Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرة جديدة للورانس العرب تلقي ضوءاً على شغفه بالجزيرة

كتاب البريطاني انطوني ساتين في ترجمة فرنسية

 

يقال إن عدد الكتب السِيرية التي تناولت حياة توماس إدوارد لورانس (1888-1935) المعروف بلورنس العرب، تتجاوز المائة. لكنها لم تكن وحدها ما صنعت هالته الأسطورية المشعة، وجذبت إلى دائرة سحره أدباء وسياسيين، صحافيين وسينمائيين، وجدوا أمامهم خامة شديدة الإلهام حدّ أنها لا تحتاج صنعة. فحياته المليئة بالأحداث الكبرى، ودوره الأساس في رسمها، خاصة في الثورة العربية الكبرى (1916) كانت الأصل في ذلك. وعليه ما الذي يمكن لكتاب سِيري إضافي أن يزيد في توهج الأسطورة؟

بيد أن كتاب الإنكليزي أنطوني ساتين "لورانس شابًا" الذي نقلته حديثا إلى الفرنسية فيرجيني بول بعنوان "لورانس العرب، شباب اسطورة" (منشورات نوار سور بلان،2019)، يستحق مكانته كسيرة مختلفة للورانس تحمل الرقم 109، نظرًا إلى تميزه بالتركيز على السنوات الخمس التي سبقت التحاقه بالجيش البريطاني كـ "جاسوس" ذي رخصة. أي بالاهتمام بما كان عليه الشاب "نيد" – كما كان يطلق عليه- قبل أن يصير لورانس العرب.

عشرينيات المرء هي سنوات تكوينه ليصير رجلًا، وقد كان ممكنًا للورانس أن يبقى الشاب الذكي المجتهد، والمشاء الصبور، المرتحل على قدميه أو دراجته، وراء شغفه بفرسان العصور الوسطى، والقلاع الصليبية (وكرّس لها كتابًا مهمًا مزدانًا بالصور والرسوم). ويبدو أن تلك الأوقات التي أمضاها في الطبع بالنحاس ونباهته في علم الآثار، أقنعت والديه بتركه على سجيته، فافردا له في حديقة المنزل غرفة خاصة للعمل والحلم. لكنّ "نيد" الرومانطيقي الحالم، الناظر بإعجاب شديد الى فرسان القرون الوسطى، لن يلبث أن يصادف وهو ما دون العشرين (17 عامًا) ديفيد هوغارث (1862-1927) مدير متحف أوشموليان التابع لجامعة أوكسفورد العريقة، ولن يلبث هذا الأخير أن ينتبه لمواهب المراهق، فيشجعه على الالتحاق بالجامعة، وبعد سنوات قليلة يوفده إلى موقع كركميش (جرابلس حاليًا) عند حدود تركيا وسورية اليوم للتنقيب الآثاري.

كركميش القديمة ليست إلا عاصمة الحثيين الشهيرة ومنبع نهر الفرات العظيم، ونقطة العبور الرئيسة من الأناضول إلى بلاد الشام. ولاحقًا يدوّن لورانس عنها: "فيها وجدت نفسي فجأة".

في كركميش تغيّرت حياة لورانس، إذ أتقن العربية التي كان يعرفها، ولبس للمرة الأولى الثياب العربية، وعقد علاقات قوية مع العمال الفلاحين الذين كانوا يقومون بالحفر، والتقى بـ "زميلته في الآثار والجاسوسية" غرترود بيل (1868-1926). والأهم أنه وقع فعلًا في حب العرب وشابت نظرته إليهم على الدوام مسحة رومانطيقية مثالية. حب رأى أكثر من باحث فيه لمحة استشراقية واضحة، إن كان في نظرة لورانس لأهل المكان كما وردت في أشهر كتبه "أعمدة الحكمة السبعة" - رغم أنه أهداه الى عربي – ، أو في تلك السهولة بإعطاء نفسه وفريقه البريطاني الحق في الاستحواذ على تراث الآخرين ونقله إلى متاحف الإمبراطورية، أو في اعتقاده الخاص في أن يحلم أنه "محرر" العرب، خاصة وأن حلمه الشبابي ذاك انقلب واقعًا ملموسًا في دوره الحاسم في الثورة العربية الكبرى وصداقته الوطيدة مع الملك فيصل (1885-1933)، ملك سوريا (1918-1920) ثم العراق (1921-1933)، قبل أن ينقلب الواقع ثانية إلى خيبة كبرى مع اتفاق سايكس بيكو. خيبة أمل لم يعتد بها منتقدو لورانس "المستشرق"، مستندين إلى كلامه الى أحد كتّاب سيرته (باسيل ليدل هارت) إذ قال "إن الوحدة العربية فكرة مجنونة".

من كركميش كانت الرسائل تبعث إلى الإمبراطورية، وتخبّر عن عشق لورنس للمكان، فقد كتب في رسالة لأخيه عام 1913: "أحب هذا المكان كثيرًا: والناس هنا أيضًا – خمسة أو ستة منهم- طريقة العيش

كلّها تسرني"، وظهر حبه للمكان من خلال أسلوبه في الوصف : "من الممتع جدًا في ضوء القمر، النظر إلى الأسفل، فمن جهة ترى الفرات المتعجّل، ومن الجهة الأخرى تطل على سهل كركميش العظيم". وربما لو لم تصطده الاستخبارات البريطانية ليعمل معها، لنفذ رغبته في الترحال في الجزيرة برفقة القبائل العربية، من أجل التنقيب الآثاري.

استند المؤلف إلى شهادات وفيرة، والأهم إلى الرسائل الكثيرة التي كان لورنس يرسلها لذويه، وعبرها رسم شخصية لورانس شابًا، وكشف بعضًا من خصاله مثل تهوره، إذ أضرم النار في بقعة نباتات كثيفة كانت تحول بينه وبين الدخول إلى إحدى القلاع (على الأغلب هي قلعة النمرود أو الصُبَيْبَة) في شمال مرتفعات الجولان. أو تعاليه على نصائح الخبراء، كأن لا يكفّ عن وضع كلمات عربية في رسائله لذويه، مثلما نصحه شارل دواتي الخبير بـ "العالم العربي" وقتها. ووفقًا لساتين، فإن الجاسوسية لم تكن فقط قدرًا للورانس العرب، بل هي لبّت نزعته في الميل إلى السرية والكتمان، مستدلًا على ذلك من معرفة لورانس بأنه طفل غير شرعي قبل سنوات من إخبار أهله له بذلك، وصمته عن ذلك. والأهم من ذلك تصميم لورنس المدهش، الظاهر خصوصًا في مشيه لمسافات طويلة، وشغفه بالآثار.

لكن العام الحاسم كان عام 1914، حين "اصطادته" الإستخبارات البريطانية ودعته للعمل في جيش الإمبراطورية نظرًا إلى معرفته الوافية بالعرب التي اكتسبها في سنوات التنقيب السورية، وخبرته في تضاريس المكان، وهو المشّاء الدؤوب، ما أهله للمساعدة أيضًا في تحضير الخرائط العسكرية. لاحقًا يكتب لورانس في إحدى رسائله عام 1919 تبريره الخاص لدوره في الثورة العربية الكبرى ودفاعه عن استقلال سوريا.

من صميم نهاية الثورة العربية ولد اتفاق سايكس بيكو الشهير، ووجد الملك فيصل نفسه ملكًا من دون مملكة، أما لورنس العرب، فالتصقت صفة الجاسوس البريطاني باسمه، صفة بدّدتها كتابات كثيرة، وخففت من شناعتها صور لورانس الوفيرة باللباس العربي، الأبيض خاصة ذي العقال والزركشات المذهبة. ومن الجاسوسية والصور والكتابات والمؤلف الشهير "أعمدة الحكمة السبعة"، ارتفعت أسطورة لورانس، وتراكمت سيره عن مرحلة ما بعد الحرب العظمى، خلافًا لكتاب ساتين الذي ركّز على لورانس وهو يجوب العالم العربي ويعرفه قبل اتفاق سايكس بيكو، فظهر رومانطيقيًا حالمًا، لا يتردد في أن يكتب :" أتساءل لماذا الجزيرة العربية – ومن أي زاوية أتيناها- هي الأجمل من بين البلاد. وأظن أن اسمها هو الذي يحدث هذا التأثير".

المزيد من ثقافة