Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صحافيو كورونا... في الخطوط الأمامية

يُعدُّ توخي الحذر واجباً ولكن السودانيين يعانون من ضرورة التباعد في مجتمع بعيد عن الخصوصيات

توعية صحية عامة في مخيم مانغاتين للنازحين في جوبا السودان منعاً لانتشار كورونا (أ.ف.ب)

تجاوز دور الصحافيين الذين يغطون تفشي جائحة كورونا (كوفيد - 19)، نقل الصورة الصحيحة عن الواقع الموجود إلى الحرصِ على سلامتهم. ومع وجود حكوماتٍ على مستوى العالم لا تُبدي كثير اهتمامٍ بالإنفاق على النُظم الصحية، يتضاعف العبء على الصحافيين في إيصال الرسالة للجمهور. ويشبه هذا ما يعانيه المراسلون الصحافيون من ميادين الحروب والأزمات.

صورة أوصلت إلى الانتحار

ففي آخر رسالة له قبل أن ينتحر عن عمر 33 سنة، كتب المصوّر الصحافي الجنوب أفريقي كيفن كارتر: "صور المجازر والجثث والغضب والألم والأطفال الجائعين والمجروحين لم تغادرني ولم أستطع الفرار منها… ألم الحياة فاق بهجتها إلى حدّ أنَّ البهجة انعدمت". ونال كيفن شهرته بعد أن فاز بجائزة "بوليتزر" الأميركية على صورة التقطها لطفلة سودانية في مجاعة 1993، وهي تزحف للوصول إلى مخيّم الإغاثة في جنوب السودان، ويترصدها نسر ينتظر موتها. وعلى الرغم من نيله الجائزة، إلا أن كيفن وُوجِه وقتها بسيلٍ من الانتقادات لأنه وقف يتفرج على الطفلة حتى وصلت زاحفة إلى الوضعية المطلوبة التي تسنى له التقاطها. وعلى الرغم من أن الطفلة وصلت المخيم سالمةً ولم يصبها النسر المتربص بأذى، إلا أن التعليقات انحصرت في أنه كان بإمكانه إنقاذ الطفلة وتوفير الجهد الذي بذلته وهي ضعيفة وجائعة وتحتاج إلى العون أكثر مما تحتاج إلى صورة. من ناحية أخرى، رأى آخرون أن الصورة لفتت أنظار العالم إلى المجاعة وأسهمت بتعجيل المساعدات والإغاثة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه الصورة أوصلت درجة تأثيرها بتضامن الصحافي مع ضحايا المجاعة، ولكن ما حدث له بعدها من آثار نفسية أوصلته إلى الانتحار، شجعت وسائل الإعلام العالمية باتخاذ قرار بضرورة التريُّث عند بث أو نشر الصور الدموية أو العنيفة، بحجة أن مثل هذه الصور قد تكون قاتلة، للصحافي أو المشاهدين. ومن هنا نبعت ضرورة الموازنة بين الواجب الصحافي في ظل حالات الهلع والمحافظة على السلامة الشخصية.

السلامة أولاً

عندما فاجأ وباء كورونا العالم بما فيه الصحافيين، كاشفاً عن نقاط الضعف الكامنة في النُظم الصحية، اختبر القدرات الإعلامية أيضاً، ليس في التغطيات باعتبار أن هؤلاء مهيأون لكل الميادين والأزمات، ولكن الأزمة كانت في أن الواقع المترابط والقائم على التواصل، اضطر بشكل متسارع ومفاجئ إلى فرض واقع آخر هو العزلة والتباعد، ما صعَّب المهمة الإعلامية. فالصحافيون وعند الحصول على قصة تحريرية أو تغطية صحافية يتعاملون مع أكثر من هدف، والهدف هنا عدو متربّص وعلى جبهات مفتوحة عدة، أولها أن كورونا الذي لا يزال في حالة العدو الخفي، ما يستوجب تفعيل مبدأ السلامة أولاً. ثانياً المعلومات المغلوطة والإشاعات صعّبت الدحض إلا بمزيد من المعلومات التي تفوق قوتها قوة الإشاعة. ولأن المعلومة الحقيقية تحيطها ألغاز تستوجب التفسيرات من مختصين أطباء ورسميين ومن مروا بالتجربة نفسها، فينشأ الصراع بين الحقيقة والإشاعة. كما أن للمأسة بُعداً نفسياً في الميل لتفسير الظاهرة الغريبة بشيء أكثر غرابة. 

وقد لفتت الأوبئة السابقة مثل تفشي فيروس الإيبولا في غرب أفريقيا ووسطها، ومتلازمة سارس ووباء الكوليرا، النظر إلى التحدي الذي يواجه وسائل الإعلام الإخبارية، وما فرضته من مخاطر إضافية على المراسلين والمصورين الذين يغطون تلك الأحداث. فأصدرت منظمة الصحة العالمية أنه ينبغي على كل صحافي ينوي تغطية تفشٍ وبائي أو طارئ صحي من صنع الإنسان، أن يتمتع بصحة جيدة وبجهاز مناعي غير منقوص، ولا يعاني من حالة صحية قد تجعله عرضة للمرض.

تغطيات تجاوزت التحذيرات

وتجاوزت تغطيات مكافحة كورونا الأحداث التي تنطوي على الإرهاب البيولوجي وحالات الطوارئ الكيماوية والإشعاعية، وحالات تغطية الحروب والنزاعات التي يتساوى فيها مبدأ السلامة أولاً، على الرغم من تفاوتها في الحالات المختلفة. ففي عام 2018 أُطلق فيلم "حرب خاصة" الذي يروي حكاية الصحافية الأميركية ماري كولفن مراسلة الـ"صنداي تايمز" البريطانية، والتي قُتلت مع الصحافي الفرنسي ريمي أوتشليك في 22 فبراير (شباط) 2012 في غارة شنها الجيش السوري على حمص أثناء الحصار. وكانت كولفن التي وصلت المدينة المحاصرة عبر الأنفاق، قد قامت بمهمام صحافية عدة، وتمكنت من الدخول إلى مخيّم للاجئين الفلسطينيين في لبنان أثناء الحرب الأهلية عام 1987، الذي كان محاصراً من قبل مسلحين سوريين. ثم في سيرلانكا عام 2001 حين تعرّضت إلى انفجار قنبلة أثناء مرافقتها للمتمردين التاميل، أفقدها البصر في إحدى عينيها وظهرت بعدها كولفن وهي ترتدي عصابة العين التي اشتهرت بها. كما تم إيراد مهمتها الصحافية في العراق في البحث والكشف عن المقابر الجماعية، ومرافقتها للجيش الأميركي في أفغانستان، ومهمتها تحت النيران الكثيفة في مصراتة الليبية، وتغطياتها للحرب في يوغسلافيا وتيمور الشرقية والشيشان. وتقول ماري في أحد المشاهد: "أكره أن أكون في منطقة حرب، ولكنني أشعر أنه لا بد لي أن أرى ما يحدث بنفسي". والآن نجد أن التغطيات الآنية في ظل مكافحة كورونا قد تجاوزت تلك التحذيرات أيضاً، وإن كان من واجب الصحافيين أن يغطوا كل شيء مع كثير من الحرص.

بين نارين

ويتفاوت نجاح الصحافيين في تغطياتهم المتعلقة بالأوبئة، اعتماداً على الخبرة ثم على طرق جوانب جديدة. فمن بين كل الأوبئة والأمراض المعدية يُعدُّ توخي الحذر واجباً، إذ إن بعضها يكون عامل الخطر فيه كبيراً والتهديد قائماً. بالنسبة لكورونا فإن الفترة المُحتملة لفعالية عامل الخطر مستمرة، وللإحاطة بتأثيراتها لا بد من تدابير وقائية. وبينما تسعى المواقع الإخبارية والمؤسسات كافة للحاق بالمعلومات في زمن وجيز في كل الميادين، فإن المواضيع الصحية تتسم بشح المعلومات المتوافرة نظراً لارتباط الأخبار فيها بعلماء وأطباء ومراكز بحثية، تتأنى في نشر المعلومات أو التصريح بها ما لم تصل إلى نتيجة حاسمة بعد الاختبار والبرهان. والصحافي هنا  يقف بين ناري أصحاب المعلومة والجمهور، ومن هنا بات إحداث التوازن بين سرعة نقل المعلومة والتأكد من صحتها أمراً ضرورياً. كما أن العمل ضد تيار الإشاعات الذي أصبح ملازماً للأزمات الكبرى يحتاج إلى طاقة قصوى، خصوصاً أن كثيراً من المتلقين يحبون هذا النوع ويتلقفونه، ثم يقومون بدورهم بنشره مرة أخرى.

تعتيم إعلامي

هناك أيضاً قضية التعتيم الإعلامي الرسمي مثلما حدث في إيران، فإن السلطات هناك أخفت ظهور حالات كورونا، والتي جرى الاعتراف بتأخرها بعد ذلك بأن ظهور الفيروس كان منذ يناير (كانون الثاني) من هذا العام، إلا أن الحكومة بأمر من المرشد علي خامنئي عملت على إخفاء الحالات حتى تنتهي فترة الانتخابات البرلمانية. في هذه الحالة وفي ظل نظام ديكتاتوري ومع عدم وجود صحافة مستقلة، فقد تعذر معرفة الحقائق والمعلومات بشكل دقيق، حتى تدخلت منظمة الصحة العالمية وقامت برصد الإحصاءات، فوجدت أن هناك تناقضاً واضحاً بين الأرقام التي تعطيها السلطات الإيرانية عن عدد المصابين، والأرقام الكثيفة التي تعكس عدد المتوفين.

عادات مُعيقة

ومن المصاعب التي يواجهها الصحافيون في تغطية الأوبئة هي عادات البشر عند أغلب المجتمعات. فمثلاً يعاني السودانيون من ضرورة التباعد في مجتمع ليس فيه حدود حتى في أدق الخصوصيات. ومن عادات المجتمع السوداني وإيجابياته المشاركة الواسعة في الأحزان والأفراح والمناسبات الدينية على اختلاف مذاهبها وطرقها، وعلى اختلاف القبائل والمجتمعات وطقوسها يتفنَّن السودانيون في هذه التجمعات. أو حتى في الشارع العام فالتحرك يكون في شكل جماعات ولا يكون فردياً إلا نادراً. خلقت هذه السمات التي كانت ميزة اجتماعية وشعبية كبرى فيما قبل تحدياً، ما يساعد في نقل الفيروس بشكل أسرع وعلى نطاقات أوسع. أما التحدي الأكبر فهو ما تواجهه الطواقم الطبية والمؤسسات الصحية من كثرة أعداد المرافقين للمشتبه فيهم بحالة كورونا، بالتالي تصعب التغطيات الصحافية في مثل هذه الحالات إلا بكثير من التدابير الوقائية.

وبما أن كل الظروف تغيرت بتغير شكل العالم وما فرضه من ضرورة التأقلم مع الوضع الجديد في مكافحة الجائحة، وتغيرت تبعاً لذلك ظروف عمل الصحافي، فنجد أنه أثناء تغطيته يلعب دوراً توعوياً إضافة إلى محاربة الجهل والإشاعات. ففي السابق كان المراسل مسؤولاً عن حياته، الآن هو مسؤول عما يقدمه إضافة إلى مسؤوليته عمن يخالطه، ولذلك بات الصحافي من أوائل المتأقلمين مع الوضع الجديد وجنباً إلى جنب مع الأطباء والمعالجين الصحيين، في خطوط النار الأمامية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات