين لعدم الخوف، "فإيران تشهد تحولات عميقة وبنيوية، ولا حاجة للتُقية، لنضحك، ليضحك الجميع، ليضحك علينا العالم، والذي لم يفهم ولم يدرك هذا الضحك هو ذاك المدعي".

ويبدو أن الوسط العلمي الإيراني والأجنبي وكل العالم اعتاد على هذه المبالغات التي يطلقها بعض المسؤولين الإيرانيين بين الحين والآخر، وليس أولها ولا آخرها ما قاله أحد قادة حرس الثورة حول أسباب الجفاف الذي مرت به بلاده الصيف الماضي عندما اتهم إسرائيل بسرقة الغيم من إيران!

ولعل الأخطر ما جرى خلال تصاعد أزمة الملف النووي بين إيران والدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة، وفي ظل الشروط القاسية التي كانت تواجهها طهران من هذه الدول المطالبة بتعطيل وتفكيك المنشآت النووية، خصوصاً منشآت أجهزة الطرد المركزي والتي كانت مترافقة مع تلويحات جادة بإمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري، وقف الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد في أحد الأيام وخلال جولة له على بعض المناطق الشعبية في العاصمة طهران، على منبر أحد المساجد وأمام جموع المصلين ليعلن بكل ثقة أن "فتاة إيرانية لا تبلغ السادسة عشرة من العمر استطاعت أن تجري تجربة ناجحة على الانشطار النووي في الطابق السفلي لمنزل أهلها".

من الطبيعي أن كلام أحمدي نجاد لم يستوقف أي من المسؤولين الغربيين، وتحديداً دول النادي النووي بكل تنويعاته الحربية والسلمية، وحتى تلك التي تجري أبحاثاً علمية محدودة وهي كثيرة، بل اعتبرته كلاماً مهملاً يشف عن شعبوية مغرقة في الفشل لاستغفال مخطابيها، وأن الرئيس الإيراني يعاني من أزمة العجز عن فهم آليات التجارب النووية ومدى أهمية الوصول إلى مرحلة الانشطار الذي يشكِّل لب أي برنامج حربي أو عسكري، فضلاً عن أزمة داخلية يعاني منها هذا الرئيس مع النظام والجهات التي تسيطر على هذا البرنامج والتي استبعدته من مسارات المفاوضات وما يجري فيها خوفاً من أن يوظفها في معاركه الجانبية ويتسبب بأضرار هي في غنى عنها، وذلك بناء على تجربة مُرة ساهم في صناعتها هذا الرئيس عندما أحبط الجهود التي كان يبذلها أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي وكبير المفاوضين حينذاك علي لاريجاني، مع ممثل السياسيات الخارجية للاتحاد الأوروبي الأسبق خافيير سولانا، الذي فضَّل إنهاء مفاوضاته مع لاريجاني بعد نقل تصريحات لأحمدي نجاد أدلى بها من طهران حول المراحل المتطورة التي وصل إليها البرنامج النووي لبلاده.

وفي الداخل الإيراني، تحول كلام نجاد إلى محطة للتندر بين جميع شرائح المجتمع، وبات كل فرد يمتلك في منزله طابقاً أرضياً ( basement- قبواً) يعيش حالة من الانتظار والترقب خوفاً من أن يتعرض لجولة من التفتيش التي يقوم بها مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتأكد من أنه لا يملك في هذا المكان أجهزة تستخدم في تطوير البرنامج النووي وتجارب الانشطار الذري.

للإنصاف، ما من شك أن الوسط العلمي الإيراني، كغيره في دول العالم، دخل في حالة بحث جدي من أجل المساهمة في الجهود التي تبذل عالمياً للتوصل إلى علاج لمواجهة جائحة كورونا أو فيروس "كوفيد-19"، وهي جهود تصب في إطار الدور الإنساني للعلوم، وكم هو حري بالمسؤولين الإيرانيين أن لا يسعوا وراء مصادرة هذا الوسط باللجوء إلى تبني استعراضات لا علاقة لها بالعلم والمعرفة، بل تضع الجهود العلمية الحقيقية موضع تساؤل وتشكيك.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل