Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من "طقوس مقدسة" لاستهانة بـ"الميت"... ماذا حدث في مصر زمن كورونا؟

قرية تمنع طبيبة متوفاة بالفيروس من الدفن... وفزع على التواصل الاجتماعي من تغير ثوابت المجتمع  

الموروث الشعبي المصري أولى دفن الموتى أهمية قصوى (أ.ف.ب)

بقدر انتفاضة الغضب، وثورة اللوم والعتاب، التي وصلت بالبعض إلى حد المطالبة بالتتبع والعقاب، بقدر ما كان الفعل مفاجئاً وصادماً وكاشفاً عن جانب من الطبيعة نادراً ما يواجهها المصريون. وبقدر ما غمرت وسائل التواصل الاجتماعي تدوينات وتغريدات تسجل رقي المشاعر وسمو الأحاسيس وعظمة العواطف، بقدر ما تظل حبيسة الأثير مقتصرة على التعبير البعيد عن موقع الحدث وأرض المواجهة الفريدة من نوعها على أرض قرية شبرا البهو، التابعة لمركز أجا في محافظة الدقهلية بدلتا مصر. التي وضعت المصريين قبل أيام للمرة الأولى في مواجهة مفزعة مع ثوابت عدة انقلبت رأساً على عقب، ونتائج واضحة وصريحة لما يقدمه الإعلام على مدى ثلاثة أشهر من فزع وتهويل وترويع دون النظر إلى ما قد ينجم عن عرض المعلومات الطبية الغزيرة، والتطورات الفيروسية المتتابعة كمادة خام، دون تخطيط مسبق للتوابع، وترتيب محكم للآثار على من تطأ قدماه كلية طب، أو معهد تمريض، أو حتى حصة علوم.

جثمان الطبيبة

علِم الأهالي بقرب وصول جثمان طبيبة تبلغ من العمر 65 عاماً من أبناء القرية، توفيت جراء إصابتها بفيروس كورونا، بعدما انتقلت إليها العدوى من ابنتها العائدة من اسكتلندا، فهرعوا لاستقبال الجثمان، ولكن بطريقة تختلف عما اعتاد عليه المصريون من مشاركة حقيقية بالصلاة والدعاء والاحترام والخشوع. قسّم الأهالي أنفسهم لمجموعتين، الأولى تمنع وصول الجثمان، والأخيرة عند مقابر القرية حيث تم حرق أكوام من قش الأرز لمنع الدفن.

الدفن بالقوة

محاولات كر وفر، وصوت إنذار سيارة الإسعاف المعقمة التي تحاول الوصول إلى مقابر الأسرة لدفن المتوفاة تناطح تجمهر الأهالي المتصاعد وهتافاتهم المدوية "إيد واحدة" لمنع دفن السيدة و"كورونا لا". في تلك الأثناء كان أهل الطبيبة يبذلون محاولات مضنية للتفاوض مع أهالي القرية لدفن فقيدتهم. زوجها من جهة، وشقيقها من جهة أخرى، وحتى والدتها المسنة التي ظلت تستعطف الأهالي الغاضبين دون جدوى، إلى أن وصلت قوات الأمن التي أطلقت الغاز المسيل للدموع لتفريق الأهالي ودفن الطبيبة بالقوة.

قوة المعلومات المتدفقة من كل فج عميق وضحل انفجرت في وجوه الجميع. الوفرة المعلوماتية التي تصل إلى درجة الإغراق السلبي منذ تفجرت أزمة كورونا، أدت إلى ما لا يحمد عقباه، أو ما يسمى بـ"التسمم أو السمنة أو الانفجار المعلوماتي"، التي تتمثل في ردود فعل متوترة أو عصبية أو مبالغ فيها، أو لا أساس لها من المنطق في أغلب ما يختص بكورونا. وشهدت مصر ترجمة فعلية صادمة لأولى أعراض هذه المسميات، متعددة الأذرع، متفاوتة الدرجات، متشعبة المصادر في "شبرا البهو".

 الموروث الشعبي المصري منذ آلاف السنوات يشير إلى قيمة ومكانة كبرى وأهمية قصوى لدفن الموتى. والثقافة المصرية على مر العصور تنظر إلى الموت باعتباره سبباً لإنهاء العداوة والسمو فوق الخصومة، ويبدو ذلك واضحاً من خلال مقولات عدة مثل "لا شماتة في الموت" و"إكرام الميت دفنه". والقواعد الدينية تنتهج النهج نفسه، وتخصص طقوساً وشعائر وصلوات وأدعية لتكريم المتوفى. ويتداول المصريون قصصاً واقعية وحكايات عاشوها بأنفسهم عمن تُوفي ولم يجد ذووه مكاناً لدفنه، فتبرع هذا بموقع في مدفن الأسرة، وهرع ذاك للمساعدة لتكريمه بالدفن في "مقابر الصدقة" وغيرها.

تغير الثوابت

لكن بوادر تغير الثوابت باتت واضحة وضوح الشمس في شبرا البهو. إنها التخمة المعلوماتية العشوائية؛ شاشات التلفزيون المصرية لا حديث لها إلا عن الفيروس وانتشاره وإصاباته ووفياته. وقرينتها العربية والغربية لا تختلف عنها كثيراً، بل يمكن القول إن الشاشات التي تنقل مجريات الوباء في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، التي تمعن في أخبار وتقارير حول الموتى الذين يتم تخزين جثامينهم في حلبات التزلج على الجليد، وآخرين يتم حرقهم ودفن رمادهم، ونزع أجهزة التنفس الصناعي عن الكبار حيث الأولوية للصغار وغيرها من طوافين المآسي وبراكين الفواجع.

وضمن الفواجع ضلوع الإعلام في التسبب بحالة الهلع الجمعي، التي تؤدي إلى تصرفات غير معتادة وتقلبات لم يشهدها المصريون من قبل. فالترند مطلوب، والمشاهدة أولوية، والمنافسة شرسة، وضمان التصاق المشاهد بالشاشة هي ضمان استمرار الشاشة من الأصل. ومن ثمّ، فإن "روشتة" التعامل مع السمنة المعلوماتية وسمومها لا يتم تداولها إلا في أضيق الحدود، ويظل تداولها مقتصراً على فئات اجتماعية وثقافية بعينها، هي الأقل احتياجاً لها بحكم الثقافة والوعي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الوعي المفقود تحت وطأة الفيروس الطائح، سواء صحياً أو إعلامياً، يمكن تقوية مناعته عبر خطوات تتراوح بين التحقق من المعلومة أو الصورة أو الفيديو المتداول عبر أدوات التحقق المتاحة من برامج عدة على شبكة الإنترنت. وفي حال تعذر ذلك سواء بسبب عدم معرفة هذه الأدوات، أو توافر الوقت، فمن الأفضل اتخاذ قرار شخصي فردي بعدم مشاهدة ما يتم إرسالة على صفحات "واتساب" و"فيسبوك" وغيرها، والاكتفاء بما يرد على وسائل الإعلام التقليدية حيث قدر أوفر، وليس كاملاً، من المصداقية.

من واحد إلى عشرين

كما يمكن أن ينتهج الشخص منهج العد من واحد إلى عشرين مثلاً قبل أن تتمكن منه الرغبة في الشير لفيديو مثير، أو تحذير مريب، أو خبر مجهول المصدر مهما بلغ من إثارة. وعلى الشخص أن يعي أن اعتقاده بأنه بعدم الـ"شير" ربما يمنع فائدة من الوصول للآخرين أو يحجب معلومة، إنما هو اعتقاد خاطئ، لأن الفيديو أو الرسالة الصوتية أو النصيحة مجهولة المصدر التي وصلته وصلت إلى الملايين قبله أو في التوقيت نفسه. ويكفي أن منظمة الصحة العالمية نفسها تحذر بين الوقت والآخر من الوباء المعلوماتي.

قبل أيام عقدت المنظمة جلسات تشاورية جمعت علماء وصانعي قرار في مجال الصحة العامة وصحافيين ومتخصصين في منصات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي وممثلين عن منظمات المجتمع المدني؛ لوضع أطر خاصة بتبادل المعلومات الموثوقة في شأن الفيروس، مع الدحض والتقليل من حدة نظيرتها الخاطئة والإشاعات والخرافات المتداولة بهذا الشأن.

متخصص طب الأطفال، والمهتم بالتوعية الشعبية في مجالات الوقاية الطبيب صادق عبد العال، يقول، "علينا أولاً أن نبذل قصارى الجهد لتوصيل المعلومات الصحية المنضبطة والمبسطة للجميع، قبل أن نحاسبهم على تصرفاتهم، بينها الخوف الشديد من دفن من تُوفي مصاباً بالفيروس".

ويؤكد كبير الأطباء الشرعيين أيمن فودة، أن وزارة الصحة تتبع إجراءات صارمة فيما يختص بتغسيل وتكفين موتى كورونا، إذ يتم تغسيل المتوفى بمحلول فورمالين بنسبة 10 في المئة، ويتم تطهير المقبرة التي يتم الدفن فيها على أن تظل مغلقة لمدة 60 يوماً.

وأوضح، أن هذه الإجراءات ليست وليدة كورونا، ولكنها موجودة في "قانون الجبانات"، وتتبع في دفن حالات بعينها مثل مرضى فيروس نقص المناعة البشرية "الإيدز". وأشار كذلك إلى أن القانون نفسه "قانون الجبانات"، الذي تم وضعه منذ أيام الحملة الفرنسية على مصر، ينص على أن تبعد المقابر عن البيوت بمسافة لا تقل عن ألف متر، كما يفترض عدم وجود المقابر داخل القرى والمدن مراعاة للقواعد الصحية.

المفروض والموجود

لكن المفروض يختلف عن الموجود، حيث نسبة كبيرة من المقابر موجودة داخل المدن والقرى. ولأن العالم قرية صغيرة، فإن ما جرى في شبرا البهو وقع مثله بدول عدة، وليس مصر فقط حيث خوف الكثيرين من مغبة انتقال الفيروس من جثامين الموتى إلى الأحياء.

يقول المتخصص في علم الاجتماع السياسي سعيد صادق، إن "ما يجري من هلع البعض سواء في مصر أو غيرها من الدول مثل تونس أمر ليس جديداً، ويحدث في أوقات تفشي الأوبئة أو الأمراض الغاشمة التي تأخذ الأرواح، لكن هذا يسلط الضوء على فشل كبير للإعلام الطبي أو الصحي في مصر، الذي إما أن يكون غائباً تماماً، وإن وجد يقدم المعلومات بشكل معقد أو غير جذاب".

يؤكد صادق أهمية وجود فقرات يومية في الإعلام ترد على الأسئلة التي يفكر فيها المواطنون، مهما بلغت هذه الأسئلة من سذاجة أو سطحية؛ لأن الإجابة عنها بأسلوب علمي وبسيط وشيق خير من ألف علاج لمأساة كتلك التي حدثت في شبرا البهو.

يتابع، "المجتمع به العديد من الثقافات، والدرجات المتفاوتة من التعليم والوعي، ومن ثمّ فإن الخطاب الموجه لقاطني فيلات المنتجعات المغلقة لا يصلح لسكان القرى والنجوع الغارقة في فقر وأمية، واقتصار الوعي على خطاب ديني متطرف منذ نحو نصف قرن".

ثقافة منهكة

يلفت صادق إلى ضرورة التعامل الأمني بحرفية وسرعة في مثل هذه المواقف، وذلك "بالتأمين المسبق للأحداث، وليس فقط التدخل بعد اندلاع الأزمة. ويطرح روشتة سريعة للتعامل الآني مع مثل هذه المواقف لحين انتهاء أزمة الوباء الحالي، والبدء في إصلاح الجذور الميتة وترميم الثقافة المنهكة، بقوله "لا ينبغي الإعلان عن سبب الوفاة، لا سيما في القرى والنجوع مع اتخاذ الإجراءات الصحية اللازمة للدفن وتحضير الجثمان. وتأمين عملية الدفن المسبق لردع من ينوي إحداث الشغب والتصرف العشوائي. وضرورة أن يعيد الإعلام المصري النظر في محتوى وهدف وأسلوب ما يقدمه. فالأمر لا ينبغي أن يقتصر على عدادات الإصابات والوفيات اليومية، بل تحليل وشرح جوانب الحياة المختلفة المتصلة بالوباء والتعامل الصحيح والمتحضر معها".

يتابع، "على الإعلام أيضاً أن يتوقف فوراً عن استضافة من يخلطوا الهبل على الشيطنة حيث حديث الشلولو وحبة البركة. وعلى الرغم من ضرورة الفصل بين الدين والدولة، فإن الوضع الحالي وخطورته يستدعيان الاستعانة برجال دين تنويريين يقدمون خطاباً متوافقاً مع الأزمة وطبيعتها، وليس غارقاً في تطرف وتشدد وطائفية، لا سيما أن أهالي القرى والنجوع والعديد من المناطق الشعبية والعشوائية يعبترون رجل الدين قائدهم الأوحد. وأخيراً، على القانون أن يكون حاضراً وبقوة ويحسم الأمر بعقاب من يخالف، ويثير الشغب، أو يتصرف بغوغائية لأن التساهل والتهاون يفتحان باب الانفلات أمام الكثيرين".

أمين عام دار الإفتاء خالد عمران حذّر من مغبة منع دفن ضحايا كورونا، واصفاً ذلك بـ"الإثم العظيم"، لا سيما أن وزارة الصحة تتبع إجراءات حاسمة في تحضير جثامين موتى كورونا.

وقال شيخ الأزهر أحمد الطيب، إن "رفض دفن طبيبة توفيت جراء كورونا مشهد بعيد كل البعد عن الأخلاق والإنسانية والدين، فمن الخطورة بمكان أن تضيع الإنسانية وتطغى الأنانية فيجوع المرء وجاره شبعان، ويموت ولا يجد من يدفنه".

بروتوكول الدفن

من جهتها، قالت مديرة وحدة مكافحة العدوى ونائبة مدير مركز الوقاية من الأمراض في المكتب الإقليمي لشرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية "إمرو"، مها طلعت، إن المتوفى المصاب بفيروس كورونا لا ينقل العدوى بصورة كاملة، مشيرة إلى وجود إجراءات متبعة أثناء تغسيل الجثامين لمنع انتقال الفيروس.

يشار إلى أن منظمة الصحة العالمية وضعت بروتوكولاً لمراسم الدفن المأمونة للمتوفين جراء فيروسات مثل إيبولا وكورونا.

وفي تلك الأثناء يستمر غضب المصريين مما جرى في "شبرا البهو" من خرق لثقافة المصريين المحترمة للموت، والمتعاطفة مع أهل المتوفى لدرجة التماهي، لكن تستمر أيضاً طوافين المعلومات وسيولتها وتخمتها وتعدد مصادرها بين معلوم ومجهول في مهاجمة قدرات البشر على التحمل. وينتظر الجميع من الإعلام التقليدي أدواراً أكثر فعالية وأعمق دراسة لحالات الهلع الجمعي والتوتر الشعبي والتعامل المخطط لتوعية الشعوب وتهدئتها دون تهويل وإعلامها دون تهوين بالوباء الحالي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات