Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كورونا أو الباب الخلفي للعالم "الأورويلي"

كيف اختصم الفيروس من حريات الأشخاص حول العالم؟

من أدوات الأخ الأكبر الصيني استخدام كاميرات ذكية للتعرف على الوجوه (غيتي)

هل جاءت أزمة كورونا لتعزز من رؤية العالم الأورويلي، ذاك الذي سبق وتنبأ به الكاتب الإنجليزي الشهير جورج أورويل في روايته "1984"، والتي فيها، الأخ الأكبر، يراقب الشاردة والواردة، ويختصم من الحريات الفردية والشخصية، تحت غطاء من الحفاظ على الأمن وسلامة المجتمع؟

المثير جداً في هذا الإطار، أن رواية أورويل هذه، والتي كتبها في سياق زمني استشرافي، تكشف لنا عن أن الرأسمالية المنتصرة والمسيطرة، تستخدم اللغة المشوهة الجديدة ذاتها التي دعاها أورويل "الرطانة الجديدة" newspeak، والتي طالما فسرها البعض، أنها لغة الأنظمة الشمولية والاشتراكية وحدها، وتجعل الكذب نبراسها في تبرير هيمنتها على العالم، وعدوانها على الناس.

لقد أثارت رواية "1984" ولا تزال، الكثير من الجدل حتى اليوم، لأنها تمثل نوعاً من اليوتوبيا المقلوبة، وتسجل نبوءة أورويل التحذيرية ممّا ستؤول إليه أحوال النظم السياسية، لا سيما ما يخصّ نهاية عصر النزعة الإنسانية، ومركزية الإنسان الفرد، وقدوم عصر الدولة الشاملة الحديثة، وآليات تهميش الفرد، والإجهاز على فرادته... من أين للمرء أن يبدأ بالاستطراد عن علاقة كورونا بالعالم الأورويلي.

الصين... مجتمع الأخ الأكبر

حكماً من عند الصين، مصدر الداء، ومنشأ الوباء، والمعروف أن مسألة الحريات الشخصية في الصين، من القضايا التي تشغل العاملين في مجال حقوق الإنسان، قبل ظهور كورونا، غير أن انتشار الفيروس وطرق مكافحته في الداخل الصيني، عزّزا فكرة سيادة المجتمع الأورويلي.

لا يعرف أحد خارج الصين على وجه الدقة حتى الساعة متى انتشر الفيروس في ووهان، لكن الصينيين يعلمون من خلال أجهزة الرقابة الرقمية، التي تحيط وتنتشر في الشوارع والمؤسسات كافة، أحوال الصينيين، وكيف تسير بهم أدق دقائق الحياة.

من أدوات "الأخ الأكبر" الصيني، استخدام كاميرات ذكية للتعرف على الوجوه، مزوّدة بأكثر أنظمة المراقبة الجماعية تطوراً في العالم، وتعمل على قياس درجات حرارة الأشخاص بمجرد مرورهم من أمامها، وتتعرّف على الوجوه لتضع أمام شركات الأمن معلومات دقيقة حول الشخص حتى إن كان يرتدي قناعاً طبياً، إنه زمن "شبكة المراقبة الجماهيرية"، والحديث هنا لشخص صيني في تصريحات لوكالة الأنباء الصينية "شينخوا"، إذ أشار إلى أنه بعد عودته من رحلة عمل لمدينة في وينزهو التي شهدت تفشي كورونا، اتصلت به الشرطة الصينية وطلبت منه أن يبقى في منزله أسبوعين، غير أنه في اليوم الثاني عشر، كان قد مل الانتظار فخرج إلى الشارع، لكن الشرطة عاودت الاتصال لتحذيره، كما اتصل به رئيسه من العمل لتحذيره أيضاً.

كشفت القصة الصغيرة عن كفاءة وقدرة شبكة الأمن المعلوماتي الصناعية الصينية، التي تمكّن السلطات من تتبّع حركات البشر، باستخدام تقنية الذكاء الصناعي والبيانات الضخمة، في أي وقت وفي أي مكان.

الجنرال سبالدينغ... عيون وآذان الصين

أفضل من يكشف لنا عن أبعاد المجتمع الأورويلي الصيني، الجنرال الأميركي روبرت سبالدينغ مؤلف كتاب "الحرب الخفية: كيف سيطرت الصين بينما النخبة الأميركية نائمة".

شغل سبالدينغ منصب المدير الاستراتيجي السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي في الولايات المتحدة، والذي يؤكد أن تحذيرات ترمب من الصين ونواياها كانت حقيقية، لا سيما وأن نظامها الشمولي، وشركات التكنولوجيا العملاقة فيها، يعملان بالنموذج ذاته.

الجنرال الأميركي يرى أن الصينيين تسارعوا إلى تعزيز قدراتهم حول نظام الـ"G5"، باعتباره الأرضية التي تتيح لهم التحكم في مفاصل العالم، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، والذي يضع عند أقدامهم كمّاً هائلاً من التيرابايتس، التي تجمع بيانات وأرقام ومعلومات عن 900 مليون صيني اليوم، وفي الغد، ومع انتشار الأنساق الصينية في عالم الاتصالات، كما الحال مع شبكة "هوواي"، يضحى العالم مراقَباً من الأخ الصيني الأكبر.

أخرجت الصين من خلال كورونا، أو الأدق القول، أخرج كورونا النسق الصيني في الرقابة اللصيقة على مواطنيها، إلى العلن، بعد أن كان هدفه الرئيس السيطرة على مقدرات العالم اقتصادياً.

على سبيل المثال، فإنك عندما تتجوّل في الصين، يمكنك أن تطلب بالهاتف الـ”G5“ ما تودّ أن تأكله، وحين تدخل المطعم يكون طعامك قد تم إعداده، ثم تلتقط لك الكاميرات الداخلية صورة وجهك، لترحب بك، وتسألك: "هل هذا طعامك الذي طلبته؟".

كارثة نظام الأخ الأكبر الصيني، هي أنك لا تستطيع الهرب منه كما كان الحال مع نظام الـ“G4” ما يعني انهيار حصن الخصوصية، ذاك الذي كنت تتمتع به من قبل.

وفي ظل هذا التوجه، ستكون مراقباً طوال 24 ساعة، داخل منزلك وخارجه، ذلك أنه حتى الأجهزة المنزلية كالتلفاز والثلاجة، وربما أسطح الإضاءة، ستكون موصولة بشبكة معلوماتية جهنمية تكشف أدق تفاصيل حياتك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 

الرصيد الاجتماعي وحياة الصيني

لم يكن الجنرال سبالدينغ وحده هو من تحدث أخيراً عن أوضاع الصين الأورويلية، فهناك كذلك الكاتب الإنجليزي ديفيد أيك الذي طرح على أوروبا وأميركا تساؤلاً مثيراً للتفكير: "كيف تراجعت أحوال كورونا في الصين، وغالبية الدول الآسيوية، التي تدور في فلكها بشكل سريع؟".

الجواب عنده لأنهم يتبعون كل شخص باستخدام تكنولوجيا رقابية، وعبر تطبيقات ملزمة على الهواتف، ليعرفوا بمن اتصل الشخص، ثم تبدأ عملية المطاردة، وتالياً الحجر الصحي.

أيك يلفت انتباه العالم إلى قضية مثيرة جداً تحدث في الصين، ولا ندري عنها الكثير، تلك المعروفة باسم "نظام الرصيد الاجتماعي" للمواطن الصيني... ماذا يعني ذلك النظام؟ باختصار، عندما يكون سلوكك مقبولاً للدولة يزداد رصيدك الاجتماعي نقاطاً، وعندما يكون سلوكك مخالفاً لما تحبه الدولة، ينقص رصيدك من النقاط الاجتماعية.

وإذا نقص رصيدك عن حدّ معين، تبدأ التبعات السيئة. لهذا، فإنّ هناك ملايين الصينيين ممنوعون من الطيران، وملايين آخرين غيرهم ممنوعون من استخدام القطارات، لأن رصيد نقاطهم أقل من الحدّ المقبول لاستخدام هذه الوسائل، بهذا الشكل أضحت الصين، دولة وحكماً "تكنوقراطياً"، وإذا نظرت إلى الصين الآن، فكأنك تتطلّع إلى العالم غداً.

هل ما يجري في الصين يمكن أن ينتقل إلى الغرب؟

تكاد المنافسة الجنونية على القطبية الدولية تخبرنا بأنّ الصينيين يراهنون قبل كورونا وبعدها، على أن هذا النموذج الطاغوتي، لا يمكن أن تقبله الحضارة الغربية، أوروبية أو أميركية، من منطلق رفض القائمين عليها، اختراق الخصوصية الفردية، ولهذا ستكسب الصين مساحة واسعة في صراعها الأممي... هل هذا صحيح، أم أن أوروبا وأميركا، هي مجتمعات الأخ الأكبر بالفعل حتى قبل كورونا؟

عن الرأسمالية والبرولتيارية الأورويلية

قد يكون هذا المدخل المؤدلج مثيراً، أو عسيراً، من جهة الاسم، غير أنه مدخل لا بد منه، لنفهم طبقات الأمم ومنصات الزعامات إن جاز التعبير.

في رواية أورويل، تلك التي كتبها في نهاية حياته، وقبل أن يقضى عليه مرض "الدرن"، كان يصف حال ومآل شعب "أوشانيا" الدولة المتخيلة التي تجري على أراضيها أحداث روايته، وقد اعتبر أن 85 في المئة من سكانها من الـ PROLES وهي من الكلمات التي اخترعها أورويل، أو اختصرها من الكلمة الأصلية الأطول PROLETARIAT أو الطبقة العاملة.

هل تم اختراع فكرة الأخ الأكبر في الغرب أصلاً، كي تراقب فئة الـ 10 في المئة تقريباً التي تملك رأس المال، وأدوات الإنتاج كي تتابع وتراقب البقية الباقية، من تروس البشر، الدائرين السائرين في طريق تكوين الثروات للأغنياء والمؤثرين؟

في "أوشانيا"، يعتبر الحزب الحاكم، العمال طبقة أدنى من البشر، أو بالأحرى من الرعاع الذين لا يحسب لهم أي حساب ويصل الأمر حداً من المهانة، أن يعتبرهم الحزب أقراناً للحيوانات ولا يعبأ بهم كثيراً، ولا يتصورهم الّا بشكل جمعي أو قطيعي.

فهم جماعة من السكارى، أو الشحاذين، أو العاهرات أو اللصوص، ليس لهم أي كيان فردي يستحق الذكر أو الاهتمام.

كذلك لا يرى الحزب فيهم أي خطر، وإن أبقى على بعض عناصر من شرطة الفكر بينهم، يحدّدون من باستطاعته أن يشكّل خطراً من بينهم، ويستأصلون شأفته أولاً بأول، وينشرون الخوف في صفوفهم، القناعة بأنّ قائد الحزب "الأخ الأكبر" لا يخطئ أبداً.

حريات الغرب في زمن كورونا

سريعاً تنبه الإعلام الغربي لإشكالية الرقابة في زمن كورونا، وكيف لها أن تختصم من كل مساحة حرية خاصة أو شخصية.

خذ إليك على سبيل المثال ما أشار إليه موقع "ديلي ميل" البريطاني من أن غوغل "تدرس مشاركة بيانات الموقع من تطبيقاتها المختلفة، لمساعدة حكومتَيْ الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة،على تحديد ما إذا كان الجمهور يتجنب التجمعات الجماعية".

لم تكن الصين وحدها في واقع الأمر، من بات يتّسم بـ"الأخ الأكبر"، ففي بريطانيا هناك من يعمل على خوارزمية مرتبطة ببيانات المواطنين لاستكشاف الإصابة بكورونا.

وفي إيطاليا، باتت الأجهزة المعنية تعمل على تقنيات تتبع آلية خاصة بها، تم إقرارها من قبل الحكومة لمراقبة انتهاكات الإغلاق المحتملة، في ظل الجائحة الكبرى الآنية.

هل دليل القواعد، أو الدساتير التي تصون الحريات الشخصية في الغرب اليوم في أزمة ما؟

الجواب المكين لجماهير المتسائلين، نجده عند جيك مور خبير الأمن المستقل، وفيه "أنه عندما تصيب الأوبئة، عادة ما تخرج دفاتر القواعد من النافذة، حتى عندما يكون الأمن على المحك، وتُعدُّ مشاركة البيانات أمراً حيوياً في هذا الموقف في الوقت الحالي، ويمكن أن يساعد تقديمها في إنقاذ الأرواح، وسيكون هناك خطر من استغلال هذه البيانات في المستقبل".

في القلب من بريطانيا كان "الأخ الأكبر" يطلّ من نافذة الأحداث، فقد منحت سلطات قانونية جديدة من قبل الحكومة للمساعدة في وقف انتشار كورونا، وقد كشف فرع البيانات التابع للخدمات الصحية في المملكة المتحدة، عن أنه طلب منه جمع البيانات وتحليلها لتحديد الأشخاص المعرضين بشكل خاص للمرض.

هل يلقى هذا النسق "الأورويلي" قبولاً في وقت الجائحة؟ يرى الدكتور جيم راباس، المدير التنفيذي للسجلات والبيانات أن هذا الوضع قد يكون مقبولاً "لا سيما وأن البيانات هي مفتاح مساعدتنا في فهم أفضل طريقة لحماية الأفراد المعرضين للخطر، ومعرفة ما يحدث للمرضى مع ضمان أن يتم الضغط بشكل فعال".

روسيا ليست بعيدة بدورها

قبل أن نغادر القطاع الجغرافي الأوراسي وحظوظه مع "الأخ الأكبر"، لا بد لنا من أن نعرّج على بلاد القيصر، حيث الغرب لم يأل جهداً، أميركياً أو أوروبياً في إدانة أوضاع حقوق الإنسان في روسيا، واعتبار بوتين إمبراطور الاستبداد، والقابض على جمر الأحداث، بقوة عيون وآذان بشرية وصناعية، وهنا نتساءل: هل كان لروسيا أن لا تتجاوب بدورها مع تبعات كورونا، وتعزيز نصيب ما أسماه أورويل في روايته "وزارة الحقيقة"، حتى إن استخدمت البيانات التي تتحصّل عليها في الباطل؟.

عبر موقع "إنسايد أوفر"، يطّلع القارئ على الإجراءات الروسية التي اتُّتبعت من أجل محاصرة كورونا، وفي المقدمة منها استخدام الكاميرات المزودة بتقنية التعرف على الوجه، التي تم تركيبها في كل مكان، في الحافلات ومحطات المترو والساحات، الأمر الذي سمح للكرملين بمحاربة الفيروس.

كان الهدف الأول للروس، والمشروع في الوقت عينه من وجهة نظر القائمين على القرار في الكرملين، هو مراقبة ومتابعة السياح الصينيين، على الأراضي الروسية فقد مكّنت هذه الكاميرات الذكية السلطات، من المتابعة الحينية لـ"المشتبه فيهم"، الأمر الذي تسبّب في خلافات مع بكين، على ضوء شكاوى السياح الصينين، من عمليات التفقد المفاجئة في الحافلات أو الشوارع.

بالقدر عينه، تم استخدام هذه الكاميرات للتثبّت من مدى التزام الشخص بالحجر الصحي، وذلك بفضل الأجهزة المزودة بتقنية التعرف على الوجه.

أثبت "الأخ الأكبر" الروسي نجاعةً ما في صدّ كورونا عن الروس في الأسابيع الأولى، لا سيما بعدما سمح جهاز المراقبة ذلك للسلطات الروسية، في فبراير (شباط) الماضي، باكتشاف انتهاك 88 سائحاً للحجر الصحي، ما أدى إلى طردهم الفوري.

والشاهد أنه في معية روسيا، كانت دول تدور في فلك علاقات ما ورائية مع موسكو، لا سيما إسرائيل بنوع خاص، تقرر الاعتماد على تقنيات وأساليب التجسس والمراقبة التي يقدمها جهاز الأمن العام (الشاباك) التي طوّرتها وطبّقتها على مر السنين في حروبها.

أما كوريا الجنوبية، فقد ركّزت بشكل كبير على استخدام أجهزة تحديد المواقع لإنشاء خريطة معقدة، غنية ومفصلة للأماكن التي زارها المصابون، أطلق عليها اسم "خريطة كورونا"، وبفضلها أعاد المحققون بناء تحركات المصابين بالتفصيل، ويمكن فهمها بوضوح من خلال إلقاء نظرة سريعة عليها، وهي تشير بدقة إلى اللحظة التي حدثت فيها الزيارة.

وبتعلة الحماية الإجتماعية، قامت السلطات بدعاية ابتكار عددٍ كبيرٍ من التطبيقات للأجهزة المحمولة، التي تعتمد دائماً على نظام تحديد المواقع، وتقوم بتحذير المستخدم عند عبور مكان يمرّ فيه أشخاص مصابون بالعدوى، كما تتبّع أيضاً سجل الدفع ببطاقات الائتمان.

أميركا وجدلية "الأخ الأكبر"

حين كتب أورويل روايته "1984"، كان إسقاطه الأكبر يتمحور حول الاتحاد السوفياتي، والنظام الحديدي التوتاليتاري لستالين وجماعته.

 غير أنه ومن عبث الأقدار، أن يكون إسقاط أورويل على أميركا بأكثر منه على روسيا.

 عبر التاريخ الأميركي، وجد من يبرر الحاجة إلى "الأخ الأكبر" في أميركا بأنه الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها ضبط وربط المهاجرين واللاجئين والساعين إلى الاندماج في نسق الحياة الأميركي المعروف باسم "بوتقة الانصهار" أو الـ Melting pot إذ فيه تنصهر الأجناس والأقوام، الشعوب والطوائف، في إناء واحد، وعلى هذا الأساس، فإنّ صانع القرار، لن يمكنه التحكم في هؤلاء جميعاً، إلّا من خلال عين تراقب، وأذن تتنصّت، كي يقود الجميع في التوجه الذي يريده، ومن غير أن يترك مجالاً لشعارات مترعة بالقوميات، أو شائهة بالعنصريات، وبعيداً من تشارع الأيديولوجيات، أو تضاد الدوغمائيات القاتلة.

يكتب غوردون كوريرا، مراسل الشؤون الأمنية في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، مشيراً إلى أنه ومنذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أي قبل نحو 20 سنة تقريباً، هيمنت قضية الإرهاب على جلّ اهتمام الجهات الأمنية، ولكن برزت أصوات على مدى سنوات تطالب بتوسيع مفهوم الأمن القومي.

ثم جاء انتشار وباء كورونا، ليطرح تساؤلات جدية حول ما إذا كان ينبغي شمول الأمن الصحي العالمي في منظومة الأمن القومي، بحيث يخصص له موقع مركزي ضمن اهتمامها.

أخيراً وخلال مقابلة له عبر مهرجان "كوبنهاغن" للأفلام الوثائقية، كان إدوارد سنودن، رجل وكالة الأمن القومي الأميركي NSA التي تراقب العالم إلكترونياً وسيبرانياً، والذي تسبّب لأنظمة بلاده التجسّسية والتنصتية حول العالم بخسائر فادحة، يحذّر من أن زيادة أنشطة المراقبة وسط أزمة فيروس كورونا، يمكن أن تؤدي إلى آثار سيئة طويلة الأمد في الحريات المدنية.

الجزئية المثيرة التي لفت إليها سنودن، هي أنه من الناحية النظرية، يمكن أن تظل الأساليب الجديدة التي طبقتها الدول لمكافحة تفشي الفيروس حتى بعد انتهاء الأزمة.

طرح سنودن مثير للقلق عند جماعات الحفاظ على الحريات الشخصية، ذلك أنه حتى بعد خمس سنوات من اختفاء الفيروس، ستبقى هذه البيانات متاحة لمالكيها، الأمر الذي يمكنه أن يغريهم، من أجل البحث عن أشياء جديدة، لا سيما وأنهم يعرفون بالفعل ما تبحث عنه على الإنترنت، وهم يعرفون بالفعل أين يتحرك هاتفك، والآن يعرفون ما هو معدل ضربات قلبك، والسؤال هنا: ماذا يحدث عندما يبدأون في خلط تلك المعلومات وتطبيق ميكانيزمات الذكاء الصناعي عليها؟

تعطينا أخبار الحريات الأميركية المقيدة، فكرة مبسّطة عما يسمح به قانون الطوارئ من عسكرة أميركا في العلن لأجوائها، لا سيما في زمن تفشّي كورونا القاتل.

قبل أربع سنوات وفي 2016، تحدث مدير شعبة الابتكار الرقمي في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آنذاك، عن النشاطات التي تضطلع بها الوكالة في مجالات دراسة المعلومات التي تشمل مجتمعات بأسرها، باستخداتم الذكاء الصناعي وأساليب أخرى، مثل تحليل الاستجابات العاطفية.

تهدف هذه النشاطات والدراسات إلى الحصول على القدرة على التنبؤ بوقوع أحداث معينة، مثل انهيار الأنظمة العامة واحتمال اندلاع ثورات قبل أن تتّضح للعيان.

ما الذي يدور في الولايات المتحدة في الأشهر الثلاثة الأخيرة؟

ما تسرّب حتى الساعة عن مجمع الاستخبارات الأميركية إلى الإعلام، يشير إلى أن الأجهزة المختصة، قد أطلعت صانعي القرار على سلسلة من التقارير السرية في شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) الماضيين، تتعلّق بمخاطر فيروس كورونا، واعتمدت في إعدادها على المعلومات التي تمكّنت من الحصول عليها من الصين.

السؤال الآني: هل تم الانتباه لها؟

لا يزال الجواب مبهماً حائراً، لا سيما وأن المجمع عينه، جل انشغاله في الوقت الحاضر، هو استنقاذ أميركا، حتى ولو على حساب الحريات الشخصية والاختصام منها، الأمر الذي يعود بنا إلى السؤال المحوري الذي وضعنا فيه أورويل في دولته "الأوشانية": أيّهما أهم الأمن أم الحريات، والآن الصحة المرتبطة حكماً بالأمن أم الحريات؟

الصحة والحريات... خيار زائف آخر

منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، والعالم برمته، وليس الولايات المتحدة الأميركية فقط، يدور في فلك خيار زائف بين الأمن والحريات، واليوم يبقى الأمن بلا شك مرتبطاً ارتباطا جذرياً بمسالة صحة البشر، إنها قضية أمن قومي في كل أنحاء العالم، فالوباء إبادة وشرّ مهول، يهدّد مناحي النماء والبناء كافة.

المعضلة الحقيقية التي يراها التنويريون والليبراليون حول العالم، هي أن "التدابير الاستثنائية"، غالباً ما تكون بمثابة "تربة انزلاقية"، والمفارقة العجيبة، أنها قد لا تقود إلى صيانة الدساتير، بل القضاء عليها، وإلى الإساءة إلى الحقوق الأساسية التي يضمنها، ويحميها لئلّا تحدث هذه النتيجة السلبية.

في الفيلم الأميركي الرائع "جسر الجواسيس"، إنتاج عام 2015، يلعب الممثل الشهير توم هانكس دور محامي منوط به الدفاع عن الجاسوس السوفياتي العقيد "أبيل"، الذي أدى شخصيته بحرفية فائقة جداً الممثل الإنجليزي السير مارك رايلانس.

في هذا الفيلم، يحاول عميل الاستخبارات المركزية الأميركية، إرغام المحامي الأميركي، الأيرلندي الأصل على الكشف عما قاله له الجاسوس السوفياتي، ولغة الحوار من العميل الأميركي تمتلئ بالصلف والغرور القومي والوظيفي معاً.

كان اسم العميل يحمل المشاهد على القطع بأنّ جذوره ألمانية، ولهذا يخاطبه المحامي "جيمس دونوفان" أو توم هانكس بأن هناك حقيقة واحدة مؤكدة في الداخل الأميركي، حقيقة تجعل عجلة الحياة الأميركية تدور على الرغم من الاختلافات في جذور الأميركيين، وهي وجود مرجعية، يطلق عليها "دليل القواعد"، أي الدستور الأميركي، الذي يقضي بالحق بين الجميع، ويجعل من أميركا دولة مؤسساتية تعطي حتى المعتقل الروسي حقوقه القانونية كاملة من دون أدنى انتقاص.

السؤال الأخير هنا: هل يمكن لأوروبا وأميركا أن يقاربا النظام الأورويلي الصيني، أم أن تراث التنوير والحريات لا بد له من أن يتجاوز ألم المشهد الحاضر، على الرغم من استثنائيته؟

أفضل حل مقبول ومعقول في الوقت الراهن، هو أن تحصر التدابير المتخذة سواء في الوقت أو المحتوى للخروج عن النظام العادي، بحيث تحدّد في مدة طارئة فقط، انطلاقاً من أن الأمر الطارئ بطبيعته مؤقت.

 هكذا، يتفادى عالم الحريات، طاغوت الشموليات... الحرية هي الأصل، وهي الحلّ.

 

المزيد من تحلیل