يمثل القاص الفلسطيني زياد خدّاش (مواليد القدس 1964) تجربة متفردة في السرد القصصي الفلسطيني والعربي، فهو منذ بدايته بدا ممتلكاً أدواته، بل مشروعَه السردي برؤية مختلفة ومتميزة، منذ "موعد بذيء مع العاصفة" (1998)، و"خذيني إلى موتي" (2005)، و"إذا لم تكن لك حبيبة" 2008، و"غارقون بالضحك"، و "أسباب رائعة للبكاء" (2015)، ومجموعة "أن تقَعي أرضاً ويكون اسمك أماني" (2013)، وغيرها، وصولاً إلى هذه المختارات ذات العنوان الغرائبي اللافت والمثير "هل قتلت "مُخللات فرَج" محمود درويش؟" التي نقف مع بعض نماذجها، لكشف بعض ملامحها ومعالمها الموضوعية والفنية.
مختارات زياد خدّاش هذه، الصادرة حديثاً ضمن سلسلة "مختارات العائدون" الإبداعية العربية التي أطلقتها دار العائدون - عمان، تضم سبعاً وعشرين قصة جرى انتخابُها من عشر مجموعات قصصية صدرت بين عام 1998 وعام 2019، وهي مزيج من صوَر كتابته في مجموعاته، فنحن هنا سنراه كما يظهر في تلك المجاميع كلها. هنا ستظهر في قصصه العلاقة بين الواقعي والمتخيل، كما تظهر في قصصه ونصوصه عموماً. يصعب الفصل أو التمييز بين العالَمين، الواقعي والمتخيل، حيث درجةُ التخييل تبلغ حدود الفانتازيا والعبث، من جانب، ومن جانب آخرَ فهي تبدو شديدة الواقعية، كما أن أي حادث واقعي يبدو شديدَ الغرابة، وغيرَ قابل للتصديق.
هي قصص جديدة في تناول وسرد "الحكاية" الفلسطينية، أو "رواية/ سردية" الإنسان الفلسطيني، من دون التخلي عن الفكرة الأساسية في هذه الرواية/ الحكاية، الفكرة القائمة على استحضار صوَر الاحتلال وممارساته، في كل حادث أو حديث في حياة الفلسطينيين، حيث الوجود الهمجي النفاذ لهذا الاحتلال وجنوده، حتى في الهواء الفلسطيني. كما أن الكتابة هنا، ليس فيها أي فاصل حقيقي بين الهم الخاص/ الفردي والهم الوطني العام/ الجمعي، على الرغم من انطلاقها من الخاص، والذاتي في أغلب الأحيان.
يُدهشكَ الكاتب، في غالبية قصصه، كونُه "بطلاً" دائماً لنصوصه وحوادثها ذات الصبغة الغرائبية، ما يجعل القارئ يتشكك في قدرة كاتب واحد على أن يكون حاضراً في هؤلاء الأشخاص جميعاً، ويتقمصهم كما هي حال "بطل" قصصه، القصص المخادعة، خدعة لذيذة وعميقة ومعبرة. وهو بذلك يخلق الانطباع بمدى انخراط الكاتب في مجتمعه، في البيت والمدرسة والمقهى والشارع، وهو انخراط عميق، وقادر على احتواء هموم الناس ومعاناتهم في نصوصٍ تنطوي على جماليات عالية لغةً وتصويراً وتشبيهات غير مألوفة.
وبدءاً من العنوان اللافت والمدهش للمختارات "هل قتلتْ مخللاتُ فرج محمود درويش"، يبدو المزاجُ المختلف للكاتب أولاً وأساساً، ولـ"بطل" القصة فرَج ثانياً، مزاج يجمعُ بين عالَمَين يبدو أنهما متباعِدان، إذ كيف تستطيع قصة الجمعَ بين عالَم شاعرٍ بوَزن محمود درويش، هذا الشاعر العالَمي، وبين "فرَج" آذن المدرسة التي يعمل فيها "الأستاز"/ الراوي. سر هذه العلاقة، ولا نعرف مدى واقعيتها أو حقيقيتها، هو ما يقوله فرج بنفسه "أستاذ أنا اشتغلت في مطعم "الفلاحة" سنين طويلة، وكان محمود (درويش) الله يرحمه دائم التردد هناك، وكان يسأل وهو يأكل بتلذذ: من صنع هذا المُخلل؟ فيشيرون نحوي، ينظر إلي وهو يبتسم، ويشكرني". ويرد عليه القاص "فرج صديقي يؤسفني أن أقول لك إن المخلل سببٌ رئيس للنوبات القلبية". فيسأله "شو بتقصد يا أستاذ؟"، فيجيب ببساطة "يعني مخللاتك هي التي قتلت محمود (درويش) يا فرج". جُن جنون فرج، "أستاذ شو بتحكي؟ مستحيل مستحيل". وإلى هذه التفصيلة الصغيرة، فإن جوهر شخصية فرج، وما جعل منه عنواناً لهذا الكتاب من المختارات هو الجانبُ "النوراني" الصافي مثل الشعر الصافي الذي يخفف "من تفاهة المكان وعدائيته ولا معناه، أستطيع أن أقول إني أتعلم في مدرسة اسمها فرج"، بل إن السارد- واسمه زياد، أي اسمُ المؤلف- وفيما هو يمتدح أخلاق فرج، فهو يرى فيه "الحب والصدق والحقيقة" كما لا يجدها في شخص آخر، حتى إنه يربطه بمقولة للفيلسوف سارتر في كتابه الشهير (الوجود والعدم) حيث يقول: "إذا كان الإنسان على حقيقته، يصبح سوءُ النية غيرَ ممكن على الإطلاق، وتكف الصراحة عن أن تكون مثله الأعلى، لتغدو وجوده"، ويختم "حبيبي فرج: شكراً لنافذة الصدق التي تشبه يوم قيامة مصغراً، هذه النافذة التي تفتحها لي كل صباح في مكاني هذا الذي بلا نوافذ". هذه القصة جرى اختيارها من مجموعة "أسباب رائعة للبكاء" (2015).
بيئة شعبية
وبما أن غالبية أبطال قصصه ينتمون إلى الهامش بيئة شعبية، فإن لغة القصص غالباً ما تنطوي على المحكية والشعبية، فمنذ القصة الأولى في كتاب المختارات هذا، القصة التي حملت عنوان "خليل الذي يخسر دائماً"، وهي منتخبة من مجموعة "غارقون بالضحك" (2019)، نجد أنفسَنا مع خليل (في السادسة عشرة من عمره) حين افتَتح في المخيم ظاهرة المراهَنات بين الأصدقاء، وهي هنا بالمحكية، ويدخل الجِد بالهزل، واليومي بالسياسي، فنسمع "تْراهِن إنه عدد شَعرات صدري أكثر من شعرات صدرك؟"، أو "تراهن إنه أبوي معاه مصاري أكثر من أبوك؟" أو "تراهن إنه الجندي اللي قاعد في البرج فوق المخيم من أصل يمني؟ تراهن أنه الجيش راح يقتحم المخيم الليلة؟"، وهكذا يجد خليل أي شيء للمراهنة عليه، وهو خسر الرهانات دائماً، إلا رهانه الأخير مع بشار "اتراهن أني راح انجن بكرة وأفقد عقلي تماماً، وأصير أمشي في شوارع المخيم، أحكي مع حالي وأولاد المخيم لاحقيني بالحجارة؟!"، إذ صدق الرهان/ النبوءة، ووجده أصدقاؤه بعد غياب "كان خليل عارياً تماماً، يُدخل نصف جسمه في الحاوية ويلتقط عظام اللحم، ويصيح في الناس: أتراهنوا أني بقدر أمَصْمص هاي العظام؟!".
هكذا، وبمثل هذين النموذجين، يتداخل في قصص خداش الهم الاجتماعي وظروف البؤس، مع الهم الوطني/ السياسي، ويتقاطع الاحتلالي/ الإسرائيلي مع المجتمعي المحلي، تداخُلاً وتقاطُعاً يجعلهما يتولدان في سياق واحد، لتنتج هذه الخلطة من الفانتازيا والتراجيديا الإنسانية، التي تبلغ حدود الاكتئاب، غير أن أسلوب الكاتب في تقديمها يخفف قليلاً من ذلك الاختناق، فهو يمتلك لغة مرِحة وصوَراً خفيفة الظل وعلاقات حميمة بين الناس، تجعل مناخات السرد أقل سوداوية، بل تقترب بها من الكوميديا السوداء.
القراءة المعمقة لقصص هذا الكتاب، يمكنها وضع اليد على نموذج جديد في الأدب الفلسطيني والعربي عموماً، وهذا دور مناط بالنقاد ذوي الكفاءات النقدية القادرين على التشريح والتفكيك والتحليل، بأدوات ورؤى جديدة تنسجم مع هذا النموذج الجديد من السرد.