Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عزلة كورونا... "عالم الفردية" المتسع

"ممارسة التمارين الرياضية مفتاح الراحة الجسدية والعقلية أثناء فترة الحجر الصحي"

تكريم الجسم الطبي بزهور التوليب لشكره على جهوده بمحاربة كورونا في روما (أ.ف.ب)

لم يعد الجدل قائماً حول أن الإنسان "كائن اجتماعي"، حُسم هذا الأمر من زمن بعيد، إذ تفضّل الجماعات البشرية العيش جنباً إلى جنب، وهذا ما يبرر كون ثلثي سكان العالم يعيشون في المدن، ويطلقون على القرى والبلدات البعيدة عبارة "المناطق المنعزلة" أي البعيدة من "الحضارة"، فقد بات الأصل هو العيش في المدن، أما الاستثناء، فهو الخروج منها.

العزلة أو اعتزال البشر الذي كان قراراً فردياً وشخصياً، يتخذه الفرد لأسباب خاصة، كالابتعاد عن ضجيج المدن وتلوّثها مثلاً، أو للاسترخاء في الطبيعة وزراعة الأرض والاختلاء بالنفس، بات الآن بعد تفشّي فيروس كورونا قراراً جماعياً إجبارياً في عددٍ كبيرٍ من دول العالم، فعاد الأشخاص إلى بيوتهم وبين جدرانها، مرغمين على الاعتياد على نمط جديد من الحياة الفردية المنعزلة كان قد أصبح منقرضاً في الفترة الماضية أو منذ انطلاق الثورة الصناعية قبل قرنين، حين بدأت المسافات والحدود تتقلّص بين البشر والدول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عزلة وسائل التواصل

إلّا أنّ عزلة بشر ما بعد كورونا، لم تعد عزلة بالمعنى الحرفي للكلمة في ظل وجود الإنترنت وأجهزة الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي، فالجالس في غرفته بين أربعة جدران حاملاً هاتفه النقّال متواصلاً مع آلاف البشر المنتشرين في أصقاع العالم، هو معتزل جسمانياً، ولكنه في زحمة الجماعة وتواصلها ذهنياً، حتى إنّ بعض علماء النفس والاجتماع كانوا قد أشاروا إلى هذا النوع من العزلة الجديدة قبل الحجر الصحي الإجباري بسنوات كثيرة، وهذا ما يطرح سؤالاً، هل فعلاً يعيش الأفراد في عزلة حقيقية في زمن كورونا الحالي؟ فوسائل التواصل الاجتماعي، ليست فقط نقطة اتصال دائمة وملحّة، ولكنها كذلك أكبر غواية للانخراط والتفاعل، وبسببها باتت البشرية أقل قدرة على اختبار مبدأ العزلة الحقيقية.

لطاما رأى بيار بورديو، السوسيولوجي الفرنسي، في وسائل التواصل الاجتماعي أدوات للقمع الرمزي، مستخدماً تعبيراً جديداً "الهابيتوس" (L’HABITUS)، بوصفه مفهوماً مركزياً يشير إلى عقلية تسود في الجماعة، لتشكّل منطق رؤيتها للكون وللعالم، وطاقة فعلية توجه الجماعة وتقود أفرادها، وبرأيه أن هذا ما يحدث الآن للبشرية خلال فترة الحجر، إذ ترتفع نسبة التواصل عبر هذه الوسائل ما يشكّل وعياً جماعياً "قطيعياً" (من قطيع)، يتأثر بشكل كبير في كل ما يروّج له عبر هذه الوسائل ويتصرف على أساس هذا التأثير.

إيجابيات عزلة كورونا

قبل عزلة كورونا، كان كل فرد يحاول "منتجة" فيلم حياته عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالطريقة التي يريدها، فتنتشر صور السهر والحفلات والسفر من أجل السياحة وتجمعات الأصدقاء وغيرها، أي إبراز نشاطاتنا في الخارج وإخفاء ما نفعله في الداخل (المنزل، العمل، اليوميات). أما اليوم، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي ذاتها باتت تنقل إلى الخارج ما يحدث داخل المنزل وداخل الذات الشخصية ذهنياً، وفي اليوميات الدقيقة لمدة العزل، فمثلاً، اكتشف كثر من المعتزلين في أنفسهم مواهب لم يعرفوها موجودة فيهم في حمأة الحياة السريعة والعمل والتنقل من مكان إلى آخر، فسمحت العزلة باكتشاف موهبة الطبخ لدى عددٍ كبيرٍ من المحجورين في منازلهم، وهؤلاء يشكّلون الطائفة الأكبر داخل منظومة "الإنترنت".

ففي كل يوم، تُنشر الصور والفيديوهات لأكلات جديدة وطبخات مختلفة تعلّمها الأشخاص في عزلتهم. البعض تعمّد تعلّم مهارة جديدة لم يكن يتصوّر أنه سيتقنها يوماً، مثل العزف على آلة موسيقية أو الرسم أو القراءة بِنَهَم، أو إنجاز أعمال حرفية بسيطة وربما إعادة ترتيب ديكور المنزل أو المكتبة أو الحديقة. وكثيرون عادوا إلى اكتشاف أمور كانوا قد أهملوها، منها الصور العائلية الكرتونية التي كادت أن تنقرض مع سيطرة "الديجيتال"، فيما اكتشف آخرون العائلة بحدّ ذاتها من الأهل والزوجة والأولاد، وبعض فروع العائلة الذين كانوا قد ابتعدوا عنهم في خضمّ عالم العمل السريع و"البحث عن الرفاه" الذي سيطر على المجتمعات وعلى شكل العلاقات بين الأفراد في مرحلة ما قبل كورونا، في وقتٍ يردّد كثيرون أنّ العزلة عرّفتهم بأصدقائهم الحقيقيين، وأظهرت لهم أولئك المزيّفين، إذ إنّ المحن تكشف الأقنعة.

سلبيات العزلة

لكن للعزلة سلبياتها أيضاً، وذلك بحسب المجتمعات وثقافاتها وتقاليدها، فقد بيّنت نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "كايزر فاميلي" أن الوباء أثّر في الصحة العقلية لحوالى نصف الأميركيين، إذ إنّ المنزل "ليس مكاناً آمناً لأشخاص كثيرين، وسترتفع نسب الانتحار لأنّ الأفراد سيجدون أنفسهم وحيدين ومعزولين، وتشكّل العزلة المنزلية لهؤلاء وضعاً من عدم الاستقرار"، بحسب محلّلين نفسيين أميركيين.

وقد أوضحت إحصاءات في دول كثيرة، زيادة العنف المنزلي بسبب الحجر الصحي المفروض، ففي لبنان مثلاً، سجّلت الاتصالات على الأرقام الساخنة الموضوعة في خدمة المعنّفات منزلياً، ارتفاعاً بنسبة مئة في المئة. وهذا يعني أن هناك عدداً أكبر أو مضاعفاً من المعنّفات اللواتي لم يتصلن طلباً للمساعدة، إذ إنّ التبليغ عن مثل هذه الأمور ما زال أمراً معيباً اجتماعياً في مجتمعاتنا. أما في ألمانيا، فقد أعلنت وزيرة الأسرة الألمانية فرانتسيسكا غيفي أنها تلقّت من برلين تقريراً يفيد بزيادة بلاغات العنف المنزلي بنسبة 10 في المئة في أسبوع واحد، معلنةً أن الخط الهاتفي المخصص لتلقي الاستغاثات بسبب العنف المنزلي سجّل ارتفاعاً بنسبة تزيد على 20 في المئة، سواء من الأطفال أو الآباء والأمهات.

نصائح من المجرّبين

في غمرة الحجر الذي لا يُعرف تاريخ لنهايته، ظهر عددٌ كبيرٌ من المقالات ومقاطع الفيديو التي يقدمها أشخاص جربوا العزلة لفترات طويلة ليعرضوا تجربتهم على المعزولين كي يضمنوا فترة عزلة هادئة. ومن هؤلاء، رواد فضاء وسجناء سابقون.

يقول سكوت كيلي، رائد الفضاء المتقاعد، الذي أمضى حوالى سنة في محطة الفضاء الدولية، إنّ الأفراد بحاجة إلى تحديد توقعات صحيحة، "فنحن لا نعرف متى سينتهي كل هذا. لذلك أقول لنفسي، إنه عليّ أن أعيش بطريقة مشابهة للعيش في الفضاء لمدة عام، لذا أحتاج إلى وضع جدول زمني، والنوم والاستيقاظ في وقت منتظم"، وبرأيه أن "ممارسة التمارين الرياضية هي مفتاح الراحة الجسدية والعقلية أثناء فترة الحجر الصحي الإلزامي".

"مهمة شخصية"

فنسان لارنودي إيفل، القائد السابق لغواصة نووية، يقول إنه يجب لتمرّ الأمور بسلاسة خلال فترة الحجر، تحديد "مهمة شخصية" والغوص فيها. أما البحّارة إيزابيل أوتيسييه التي تُعدُّ المرأة الأولى التي تنجح في جولة حول العالم وحدها، وقد تحتّم عليها قضاء وقت كبير بمفردها، فقد قالت إنها لم تشعر بالوحدة مطلقاً لأنها لم تسترسل بالتفكير في الأيام المقبلة، ونصحت الجميع "بعدم حساب الأيام". أما كيلي، فقد قدّم بعض النصائح الثمينة إلى من اضطّرهم الوباء للبقاء في المنزل "ضع خطة ونفّذها"، ثم "استمتع بوقتك بممارسة أنشطة ترفيهية".

الناشط البورمي بو كيي يقول إن أموراً عدّة ساعدته في تحمّل فترة السجن الطويلة، منها أولاً، "تقبّل واقعه وتفادي الأنباء السلبية للحفاظ على معنويات مرتفعة، وممارسة التأمل والمشي 6000 خطوة يومياً للحفاظ  على صحة جيدة"، والنقطة الأهم هي تفادي التركيز على تاريخ إطلاق سراحه، ويعتبر أنّ ما تقدّم، ينطبق أيضاً على مرحلة العزل بسبب الوباء الذي لا يُعرف تحديداً تاريخ القضاء عليه.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل