Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دور الفتوى الدينية في زمن التصدي لانتشار فيروس كورونا

دخلت عالم الإنترنت بشكل كبير وبات بإمكانها تسيير حياة ملايين البشر في كل مكان

متطوعون يخيطون أثواب للعاملين في المجال الصحي لمكافحة تفشي كورونا في الجامعة الإسلامية الدولية في ماليزيا في غومباك إحدى ضواحي العاصمة كوالالمبور (أ. ب.)

لا يُقدم مسلمون كثر في العالم الإسلامي أو المنتشرون في العالم، على عمل ما إلا بناءً على فتوى، وقد يكون هذا العمل عاماً، يستفيد من فتواه الجميع، أو خاصاً يتعلق بشخص بعينه. وهذه الفتاوى تصدر عن مؤسسات رسمية مكلَّفة بالإفتاء وموكلة بذلك من قبل الإدراة الحكومية داخل الدول، أو عن مفتين مستقلين لهم أتباعهم أو "مقلديهم"، أو عن أحزاب وجمعيات دينية إسلامية أخذت على عاتقها الإفتاء لجمهورها. وقد تكون هذه الأحزاب أصولية متزمتة أو معتدلة، وتتنوع بتنوع المذاهب الإسلامية واختلاف الاجتهاد داخل الطوائف والمذاهب المختلفة.
وفي زمن الإنترنت والصفحات الإلكترونية التي دخلت إلى كل منزل، انتشرت المواقع المتخصصة بإصدار الفتاوى حول كل ما قد يخطر على بال طالب الفتوى، من الأمور التفصيلية الدقيقة في الحياة اليومية إلى المواضيع العامة التي تعني الجميع، ومنها على سبيل المثال تلك المتعلّقة بفيروس كورونا المستجد. وأدى وجود مواقع الإنترنت إلى تسهيل الأمور على طالبي الفتوى وعلى مصدريها معاً. فإذا أراد المفتي أو دار الإفتاء نشر فتوى ما عاجلة ومهمة، فإنها تصل إلى المعنيين في لحظة النشر، واذا أراد المستفتي جواباً عن سؤال ما، يصله من المفتي مباشرةً عبر مواقع التواصل.


فتاوى الحياة وكورونا

تكثر الفتاوى التي ترسي النمط الحياتي لطالبي الفتوى والنصيحة. فهؤلاء حين يسألون، فبشغف وإصرار واستعجال الجواب، وكأن طالب الفتوى لن يقوم بعمله إلا بعد حصوله على الجواب. وفي كثير من الأحيان يكون طالبو الفتوى أكثر قلقاً وإصراراً من المفتي نفسه، كأن يطلب أحد الأشخاص من المفتي الإفتاء بحرمة تصوير النساء بواسطة الهاتف النقال، أو يطالب آخر بالإفتاء بعدم جواز الاختلاط في المدارس بين الطلاب والطالبات. فطالبو هذه الفتاوى لا يطلبونها لأنفسهم فقط بل ولمَن يخالفون القواعد التي يعتبرونها هم صحيحة.

ثم جاء زمن كورونا الذي ولّد إباحات غير متوقعة ومحظورات غير معتادة. ووضع ذلك طالبي الفتاوى في مواقف محيّرة في أمور حياتية ودينية كانت متَبعَة في زمن ما قبل كورونا، لذا انهالت الأسئلة المطروحة على المفتين بغزارة، أغلبها يتعلق بوجوب أو عدم وجوب الالتزام بالقرارات التي تصدرها الحكومات والمؤسسات المعنية فيها بمواجهة الفيروس. ويعتبر طالب الفتوى أن الدولة المدنية هي سلطة أرضية قد تتخذ قرارات خاطئة، بينما المفتي سلطة زمنية روحية، يمكنها تعديل أخطاء الدنيويين. هذا ما جعل المفتين في وضع لا يُحسَدون عليه، يتعلّق أولاً في مجاراة ما يصدر عن المؤسسات التنفيذية المدنية وضرورة التقيّد به، وثانياً بالاستثناءات والاجتهادات الدينية التي قد تتعارض مع تلك القرارات، من قبيل صلاة الجماعة في المسجد أو المنزل، وغسل ودفن المتوفى جراء الإصابة بالوباء، أو التعقيم بالكحول أو حكم ناقل الفيروس شرعاً... إلخ.

في هذا الخصوص كان للمؤشر العالمي للفتوى (GFI)، التابع لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، دور كبير في مراقبة الفتاوى التي تم إصدراها وعرضها على المتابعين بشكل إحصائي. على سبيل المثال، أشار المؤشر إلى أن الفتاوى الواردة حول الفيروس من أنحاء العالم، 40 في المئة منها صادرة عن مؤسسات رسمية، و60 في المئة عن مؤسسات غير رسمية... ما يؤكد استغلال انتشار الفيروس من قبل التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية لترويج بعض أفكارها عبر ما يسمّى "حروب الجيل الخامس" والتي تستهدف، بحسب المؤشر، إشاعة الفوضى ونشر الرعب والذعر والتشكيك. كما رصد المؤشّر استغلال بعض المفتين أصحاب الصفحات الخاصة، انتشار الوباء للترويج لبعض العقاقير الطبية والمواد التي يشيعون باطلاً أنها تقي أو تشفي المصابين بالفيروس. فمثلاً نُشرت مقالات في العددين 220 و223 من صحيفة "النبأ" التابعة لـ "داعش" بعنوان "إن بطش ربك لشديد"، و"ضلَّ مَن تدعون إلا إياه"، أظهر التنظيم المتشدد خلالهما الشماتة إزاء انتشار الفيروس، بخاصة في الصين وإيران.


هل يُعتبر الميت بكورونا "شهيداً"؟

يُعرف مدى اهتمام المؤمنين بمعرفة ما إذا كان المتوفى شهيداً أو غير شهيد. فللشهيد تقدير ديني ودنيوي لا يتمتع به المتوفى العادي. لذا كان هذا السؤال أحد أهم الأسئلة التي طرحها جمهور المستفتين على المفتين المعنيين. فجاء رد مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية قاطعاً بأن "مَن مات بفيروس كورونا فهو شهيد، له أجر شهداء الآخرة، ويُطبَّق عليه ما يُطبَّق على أموات المسلمين من أحكام الدنيا، من غُسلٍ وتكفينٍ وصلاةٍ جنازة، لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشُّهَداءُ خمسةٌ: المَطعونُ، والمَبطونُ، والغَريقُ، وصاحبُ الهدمِ، والشهيدُ في سبيلِ اللهِ".

ثم توالت الفتاوى التي تتناول طرق العبادات بعد فرض المؤسسات الرسمية مجموعة قواعد على المواطنين الالتزام بها في مواجهة تفشي كورونا. وهكذا تكون الفتوى المؤيِّدة للقرار الرسمي بمثابة الإشعار بتنفيذه وسنداً له لدفع مجموعة غير قليلة من الناس إلى الالتزام بها، بل وصدرت فتوى بأنه يجب شرعاً على جميع المواطنين الالتزام بالتعليمات والإرشادات الصادرة عن الجهات الصحية. على سبيل المثال، لا مانع من الصلاة بالكمامة. وبلا هذه الفتوى ما كان كثر ليصلوا وهم يضعون الكمامة. بل ذهبت بعض الفتاوى إلى أن مَن نوى العمرة وفوجئ بقرار السعودية بمنع التأشيرات وإلغاء الحجوزات بسبب الفيروس فقد نال ثواب العمرة كاملةً.

ثم يأتي دور الكحول وهو المحرّم على المسلمين ليس شربه فقط، بل والاتجار به ومجالسة محتسيه، فكيف الحال مع استخدام الكحول للتعقيم؟ كان مثل هذا الأمر ليصبح شديد التعقيد بلا فتوى تشرحه، وهكذا كان: "ليس كل ما يُسمَّى كحولاً عند الكيميائيين يلزم أن يكون مُسكراً، فالمادة الكحولية التي لا إسكار فيها، وتشكلّت من مواد أخرى غير الكحول المُسكر، ولها صفات غير صفاته تُعتبر طاهرة لاستحالتها، ولا حرج شرعاً في استخدامها كمعقم للبدن أو الأسطح، وتصحّ الصلاة مع وجودها على بدن المُصلي أو في مكان صلاته".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الأولوية في العلاج

في موضوع التعامل مع مرضى كورونا كان للفتوى نصيبها في أمر شغل المؤسسات الإنسانية والمستشفيات والأطباء والحكومات بالتأكيد، أي لم تكن أولوية العلاج بحال عدم توفّره للجميع. وكان هذا الموضوع أثار نقاشاً كبيراً بعدما وضع الأطباء الإيطاليين في موقف لا يُحسدون عليه، وهو الخيار بين مريضين، وأيّهما يتلقى العلاج قبل الآخر، وعلى أي أساس تُحدَد هذه الأفضلية، حتى توصلوا إلى أن للمريض الممكن شفاؤه أفضلية على آخرين نسبة موتهم عالية، وللمريض الشاب أولوية على المسن، ويمكن بالتالي نزع آلة التنفس عن المسن ومنحها لمريض شاب وترك الأول لحال مصيره. وهذا الأمر كان من الموضوعات الأكثر تعقيداً في ما خص الطبابة خصوصاً في البلاد التي اجتاحها الفيروس من دون أن تكون مستعدةً له، أو أن القطاع الصحي فيها مترهّل. إلا أن الفتوى الشرعية أعطت رأيها في هذا الخصوص وتحديداً في أوروبا، فكان رأيها قاطعاً جازماً في كثير من النقاط المتعلقة بهذا الأمر إلى حد الدخول في التفاصيل.
وجاءت فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث على الشكل التالي "يجب على الأطباء المسلمين الالتزام بالنظم واللوائح الطبية في المشافي التي يعملون بها. فإن أوُكِل الأمر إليهم: عليهم أن يحكّموا المعايير الطبيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة. ولا يجوز نزع الأجهزة عن مريض يُعالَج بها لصالح مريض جاء بعده. أمّا إذا كان الطبيب حائراً بين مريضين بحيث لَم يَعد أمامه مجال إلا اختيار أحدهما فيقدّم الأسبق، إلّا إن كان ميؤوساً من شفائه، ويقدم مَن يحتاج إلى الإسعاف الطبي العاجل على مَن تسمح حالته بالتأخر، ومَن يُرجى شفاؤه على مَن لا يُرجى، وذلك بغلبة الظن والتقدير الطبي".

تفتقر الإجابة إلى تصوّر صحيح للموضوع وتعقيداته التي تتعلق بحقول علمية أخرى، كالصحة العامة والأخلاقيات الطبية، فضلاً عن قواعد الموازنة في الفقه الإسلامي التي تغيب هنا. فالأسبقية هنا لا تتضمن قيمةً معيارية، لأن المفتي بها يخلط بين الأسبقية التنافسية في فعل الخير، حيث العامل الزمني له قيمته في المفاضلة بين الأفراد، وبين الأسبقية في وصول مريضٍ إلى المستشفى وهي مسألة إجرائية عارية عن القيمة.

دخلت الفتوى الشرعية عالم الإنترنت بشكل كبير وبات بإمكانها تسيير حياة ملايين البشر في كل مكان، وها هي في زمن كورونا تدعم المؤسسات الرسمية في الدول الإسلامية، وبل تعطي الإرشادات للمؤمنين في كيفية متابعة حياتهم في مواجهة تفشي الفيروس.

المزيد من صحة