Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لبنان دخل دوامة ربط المساعدات الدولية بالتعيينات المالية

سقوط التسوية بين عون والحريري أطلق صراعاً بلا رجعة على النفوذ في الإدارة

شارع الحمراء خالياً من رواده بسبب كورونا (غيتي)

الخلاف بين القوى السياسية اللبنانية على التعيينات المالية، بات يختزل الصراع السياسي في البلد على الرغم من سحبها من التداول من قبل رئيس الحكومة حسان دياب الأسبوع الماضي، في ظل أزمة كورونا والأزمة الاقتصادية المالية التي سبقت ظهور الفيروس القاتل الذي أضاف أسباباً إلى قلق اللبنانيين وتوترهم بفعل تراكم المآزق التي تحيط بهم.

لكن تنافس القوى السياسية على المواقع في مؤسسات الدولة اللبنانية أخذ بعداً آخر أكثر حدة وعنفاً كلامياً، حين بات الأمر يتعلق باختيار نواب حاكم مصرف لبنان المركزي الأربعة، وهيئة الرقابة على المصارف في المصرف المركزي ومفوض الحكومة فيه، وهيئة الأسواق المالية.

فالخلاف في هذا المجال، هو أكثر من تناحر على الحصص وتنافس على زرع أزلام هذا الفريق أو ذاك لأسباب نفعية في مناصب إدارية عليا.

 وبات معروفاً أن فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و"التيار الوطني الحر" الذي يرأسه صهره النائب جبران باسيل يسعى منذ سنوات إلى التحكم بالقرار المالي عبر مطالبته بتغيير حاكم المصرف المركزي رياض سلامة الذي يحظى بتأييد رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، لا سيما أن والده الراحل رفيق الحريري هو من أتى به إلى هذا المنصب منذ التسعينيات، لينفذ وإياه سياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية.

طموحات الرئاسة

تقوم سياسة "التيار الحر" على مبدأ الإفادة من رئاسة عون للجمهورية من أجل السيطرة على المفاصل الأساسية في الجسم الإداري للدولة، تحت شعار "استرداد حقوق المسيحيين" التي يرى مع غيره من القادة المسيحيين أنها هدرت أيام الوصاية السورية فاستحوذ عليها حلفاء دمشق إبان نفوذها في لبنان.

إلا أن لدى "التيار الحر" مبرراً إضافياً يتجاوز الموقف المسيحي العام الساعي إلى تبديل من تولوا مواقع مسيحية في الإدارة أيام الوصاية السورية.

فالإمساك بالمفاصل الإدارية بالنسبة إلى باسيل يتعلق أولاً بتثبيت نفوذ فريقه من دون غيره من الفرقاء المسيحيين فيها، وثانياً بطموحه إلى رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية عمه الرئيس عون بحيث يبقى متحكماً بالنفوذ في الإدارة سواء تحقق هذا الطموح أم لم يتحقق. وسلامة إحدى الشخصيات المارونية التي طرح اسمها مرات عدة كمرشح منافس لرئاسة الجمهورية خلال العقدين الماضيين.

التغيير في مصرف لبنان بعد سقوط التسوية

الحملة على حاكم مصرف لبنان، لتغييره مرت في السنوات العشر الماضية بموجات، فكانت تتصاعد حيناً وتخفت حيناً آخر نتيجة "التسوية" الشهيرة بين عون وباسيل مع الحريري على رئاسة الأول للجمهورية منذ عام 2016، حيث كان بقاء سلامة في منصبه موضوع مساومة بين الجانبين، مع استخدام باسيل مطلب تغييره ورقة ضغط على الحريري للحصول على مكاسب في تعيينات أخرى سواء في المواقع المالية أو غيرها في الإدارة، أو في صفقات على مشاريع استثمارية، إلى أن وقع الخلاف بينهما بعد الانتفاضة الشعبية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث عاد "التيار الحر" وعون إلى التركيز على شعار تحميل سياسات الثلاثين سنة الماضية مسؤولية التدهور المالي الاقتصادي، أي الحريرية السياسية.

وأخذت الحملات المتبادلة منحى تصعيدياً بين الجانبين بدا معه صعوبة خط الرجعة في المدى المنظور، بعد أن رد الحريري في استقالته عجز حكومته عن تحقيق الحلول للأزمة الاقتصادية إلى سياسة الاستئثار والتعطيل التي مارسها باسيل و"حروب الإلغاء" التي خاضها ضد الفرقاء المسيحيين الآخرين وقوى أخرى.

بات الصراع استحالة قبول الحريري بباسيل مرشحاً للرئاسة الأولى، واستحالة قبول عون و"التيار الحر" بعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة.

التطويق بدل التغيير

وصار هدف باسيل تطويق سلامة عبر التعيينات في مناصب نواب الحاكم الأربعة الموزعين طائفياً وهيئة الرقابة على المصارف، بدل تغييره في هذه الظروف المالية الصعبة في لبنان لأن استبداله قد يزيد من حدة الأزمة المالية والنقدية الحادة الناجمة عن إفلاس الدولة والمصارف وشح الأموال في المصرف المركزي.

لم تنفصل حملة "التيار الحر" على محمد الحوت رئيس مجلس إدارة شركة طيران الشرق الأوسط التي يملك مصرف لبنان المركزي السواد الأعظم من أسهمها، عن الحملة على سلامة الذي عين الحوت قبل نحو 20 سنة حين استحوذ على ملكية هذه الأسهم لإنقاذها من الإفلاس.

وبلغت الحملة ذروة جديدة في الأيام الماضية لمناسبة الانتقادات التي وجهت إلى الحوت على الأسعار المرتفعة لبطاقات سفر المغتربين والطلاب اللبنانيين العائدين من الخارج في إطار خطة الحكومة إعادتهم إلى البلد في ظل انتشار وباء كورونا في الدول التي هم فيها.

التدخل الأميركي 

لكن الصراع على التعيينات المالية أخذ بعداً آخر أكثر تعقيداً بسبب علاقتها بصلات المصرف المركزي مع النظام المالي العالمي، والعقوبات المصرفية الأميركية المتشددة ضد حزب الله لقطع وسائل تمويله، في إطار العقوبات القاسية على إيران وأذرعها في المنطقة، حيث لم تخف الإدارة الأميركية تمسكها بسلامة (تنتهي ولايته عام 2022) في حاكمية المصرف المركزي باعتباره ضمانة للالتزام في تطبيق هذه العقوبات وكذلك بنائبه المنتمي إلى الحصة السنية محمد بعاصيري والذي انتهت ولايته قبل زهاء سنة.

لم تخف السفارة الأميركية في بيروت رغبتها في التجديد لبعاصيري في منصبه في لقاءات السفيرة الجديدة دوروثي شيا مع عدد من كبار المسؤولين والوزراء، ما دفع الحزب على لسان أحد نوابه حسن فضل الله إلى إصدار بيان عنيف السبت الماضي دان فيه التدخل الأميركي في التعيينات المالية وإصرار السفيرة على التجديد لبعاصيري، من دون أن يسميه.

ومع أن المتحدث باسم السفارة في بيروت كايسي بونفيلد رد على التهمة بالتدخل بالقول إن "التعيينات في المصرف المركزي شأن لبناني"، فإنه لم يخف التأكيد أن "من الطبيعي أن تقدم الولايات المتحدة، كصديق وشريك للبنان، نصائح بشأن تعيين خبراء كفوئين موثوق بهم ومشهود لكفاءتهم من أجل إعادة الثقة الدولية في النظام المصرفي اللبناني".

وهاجم حزب الله، مجدداً اتهامه بالإرهاب، معتبراً أن "الإشاعات التي يطلقها عبر اتهامنا بالتدخل في التعيينات في مصرف لبنان هدفها تضليل الشعب اللبناني كي يستمر الحزب في تحقيق مصالحه بدل التفكير في تحقيق مصالح اللبنانيين".

يتلاقى الموقف الأميركي في شأن التعيينات المالية مع معلومات مصادر متعددة قالت لـ "اندبندنت عربية" إن الدبلوماسية الأميركية قدمت "نصائحها" للمسؤولين اللبنانيين بالتشديد على أن البلد يحتاج لمناسبة التعيينات المالية، إلى من يمكنهم إثبات قدرتهم على تطبيق القوانين الدولية ومخاطبة المجتمع الدولي والهيئات المالية الدولية التي يفترض أن تقدم المساعدة المالية التي يحتاجها لبنان في إطار خطة إخراجه من الأزمة الاقتصادية المالية الحادة والمصيرية التي يمر بها.

دوامة التعيينات المالية والمساعدات

ويشير من يؤيدون بقاء بعاصيري في موقعه إلى أن الأخير لعب مع سلامة، نتيجة علاقة الثقة بينهما وبين السلطات الأميركية المالية، دوراً لمصلحة لبنان في التخفيف من بعض العقوبات التي كانت إدارة الرئيس دونالد ترمب تنوي إصدارها حيال بعض المصارف اللبنانية والتي تنهك النظام المصرفي اللبناني فوق الصعوبات الكبرى التي وقع فيها.

ولولا دور سلامة وبعاصيري لكان عدد المصارف التي فرضت العقوبات تصفيتها، أكثر من البنك اللبناني الكندي (عام 2013 ) الذي عاد قاضٍ فيدرالي أميركي فبرّأه السنة الماضية، من تهمة تمويل الإرهاب والحزب، و"جمال ترست بنك" الذي جرى تصفيته العام الماضي نتيجة اتهامه من الخزانة الأميركية بتبييض أموال لمصلحة مؤسسات تابعة للحزب. 

وفي وقت يكتنف الغموض مصير التعيينات المالية بعد تأجيلها من قبل رئيس الحكومة حسان دياب بفعل الخلاف على المحاصصة التي غلبت عليها، في انتظار تسوية ما على ملء الشواغر في مواقعها، فإن العامل الخارجي الذي دخل عليها بقوة أفضى إلى دوامة تحتاج إلى ما يفوق المساومات الداخلية بين فرقاء الصراع المحليين عليها.

فلبنان يطلب مساعدات مالية خارجية عاجلة تضخ مليارات العملات الأجنبية في اقتصاده من أجل ردم الهوة المالية التي أوجبت عليه قرار عدم سداد ديونه بسندات يوروبوندز في 7 مارس (آذار) الماضي لمصلحة التفاوض مع الدائنين على إعادة هيكلة الدين (زهاء 31 مليار دولار) في إطار خطة إصلاحية لخفض نفقات الخزينة... تفرض استعانته بصندوق النقد الدولي واستفادته من تسهيلات البنك الدولي من أجل تنشيط وتحفيز اقتصاده، تمهيداً للإفادة من مبالغ استثمارية قررها مؤتمر "سيدر" عام 2018 ، قيمتها 11 مليار دولار.

والاجتماع الذي عقده عون ودياب الاثنين الماضي مع "مجموعة الدعم الدولية" للبنان التي تضم الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ومنها أميركا، ركز في مداخلاتهما وسائر الوزراء المعنيين، على أن "برنامج الحكومة الإصلاحي يحتاج إلى دعم مالي خارجي".

لكن كل ذلك يحتاج إلى ضوء أخضر أميركي لموافقة المؤسسات المالية الدولية وبعض الدول، على صرف هذه الأموال. وهذا الضوء الأخضر الأميركي مرتبط بشرطين جوهريين: اقتناع واشنطن والمجتمع الدولي بجدية الخطة الإصلاحية التي تنوي الحكومة إنجازها، والحاجة الملحة لأن تكون أدوات تنفيذ هذه الخطة في شقها المالي جاهزة للمضي فيها، عبر ملء الفراغ في المؤسسات المالية وفي طليعتها مصرف لبنان المركزي، حيث لواشنطن معاييرها للتعيينات فيه.

وهذا يعني أن التعيينات المالية تحتاج إلى تسوية داخلية حول أشخاصها، وإلى تسوية خارجية أيضاً"، حيث يربط البعض حصولها بمجريات الصراع الأميركي الإيراني. ولهذا حديث آخر.

المزيد من آراء