Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل السعوديون بحاجة لـ"صحوة" لإنتاج ثقافة جديدة؟

شكَّل تساجل التيارات المحرك الرئيس للانتاج الثقافي المحلي وهو ما بدأ يتراجع مع توقف الصراع

انكشف الوسط الثقافي السعودي على فراغ بعد توقف صراع التيارات المحلية (اندبندنت عربية)

ظل المشهد الثقافي السعودي رهين تيارات تقود صراعاً إيديولوجياً يفرز شكلاً من أشكال الحراك، الذي بدوره قاد إلى صياغة المشهد الثقافي وفق هذا الإطار، إذ شكّل التدافع بين الصحوة والحداثة، ثم بين الصحوة والليبراليين في المشهد المحلي المحرك الرئيس لعجلة الإنتاج والطبع والنشر والخطابة والتنظير الثقافي السعودي.

إلا أنه وبذوبان الصحوة تحت عامل الوقت، وإزالة ما تبقى منها بفعل تدخل سياسي أراد لهذه الحقبة أن تنتهي، انكشف الوسط الثقافي السعودي على فراغ كبير عجز المثقف التقليدي عن ملئه، لينكشف هذا المثقف على ما يبدو أنه فشل في إنتاج أي محتوى ثقافي خارج إطار الصراع التقليدي بين القطبين الرئيسين في البلاد. ليظهر تساؤل مهم في الواجهة حول مدى إمكانية صياغة مشهد ثقافي سعودي من دون هذا التدافع، وعن نوع الثقافة التي يأمل مسيّروها في البلاد صياغتها في ظل عجز النخبة التقليدية عن تقديم إنتاج من دون استجلاب واجترار قصص الماضي وبدء حروب منتهية سلفاً.

حقبة التدافع... بوتقة أم استهلاك؟

وتظل حقبة التدافع التي بدأت منذ أواخر القرن الماضي، رغم كل الإفرازات السيئة التي ولدتها محط جدل، حول مدى صلاحية تسمية ما كان يدور فيها وما كانت تنتجه بـ"المحتوى الثقافي"، حيث أسهم الحراك الذي قادته حركة "الصحوة" في إجهاض حراك تجربة ثقافية بغض النظر عن مدى صلاحيتها، في حين سعى مناوئوها إلى إسقاطها بعد أن سنحت الفرصة للانقام، إلا أن الحقبة تظل محركاً مهماً لرغبة الإنتاج بغض النظر عن الدافع.

ويرى سعد الدريهم، وهو أحد المتعاطفين مع تجربة الصحوة، أن "المشهد الثقافي السعودي بعد زوال الصحوة غدا أحادي القطب، فالصحوة عندما كانت لها المُكْنَة وتصدرت المشهد الثقافي، كانت تعددية أكثر من منافسيها، فعلى الرغم من أنها كانت تملك مواقف من التيارات الأخرى، فإنها سمحت لتلك التيارات بممارسة ما تراه حقاً لها، عكس مناوئيها الذين أبدوا إقصائيةً بعد أن أصبحوا يقودون المشهد الثقافي ليتحول إلى أحادي القطب"، وهو ما انعكس محلياً نتيجة غياب التدافع الذي كان المحرك الرئيس للعجلة الثقافية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأمر الذي يعارضه علي الرباعي، الذي خاض تلك التجربة مع الطرفين، مع الصحوة تارة ومع مناوئيها تارةً أخرى "ليس سراً الاعتراف أن الصحوة كانت أكثر استقواءً بالسلطات المجتمعية والسلطة السياسية أيضاً نتيجة أفقية القرار السياسي حينها، والتي باركت ذلك الحضور لاعتبارات سياسية معينة، ما أعطى الواعظ مكانة وسلطة، واستمر الأمر حتى خرجت الثقافة عن مركزيتها في فترة تحوُّل منصات الإنترنت على ساحات الطرح السياسي وهي البعيدة عن سلطة التقييد السابقة"، وهو ما يدفعه لرفض فكرة الفراغ "الفرضية التي تقول بالفراغ الكبير قد تعتريها مبالغة كبيرة، فالواقع منذ عقد وأكثر أن مركزية الثقافة تفككت والنواة الأولى تشظت لملايين الجزيئات، واصطبغت المرحلة بصبغة المثقف الفرد".

إلا أنه وبالرغم من فعالية ذلك الصراع في تحفيز الإنتاج الثقافي، فإنها تظل في نظر البعض حالة استهلاك للمثقف في صراع غير قادر على تقدميه للمشهد بالسير في دائرة مفرغة وإعادة إنتاج الصراع ذاته على مر العقود، وهو النتيجة كما تبدو لأحمد قاسم الغامدي، الرئيس السابق لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة، إذ يقول "الفراغ الثقافي لا يمكن تعبئته بضجيج المشتبهات الثقافية، ولا بنزعة وطنية صاخبة، خالية من الرصيد الأدبي والفني الإبداعي، ولا التعاطي بين مكونات المجتمع الواحد بالعنف والإقصاء، فانكسار الصحوة مدخل لمشوار مهم لاستئناف العمل الثقافي الإبداعي ضمن خطة طويلة الأمد تحرص على المعرفة التراكمية، بعيدة عن الصخب والسجال الذي أنتجه النموذج الثقافي القديم"، إذ لا يصح برأيه أن يهدد أحد المكونات الاجتماعية في المشهد الثقافي الجديد الواعد بعد تجاوز مرحلة السجال والعنف والإقصاء.

تأبين المثقف التقليدي

وأثناء الحديث عن عملية الإنتاج وجب تقييم الفترة السابقة، ولو كانت فترة الاستقطاب والصراع الأيديولوجي السابق تحرك عجلة الإنتاج الثقافي، إلا أن من الضروري تقييم جودة ما كانت تقدمه تلك العجلة ومدى قدرته على استيعاب مقتضيات المرحلة والعصر الحالي، وهو ما يعلق عليه أحمد الملا، الشاعر ومدير مهرجان أفلام السعودية "في الحقيقة لم يكن هنالك بناء حقيقي للثقافة في السابق، بل كانت اجتهادات فردية وجماعات صغيرة ذاتية البذل والعطاء والمقاومة، فالقطاع الثقافي والفني هو الوحيد الذي أهمل ولم تنظمه مؤسسة راعية واضحة، حتى تشكيل وزارة الثقافة الحالية".

ويشدد الملا على ضرورة خروج المثقف من تلك العباءة ليكون قادراً على لعب دوره في صناعة الثقافة "فهم المشهد من خلال التركيبة التقابلية بين نوعين متضادين هو خطأ كبير في طريقة التفكير لدى كليهما، فالجرأة على التصنيف وإطلاق الأحكام بمقتضى الانتشار الأفقي من طرف، مقابل طرف آخر يحمل إرثاً من اضطهاد المرحلة السابقة ويفكر من موقع المظلومية"، مضيفاً "يجب النظر للمشهد الثقافي من خلال أدواته العصرية عبر الفنون البصرية والتي تعد أكثر تأثيراً واستهلاكاً".

عصر الثقافة السائلة

في عصر الاستهلاك يروج المنتج لنفسه، والثقافة مثل كل شيء في العالم الذي يحكمه المستهلكون باعتبارهم الدفاع الأول لعجلة الإنتاج، يتنافس المنتجون لجذب انتباه الزبائن المحتملين مع تقبل جميع الأذواق بحيادية، إذ بات المستهلك هو من يضع معايير الجودة لـ"المثقف" الذي ينتج بحسب الطلب، لا وفق أهواء نخبة المثقفين.

ويفسر الرباعي المشهد بأن الحاجة لفنان واحد اليوم أكثر حاجة من مئة مثقف مزاجي، والسبب في ذلك يعود إلى أن "الروح الفنية عادة تكون معطاءة وعملية أكثر من المثقف التقليدي الذي لا تتجاوز عطاءاته الجهود التنظيرية".

وتلعب القيم الرأسمالية التي تحكم نمط الحياة اليوم دوراً في تحديد شكل الثقافة القابلة للاستهلاك، إذ يشدِّد الرباعي على أهمية عدم تجاهل الحقبة التي ولد فيها النموذج القديم "الطفرة الاقتصادية في القرن الماضي جعلت المجتمع يعمل لفترات أقل مقابل حصوله على دخل عالي، وهذا خلق فراغاً جعله مستعداً لاستهلاك الثقافة التنظيرية لفترات طويلة"، وهو ما اختلف اليوم مع الضغط الذي تصنعه قيم العمل "اليوم الجيل بحاجة إلى ثقافة يمكن استهلاكها أثناء تأديته العمل، تصله ولا يبذل وقتاً طويلاً للبحث عنها".

وهو ما يؤكده الملا إذ يرى أن ثقافة الفنون البصرية "السائلة" هي النموذج القادر على ملء الفراغ، حيث يقول إن "الفراغ الذي شكله عزل الصحوة، ما هو إلا نتيجة طبيعية لعقود إضعاف وتجفيف منابع الثقافة والفنون بكل مستوياتها، مما أنتج حالة من المقاومة الثقافية غير المتكافئة التي أبقت على الرمق"، مشدداً على أهلية الفنون للعب دور في المستقبل "الفنون هي التي قاومت ونجت، والدليل أننا نشهد حراكاً فنياً كان محجوباً وكشف عن وجهه بشكل مفاجئ للجميع، وهذه الموجة ليست نبتاً استوى بمجرد القرار، بل إنها وليدة مقاومة طويلة".

وعلاوة على ذلك تنجح ثقافة الفن في تجاوز أطر اللغة والجغرافيا، إذ غدت جزءاً من ثقافة عالمية لديها القدرة على الوصول لشريحة لا منتهية من البشر، وهو ما يبدو أن وزارة الثقافة السعودية التي تقود المشهد الثقافي تستهدفه، وهي التي استهدفت في رؤيتها مجالات كالموسيقى والأزياء والطهي والسينما والمسرح وغيرها من المجالات التي لم يسبق أن صنفت كموارد ثقافية من قبل، على الأقل من وجهة نظر النخبة الثقافية التقليدية.

إلا أن التحدي القادم بالنسبة إليها هو مدى قدرتها على التحول من حالتها السائلة إلى أخرى أكثر صلابة مع المحافظة على خصائصها التي جعلت منها الخيار الأكثر نجاعة في العصر الحالي، وهو ما يجب أن يكون في مقدمة اهتمامات صناعة الثقافة في البلاد.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات