Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جائزة البوكر... وشهد شاهد من

قلت في نفسي: سأجرب المشاركة في لجنة التحكيم وسأكتب عن التجربة بكل صدق في نهايتها

الروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية 2020 (موقع الجائزة)

جميع لجان التحكيم في العالم العربي وشمال أفريقيا، من كرة القدم إلى ملكة الجمال مروراً بالأدب والسينما، إلا ويشكك في جديتها وصدقيتها، لأننا نربط وبشكل مباشر ما بين الأنظمة العربية المشبوهة والجوائز التي تتأسس على حواشيها أو منعزلة عنها أو على ترابها، ومن خلالها نشكك في استقلالية مواقف المثقف. تلك نتيجة تراكمات أمراض علاقة السياسة والسياسي بالثقافة والإبداع. حين اتصلت بي السيدة فلور مونتنارو، منسقة لجنة البوكر في صيف 2019، تقترح علي عضوية لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية أو ما اصطلح عليه اختصاراً البوكر العربية، في دورتها الثالثة عشرة 2020، وهي أكبر جائزة عربية للأدب الروائي، ترددت في البداية. إذ راودتني أسئلة كثيرة، وأول ما ورد في ذهني هو السؤال التالي: ما مدى الاستقلالية في قرار الاختيار؟ وقلت في نفسي: سأجرب، وسأكتب عن هذه التجربة بكل صدق في نهايتها.

وقضيت ستة أشهر في قراءة الروايات التي كانت تصلني تباعاً، وكان عددها 128 نصاً روائياً، من جميع الدول العربية وشمال أفريقيا، وأشهد أنني قرأتها جميعها، من دون استثناء، لحسن حظي فنسبة كبيرة من هذه العناوين كنت قد سبق لي أن قرأتها من قبل، روايات جاءت من كتّاب لا أعرفهم وآخرين أعرفهم، من كتاب "كبار" وآخرين مضروب عليهم إعلامياً، من كتاب معروفين بانتماءات سياسية وآخرين بانتماءات معارضة، وعاهدت نفسي أنني لن أذهب إلى الاجتماع الأول لأعضاء لجنة التحكيم إلا وأنا في تمام "الجاهزية العسكرية" للدفاع عن قناعاتي التي استخلصتها من القراءة، ومن القراءة فقط، كل ذلك بنية اختبار قرار استقلالية الاختيار ووضعه موضع التجربة والامتحان.

جئت إلى اللجنة مستعداً للدفاع عن النصوص التي أعجبتني من موقع القارئ والناقد والجامعي والروائي. بطبيعة الحال، كل قراءة تظل في نهاية الأمر فردية وذاتية ولكنها حين تستند إلى جملة من المعطيات الثقافية والأكاديمية المتفق عليها يكون الحكم قريباً من الموضوعية أو من الإقناع، قرأت الروايات بعيداً عن أسماء كتابها، لأن فلسفة الجائزة هي تكريم لنص روائي بعينه وليس لروائي باسمه وتجربته.

وكان اللقاء الأول لأعضاء لجنة التحكيم بباريس. لقد سبق لي أن كنت قد تعرفت إلى بعضهم وإن بطريقة عابرة وعن بعد، أو عن طريق لقاءات خاطفة في ملتقيات، كما هو الأمر مع الناقد العراقي محسن الموسوي الذي سبق أن التقينا في بداية التسعينيات بتونس في ملتقى حول الرواية، ومن يومها لم نلتق. وأيضاً الصديق الإعلامي والكاتب المتميز بيار أبي صعب الذي التقيت به في الجزائر مرة واحدة في ندوة نظمتها فيما أذكر دار برزخ، وكان لقاءً سريعاً. أما الإعلامية والمثقفة ريم ماجد فلم يسبق لي التعرف إليها، والأمر نفسه بالنسبة إلى المترجمة السيدة فيكتوريا زاريتوفسكايا. التقينا في بهو الفندق بباريس صباح يوم الاجتماع، حيث كانت فلور مونتنارو منسقة الجائزة حاضرة أيضاً، وتشرف بكثير من المهنية والانضباط الدقيق على السير الحسن للاجتماع وذلك بالحرص على توفير كل الظروف اللوجستية والتنظيمية لإنجاح الاجتماع.

سلّمنا على بعضنا، وبعد دردشة عن مشكلات النقل في باريس حيث توقف المواصلات العامة بسبب الإضراب الذي شنته النقابات في فرنسا في ديسمبر (كانون الأول)، التأم جمعُنا في قاعة صغيرة مجهزة بما نحتاجه في الاجتماع. رحبت بنا السيدة فلور مونتنارو، وهاتفت البروفيسور ياسر سليمان رئيس مجلس أمناء الجائزة الذي حيانا في كلمة بروتوكولية من خلال هاتف السيدة فلور.

حين قالت لنا السيدة فلور أن البروفيسور ياسر سليمان يريد أن يحيينا ويشكر أعضاء اللجنة، بدأت جملة من الأفكار تدور برأسي، قلت هذا هاتف إملاء "الحدود والممنوع والمسموح"، لكن المكالمة التي لم تستمر أكثر من دقيقة، كانت تحية صباحية وتمنيات بالنجاح لأعمالنا من دون أي تدخل أو توصية، بل أصر بكل وضوح على حرية أعضاء اللجنة في اختياراتهم.

بعد ذلك، بدأت أعمال اللجنة بكلمة لرئيسها الدكتور محسن الموسوي، ثم تم الاتفاق على طريقة ومنهجية وتقنية للعمل، والهدف من الاجتماع الأول هو الوصول إلى قائمة طويلة مكونة من 16 رواية، وكانت قائمة الروايات مسجلة من دون أسماء الروائيين. دام الاجتماع يوماً كاملاً، وكان فيه النقاش منسجماً، نقدياً، أدبياً وثقافياً، بعيداً عن القطرية والجهوية، ولم يكن للرأي السياسي لأي كاتب من المرشحين دخل في تقريبه أو إبعاده، وشعرت بالفعل أن حديثنا وقناعاتنا الثقافية والجمالية هي التي تتحكم في سير الاجتماع، ولم يبد أي عضو موقفاً من روائي لانتسابه لقضية أو جهة ما أو عدائه لها، كل النقاشات كانت منصبة على النصوص، وكان الإقناع الأدبي في الدفاع عن هذه الرواية أو تلك هو المقاربة الوحيدة التي التزم بها الجميع، والنقاش الجاد بعيداً عن الحسابات العشائرية أو الإقليمية أو الأيديولوجية هو الذي جعل بعض أعضاء اللجنة يتراجعون عن رواية ويتبنون أخرى. ووصل النقاش بنا إلى الاستشهاد ببعض الفقرات من بعض الروايات، سواء لأجل تكريمها في الدخول إلى القائمة الطويلة أو لإبعادها، وكان النقاش حراً بالمطلق من دون قيد أو شرط أو وصاية. وبعد يوم من النقاش خرجنا بالقائمة الطويلة، ووقعنا عليها قبل أن تُخبر أمانة الجائزة بأسماء الروائيين الذين دخلوا القائمة، وهو ما جعلني أشعر براحة ضمير وبحرية في إبداء الرأي والدفاع عنه، وهو أيضاً شأن أعضاء اللجنة جميعهن وجميعهم، وأخبرت الأمانة عن طريق السيدة فلور بالقائمة الطويلة، ولم يكن هناك أي تحفظ أو تعليق أو ملاحظة.

وخرجت القائمة الطويلة في اليوم التالي للإعلام، وبدأت التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي من بعض الكتاب "الكبار"/ الأقزام Les nains géants في نقد عمل اللجنة وشرعوا كالعادة في قراءة الفنجان! لا لشيء سوى لأنهم ربما لم يجدوا رواياتهم في القائمة الطويلة.

ثم بدأ ترقب القائمة القصيرة، وعاد أعضاء اللجنة إلى بلدانهم، محسن الموسوي إلى نيويورك، وفيكتوريا إلى موسكو، وريم إلى القاهرة، وبيار إلى بيروت، وفلور إلى لندن وعدت أنا إلى الجزائر. وثانية، أعدت قراءة روايات القائمة الطويلة الـ16، بكثير من التدقيق، لاختيار القائمة القصيرة، ومرة أخرى كنت متوجساً من أي "هاتف" قد يصل اللجنة في الاجتماع المقبل.

وكان الاجتماع الثاني مطلع فبراير (شباط) 2020 في مدينة مراكش المغربية. كان الجو بديعاً، وقد هيأ الصديق الكاتب والإعلامي وعضو هيئة أمانة الجائزة ياسين عدنان كل ظروف نجاح الاجتماع، وكما في باريس اجتمعنا في قاعة بالفندق الذي أقمنا فيه، وفي ظروف من الاستقلالية المطلقة تم تداول الروايات والنقاش حولها واحدة واحدة، ومرة أخرى لم يكن سوى الضمير النقدي والجمالي هو الحكم في المداولة ونتائجها، ومع أنني جئت اجتماع مراكش وربما الأعضاء الآخرون أيضاً على خلفية ما تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي في قضية التشابه أو التناص ما بين رواية هويان الحسن "ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلّا" ورواية خالد خليفة "لم يصل عليهم أحد"، ومرة أخرى لم يتدخل أي أحد من مجلس أمناء الجائزة، ولم يكن إسقاط رواية خالد خليفة من القائمة القصيرة بسبب هذه الحادثة، إنما اللجنة ناقشت الرواية كما ناقشت غيرها، ومرة أخرى كانت المداولة بكل حرية، وحاول البعض إقناع البعض الآخر باختيارات معينة، وتم الإعلان في اليوم التالي عن القائمة القصيرة في حفل إعلامي وجامعي حضرته النخبة ومجموعة من تلاميذ الثانوية، وهي سنة جميلة. وفي مراكش وبعد الانتهاء من الاجتماع تعرفت للمرة الأولى على البروفيسور ياسر سليمان، رئيس لجنة أمناء جائزة البوكر، فوجدت فيه المثقف الجامعي، بأخلاق سامية وذكاء نقدي عميق، وصاحب فكر تنويري.

وإذ تم الإعلان في حفل عن القائمة القصيرة، بدأت مرة أخرى بعض الأصوات تسخن بنديرها، عبر وسائل التواصل، متحدثة عن إقصاء بعض الأسماء وذكر اسم الروائي سليم بركات بعينه، وقد سالت دموع التماسيح عن عدم وصول روايته "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟" إلى القائمة القصيرة، ولم تكن هذه الدموع سوى دموع على الذات. وللتاريخ، وهذا رأي خاص، فهذه رواية ضعيفة، تختلف عن نصوص بركات السابقة المتميزة والقوية، رواية فيها ترهل، مليئة بالكلام الهامشي الذي لا يفيد السرد في أي شيء، وليعلم الذين تباكوا على عدم وصول هذه الرواية بأن هذه ليست المرة الأولى التي يشارك فيها سليم بركات في البوكر، فقد سبق له أن ترشح بروايات أخرى في دورات سابقة، ولم يظهر ولو مرة واحدة حتى في القائمة الطويلة!

وافترقنا في مراكش على أمل أن نلتقي في أبو ظبي في مطلع أبريل (نيسان) على هامش معرض أبو ظبي الدولي للكتاب للاجتماع الأخير واختيار الرواية المتوجة من القائمة القصيرة، والتي ضمت كلاً من "فردقان" ليوسف زيدان، "التانكي" لعالية ممدوح، "حطب سراييفو" لسعيد خطيبي، و"الحي الروسي" لخليل الرز و"الديوان الإسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي. لكن وباء كورونا غيّر كل البرامج، وكان على الجائزة أن تتأقلم مع واقع الحال، بعد أن فرض الحجر في كثير من الدول وتوقفت الرحلات ومنعت النشاطات الثقافية، كان على الجائزة أن تحافظ على موعدها ووعدها وتاريخها، بالتالي كان علينا كأعضاء لجنة التحكيم أن نعقد اجتماعنا افتراضياً من خلال تطبيق "زووم"، بالتالي المحافظة على تقليد الجائزة باحترام مواعيدها وكتابها وقرائها، وكان الاجتماع الافتراضي يوم الثلاثاء 13 أبريل؛ بالصورة والصوت: محسن الموسوي من نيويورك، فيكتوريا من موسكو، ريم من القاهرة، بيار من بيروت، فلور من لندن، وأنا (أمين الزاوي) من الجزائر. كان اللقاء كما في الجلستين السابقتين حراً، حرية مطلقة، وكما بدأنا مسيرة التحكيم في باريس ها نحن ننهي المسار على الافتراضي عبر أربع قارات، ومرة أخرى تداولنا الحديث والنقاش عن روايات القائمة القصيرة من دون ضغط أو هاتف أو توجيه أو إملاء، وقد دام النقاش من الساعة الواحدة بعد الظهر وحتى السادسة مساء، واحتدم النقاش الأدبي وبكل احترام وإنصات بين جميع أعضاء اللجنة، وفي الأخير مالت الكفة لصالح رواية "الديوان الإسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي، لتتوج الرواية بالجائزة، فهنيئاً مرة أخرى للروائي والرواية الجزائرية.

ختاماً للتاريخ:

ما خلصت إليه من خلال هذه التجربة في لجنة التحكيم لأكبر جائزة عربية للرواية في دورتها 13 لعام 2020 هو ما يلي:

1- إن اللجنة لم تتعرض ولو لمرة واحدة منذ انطلاق أعمالها لأي ضغط، ولم تسمع أي هاتف لا من مجلس أمناء الجائزة ولا من جهات أخرى، سياسية أو مؤسساتية.

2- كان لأعضاء اللجنة مطلق الحرية بحسب ذوقهم وتجربتهم وثقافتهم وضميرهم في اختيار هذه الرواية أو تلك.

3- كل التأويلات المريضة حول هذا الاختيار أو ذاك جاءت من بعض الروائيين أنفسهم الذين أخفقوا في الوصول، وهذا معروف في الساحة الثقافية والإعلامية العربية والمغاربية.

4- بمثل هذه الأخلاق التي تحمي حرية الفكر والجمال وتمنح للجنة التحكيم استقلاليتها، والتي كنت عليها شاهداً، يمكننا أن نؤسس لجائزة عربية بتقاليد عالمية، تكون شأنها شأن جائزة الغونكور الفرنسية أو جائزة السلم الألمانية أو جائزة دون كيشوت الإسبانية أو جائزة بوليتزر الأميركية، وهذا ممكن.

هنيئاً للبوكر العربية حريتها وموعد الروائيين معها في الدورة الـ 14 لعام 2021.

المزيد من آراء