Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما ألهمت العزلة الرسام الإسباني غويا أعماله السوداوية

أوهام ومخاوف ذاتية اجتاحت خياله وفنه

لوحة من المرحلة السوداوية للرسام الإسباني غويا (موقع غويا)

قد لا تكون أجواء العزلة التي يعيشها العالم اليوم غريبة على الفنان، فالممارسة الفنية قد تتطلب قدراً من العزلة على كل حال، وهو ما يمكن أن نلمحه في أعمال العديد من الفنانين على نحو غير مباشر، حتى في هذه الأعمال المُزدحمة بالعناصر والأشخاص. يمكنك أن تبحث عن هذا المعنى في جميع الأعمال التي تطالعها، بداية من الأعمال الكلاسيكية إلى الأعمال المعاصرة، مروراً بأعمال الفنانين الحداثيين. قد تراها في عيون الموناليزا مثلاً، وفي نظرة فان غوخ المضطربة أو في حجرته الفارغة، ربما تلمحها في صرخة إدوارد مونخ، وفي شخصيات بيكاسو التي تلفها الوحدة، أو في شرود فتاة النافذة لسلفادور دالي، وفي العديد من أعمال الفنانين حول العالم. ولكن، ماذا لو كانت العزلة أمراً مفروضاً على الفنان، لا يستطيع الخلاص منه؟ ماذا لو كانت واقعاً معاشاً وثقيلاً حد الجنون؟  في تاريخ الفن الغربي هناك تجارب مثلت العزلة في أعمالها على نحو مباشر، غير أن أبلغ تمثيل وانعكاس للعزلة وقسوتها يبدو متجسداً في أعمال فرانسيسكو دي غويا، بخاصة في مراحله الأخيرة التي انسحب خلالها للعيش في إحدى القرى النائية ليعيش وحيداً منبوذاً، وفي شبه قطيعة مع العالم حتى وفاته. هي تجربة مؤلمة انعكست على أعماله التي أنجزها في تلك الفترة، والتي خيمت عليها السوداوية والكآبة، لكنها أيضاً كانت أحد أكثر مراحله نضجاً وإلهاماً.

ولد فرانسيسكو دي غويا في عام 1746 وبلغ في شبابه ذروة الشهرة، كما عاش حياة الرغد والرفاهية بين قصور النبلاء والطبقة الأرستقراطية الإسبانية، وظل هكذا، حتى كان ذلك التحول الكبير الذى طرأ عليه وحوّل حياته إلى جحيم. ففى عام 1793 داهمه المرض فجأة. سقط غويا ذات يوم مغشياً عليه بين أصدقائه، وانتابته لأيام متواصلة نوبات من الحُمّى. وظل حبيس بيته طوال شهرين كاملين يعاني فيهما من الألم والهذيان. وحين تعافى أخيراً من تلك المحنة كان قد فقد السمع تماماً. تحول غويا وهو على مشارف الخمسين من عمره من رجل اجتماعي دائم الحضور والمشاركة في المناسبات الرسمية إلى شخص إنطوائي متلعثم اللسان ومشتت الفكر. حار الجميع في مرضه وأعراضه، وإلى اليوم يتحدث مؤرخون وأطباء وعلماء نفس محاولين وضع تشخيص مناسب لهذا المرض المفاجئ الذي ألم بواحد من أهم أعمدة الفن العالمي. أكثر الآراء قبولاً لدى الكثيرين هي التي عزت تلك الأعراض إلى تأثير مادة الرصاص, والتي كان يستخدمها جويا بكثافة في تكوين اللون الأبيض؛ وقد عُرف عنه عدم الاكتراث في تعامله مع تلك المادة السامة.

أثر المرض

كان على المرض أن يؤثر بشدة على شخصية غويا، فانسحب من الحياة العامة، وقضى أغلب أوقاته وحيداً. ولنا أن نتصور كيف كان يفكر رجل مثله بعد أن فقد التواصل مع العالم من حوله. لقد جعله الصمم يقترب أكثر من أفكاره الداخلية، وشحذ تصوراته البصرية، وبدا أكثر ميلاً إلى الجوانب المظلمة من الحياة. كان غويا من قبل مهتماً بجمع المال، ولم يكن يرسم إلا بناءً على تلك التكليفات التي يتلقاها عادة من الملك أو حاشيته، لكنه بعد هذه المحنة بدأ في الاعتماد أكثر على خياله وأوهامه. بدأ جويا في تناول الكثير من الموضوعات التي لم يكن يتناولها هو أو معاصروه من قبل، مثل الكوارث والفواجع، وقُطاع الطرق الذين مثّلوا ظاهرة أرقت المجتمع الإسباني آنذاك، كما رسم العديد من اللوحات من وحي زياراته لمصحة الأمراض العقلية.

في هذه الأثناء اندلعت الثورة الفرنسية، وكان غويا معروفاً بحماسته للأفكار التقدمية التي أدت إليها. ثم غزت الجيوش الفرنسية أراضي إسبانيا، وظلت هناك حوالى خمس سنوات وسط مقاومة شرسة. وبعد اندحار الغزاة سرت موجة من العداء لكل أصحاب الأفكار التقدمية وسط تنامي الرجعية، وتغول من قبل محاكم التفتيش التي بسطت سطوتها على كل أرجاء إسبانيا. وبدأ الملك الجديد ينظر بعين الريبة إلى غويا، الذي حاول أن يستعيد مكانته تلك ولكن بلا جدوى. رسم غويا العديد من اللوحات التي تصور فظائع الحرب، وتُسجل بسالة المقاومة الأسبانية، في سلوك تم تفسيره على أنه محاولة لنفي التهمة التي شاعت عنه بالتعامل مع قوات الاحتلال الفرنسي. زاد ذلك الأمر من إحباطات جويا وانعزاله، واستمر في الاستسلام إلى خيالاته حتى اقترب من الجنون. صار جويا أكثر انطواء على نفسه بعد أن تقدم به السن وحاصرته الإحباطات من كل جانب، فاختار الابتعاد عن الناس، وانتقل للإقامة في بيت اشتراه خارج مدينة مدريد بالقرب من أحدى القرى الريفية، وعُرف بيته في تلك الأنحاء بمنزل الرجل الأصم، أو بيت الأشباح. عاش غويا سنواته الأخيرة حبيس ذلك البيت، وقضى وقته في طلاء جدرانه بالرسوم واللوحات الجدارية.  كان يعيش على الخط الفاصل بين الحياة والموت، أو بين التعقل والجنون.

اللوحات السوداء

في اثنين من أكبر غرف هذا المنزل رسم غويا أربعة عشر لوحة جدارية عُرفت في ما بعد باللوحات السوداء، بسبب ألوانها القاتمة، والسوداوية التى خيمت على أجوائها ومواضيعها الحزينة الفاجعة في أغلب الأحيان. رُسمت هذه اللوحات الجدارية بالألوان الزيتية مباشرة على الجدران، وهي تعد أكثر أعمال جويا غموضاً ووحشية وتأثيراً. فقد أطلق فيها لخياله العنان، وكان أكثر ميلاً إلى تسجيل أوهامه وآلامه ومخاوفه الذاتية، وهو ما مثّل تطوراً هاماً في تاريخ الفن. فقد سبق بأعماله تلك خيالات السورياليين بعدة عقود، وكان ملهماً لفنانين كُثُر جاؤوا بعده، فعدّه البعض أباً للحداثة في الفن الغربي. في هذه المرحلة رسم غويا لوحته الشهيرة "ساترن يأكل أبناءه" والمستلهمة من الأساطير الإغريقية. الأسطورة نفسها استلهمها قبله فنانون آخرون، لعل أبرزهم الفنان الفلامنكي الشهير "بول روبنز"، إلا أن لوحة غويا كانت الأكثر تأثيراً وقدرة في التعبير عن هذه الأسطورة، إذ كانت معالجته لها أكثر رعباً وسوداوية، حتى أن البعض اعتبرها اللوحة الأكثر ترويعاً في تاريخ الفن.

المزيد من ثقافة