في مفاجأة مدوية، حقق الائتلاف الحزبي الحاكم الكوري الجنوبي بزعامة الرئيس "مون جاي إن" الخميس الماضي، أكبر انتصار في تاريخ الانتخابات البرلمانية منذ نهاية حقبة الحكم العسكري قبل زهاء ثلاثة عقود. واعتبر المراقبون "الزلزال الانتخابي الكوري" منعطفاً سياسياً ينبغي الالتفات إليه في زمن "كورونا"، إذ إنه يثبت لقادة العالم بما لا يدع مجالاً للشك، أن الاستجابة السياسية القوية لتحدي الفيروس يمكن أن تُترجم إلى أصوات في صناديق الاقتراع.
وحصد "الحزب الديمقراطي" الحاكم ومجموعة الأحزاب الدائرة في فلكه، حسب بيانات لجنة الانتخابات الكورية الجنوبية، 180 مقعداً في "الجمعية الوطنية" من إجمالي 300 مقعد. وأدلى أكثر من 29 مليون شخص؛ أي ما يعادل 66 في المئة من إجمالي الناخبين بأصواتهم، وهي نسبة تعد الأعلى في تاريخ الانتخابات البرلمانية هناك. وثمة إجماع بين المحللين السياسيين على اعتبار هذه النتائج بمثابة رسالة دعم وتأييد للإجراءات التي اتخذها مون لوقف تفشي الجائحة الفيروسية.
يقول مينتارو أوبا، دبلوماسي أميركي سابق متخصص في شؤون شبه الجزيرة الكورية، في تعليق أدلى به إلى "بلومبيرغ"، "هذه النتيجة جاءت للتأكيد على أن الناس تستجيب لقيادتها المتزنة الجديرة بالثقة وقت الأزمات. لقد أظهر مون أنه يمكن للمرء الفوز في الانتخابات على أساس الكفاءة لا على أساس عبادة الفرد".
الأهم أنها حدثت
ويقول الأكاديمي جون ديلوري، المتخصص في تاريخ الصين وشؤون شبه الجزيرة الكورية بجامعة يونسي بـ"سيول"، إن أهم شيء حدث على الإطلاق في الانتخابات التشريعية التي جرت هذا الأسبوع في كوريا الجنوبية هو أنها حدثت، ذلك أنها أول تصويت ديمقراطي على مستوى العالم لحقبة "كورونا". يضيف، "لقد أصبحت كوريا الجنوبية مرة أخرى منارة في الأوقات المظلمة، ونموذجاً لكيفية تمكن مجتمع منفتح من تجاوز عاصفة الوباء". وتساءل ديلوري، في مقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، من كان يتوقع حدوث هذا الأمر قبل ستة أسابيع؟ ففي نهاية فبراير (شباط) الماضي، احتلت كوريا الجنوبية المرتبة الأولى بوصفها صاحبة أكبر عدد من حالات "كورونا" خارج الصين. لقد كانت واحدة من أولى النقاط الساخنة الجديدة، ونذير شؤم بأن الوباء الذي انطلق من ووهان في طريقه إلى أن يصبح جائحة عالمية.
وستمنح هذه النتيجة معسكر مون أغلبية ثلاثة أخماس المقاعد البرلمانية، ما يسمح له بدفع التشريعات المتعلقة ببرنامجه السياسي من دون التأثر بأصوات المعارضة، بما في ذلك ميزانية التحفيز الاقتصادي الطارئة التي أعلن عنها الأسبوع الماضي. وسيضيف الانتصار أيضاً زخماً إلى الأهداف الرئيسة للائتلاف الحاكم ومنها، الحد من عدم مساواة الدخل، وإصلاح التكتلات الصناعية العائلية الضخمة المعروفة باسم "تشيبول"، وتعديل قوانين التطوير العقاري. وقال مون، في بيان عقب إعلان النتائج، "إن ما أظهره الناس خلال الانتخابات هو رغبتهم الجادة في دعم جهود الحكومة للتغلب على الأزمة. إن الحكومة تعتبر هذه النتيجة مسؤولية ثقيلة، ولن تقصي أحداً، وستستمع إلى أصوات الناس بكل تواضع".
ويقول نام تشانج ووه، المتخصص الاقتصادي في معهد التنمية الكوري، إن "الإصلاحات التي لاقت معارضة في السابق ستمر بسهولة أكبر، وستزول بذلك ضبابية عدم اليقين السياسي. وبالنظر إلى أن الاقتصاد ينزلق نحو الركود، فلن يكون سهلاً إصلاح التكتلات الصناعية العائلية على الفور، لكن يمكن أن يحصل ذلك بمجرد أن يبدأ الاقتصاد في التعافي". ورغم فوزه الكبير، فإن ائتلاف الرئيس مون لم يحقق أغلبية الثلثين اللازمة لإقرار تغييرات كبيرة تتطلب تعديلات دستورية، مثل السماح للرؤساء القادمين بالاستمرار في الحكم لأكثر من فترة واحدة. ومن شأن بقاء هذا القيد الدستوري تحويل الأنظار إلى خلفاء مون المحتملين، وعلى رأسهم لي نك يون، رئيس الوزراء السابق، الذي هزم زعيم المعارضة هوانغ كيو-آهن في واحدة من أشرس منافسات هذه الانتخابات. وأعلن كيو-آهن أنه سيتنحى عن منصبه في "حزب المستقبل المتحد"، رغم أن حزبه المحافظ حاز 103 مقاعد في البرلمان، أغلبها كان على حساب الأحزاب الأخرى الأصغر وليس الحزب الحاكم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وضع سيئ قبل الكارثة
قبل ظهور الجائحة، كان الرئيس مون وتحالفه الليبرالي، الحزب الديمقراطي، في حالة جمود سياسي. فقد توجب على مون التخلي عن وزير العدل الجديد المثير للجدل، والتراجع عن الإصلاحات الهيكلية التي لا تحظى بشعبية مثل التعهد بزيادة الحد الأدنى للأجور بشكل كبير، وكان النمو الاقتصادي بطيئاً. أما السياسة الخارجية المميزة للرئيس مون بشأن دبلوماسية "السلام ونزع السلاح النووي" مع كوريا الشمالية فكانت مشلولة جراء عدم إحراز تقدم في المفاوضات، بين كيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية، والرئيس الأميركي دونالد ترمب. وتزامنت هذه العثرات في أواخر فبراير، مع ارتفاع حالات الإصابة بفيروس "كورونا" ما أدى إلى تصاعد أصوات المحافظين الذين انتقدوا عدم حظر الحكومة دخول المواطنين الصينيين. كما تصاعد تذمر الناس بسبب صعوبة شراء كمامات الوجه، وتراجعت معدلات الرضا عن أداء مون في الوقت الذي كانت فيه كوريا الجنوبية تستعد للأسوأ. ومثل زعماء العالم الآخرين وقتذاك، تعثر مون في استجابته المبكرة للوباء، بعد أن توقع انتهاء الفيروس "خلال وقت قصير"، ليرتفع عدد حالات الإصابة بعدها في غضون أيام.
لكن كيف تغيرت الأمور منذ ذلك الحين، من حيث الصحة والأداء السياسي العام؟ تصنيف كوريا الجنوبية سرعان ما تغير، ضمن الدول الأكثر تضرراً من "كورونا"، لينخفض بثبات. فبعدما احتلت المرتبة الثانية بعد الصين (عدد سكانها 1.4 مليار)، سجلت كوريا الجنوبية (51.6 مليون) اليوم إجمالي حالات أقل من أيرلندا (4.9 مليون) وعدد وفيات أقل من ولاية كولورادو (5.7 مليون).
وتمثلت استراتيجية الحكومة، في سعيها نحو تسطيح منحنى الفيروس، في الانفتاح والاستجابة للجمهور. بعبارة أخرى، استفادت كوريا الجنوبية من نقاط قوتها كمجتمع ليبرالي لمعالجة أزمة الصحة العامة. ففي وقت مبكر من أواخر شهر يناير (كانون الثاني)، شجع مسؤولو الصحة العامة، القطاع الخاص على تصنيع أجهزة الاختبار الخاصة باكتشاف المصابين بفيروس كورونا للحد من حالات التفشي.
وأتاحت "المراكز الكورية لمكافحة الأمراض والوقاية منها" و"وزارة الصحة العامة والرعاية الاجتماعية"، نتائج تلك الاختبارات والمعلومات المتعلقة بها بسرعة ومنهجية لمن يحتاجونها من عامة الناس. فعلى مدى أسابيع، ظلت هواتف الكوريين المحمولة تنبههم، على مدار الساعة، بشأن الإصابات المؤكدة بالفيروس في المناطق التي سبق أن ارتادوها، مع تقديم تفاصيل مفيدة مثل الوقت الذي ذهب فيه الشخص المصاب إلى متجر البقالة المجاور. وأصبح تتبع نقاط تماس المصابين، ومشاركة البيانات العامة المتعلقة بهم هاجساً يومياً للكوريين. سمحت هذه الشفافية للحكومة بالاعتماد إلى حد كبير على تدابير الاحتواء الطوعية، فبات التباعد الاجتماعي ضرورة لصحة الأفراد، لا أمرا من الحكومة. كما لم يحدث أي إغلاق على المستوى الوطني (حتى في بؤرة التفشي مدينة دايجو الجنوبية الغربية) حتى في أحلك الظروف وأشدها سوداوية.
سلامة العملية الانتخابية
لكن كيف أقنعت كوريا مواطنيها بالذهاب إلى صندوقة الاقتراع؟ اتخذت حكومة سيول الاحتياطات اللازمة للحفاظ على سلامة الناخبين. فقد ألزمتهم احترام مسافة المتر الواحد على الأقل في ما بينهم، وأن يضعوا الكمامات، وأن يرتدون قفازات تُستخدم لمرة واحدة، وأن يخضعوا لاختبار درجة الحرارة. في حين تولت فرق متخصصة تعقيم أكشاك التصويت عدة مرات على مدار الساعة.
لقد أتاح التعامل الناجح مع الفيروس، الفرصة للرئيس مون لإعادة ترتيب ملفاته العالقة؛ ترميم نظام الدعم الاقتصادي الذي تضرر جراء التباطؤ، وفضائح الفساد التي تورط فيها مساعدون رئاسيون، والتوترات الأمنية المتصاعدة مع كوريا الشمالية التي أطلقت رشقات من صواريخها عشية الانتخابات في استعراض للقوة. جاء التصويت ليعطي دفعاً قوياً في منتصف المدة الرئاسية اليتيمة لمون المحددة بخمس سنوات، وهي الفترة نفسها التي تلقت خلالها الرئيسة السابقة، بارك غيون هاي، خسارة انتخابية جعلتها ضعيفة مهدت الطريق لعزلها من منصبها.
وقبيل الإعلان عن نتائج الانتخابات، أعلنت الحكومة ميزانية إضافية ثانية بنحو 7.6 تريليون وان (6.2 مليار دولار) بوصفها دعماً نقدياً طارئاً للمواطنين، بعد أن هدد الفيروس وظائفهم ورواتبهم. ويقول الأكاديمي لي جاي-موك، المتخصص في العلوم السياسية بجامعة هانكوك للدراسات الأجنبية، "ثمة ثابت تاريخي لدينا في كوريا مُلخصه هزيمة أي حزب حاكم في الانتخابات الانتقالية. لذا فإن فوز الرئيس مون في الانتخابات اليوم يحطم المألوف ويُعد بحق حالة نادرة".
يمتلك مون الآن ما لم يمتلكه رئيس قبله في منصبه، فقد منحه الناخبون الكوريون الجنوبيون نصراً ساحقاً. وفي المستقبل المنظور، سيكون تركيزه منصباً مثل كل رؤساء العالم على إدارة أزمة كورونا. ومع تراجع الأزمة وضغوطها، يمكن للرئيس مون إحياء أحلامه في صنع سلام مع كوريا الشمالية، وهو طموح سياسي كبير، سيحكم التاريخ من خلاله على إرث رئيس كوريا الجنوبية. ولكن بالنسبة لبقية العالم، فإن أهمية هذه الانتخابات لا تتعلق بنتائجها، بل في أن عشرات ملايين الناس كانوا قادرين على ممارسة حقهم الديمقراطي رغم الجائحة المميتة.