Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خالد سامح يرصد ضحايا التهميش... في الحروب المتعاقبة

احداث الرواية تدور بين الأردن والعراق...برؤية شخصية وعامة

الحرب بريشة الرسام العراقي ضياء العزاوي (موقع الرسام)

"الهامش" هي الرواية الأولى للصحافي والكاتب الأردني خالد سامح (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف) بعد أربع مجموعات قصصية، هي "نافذة هروب" 2018 و"نهايات مقترحة" 2011، "ويبقى سرًّا" 2016 و"بين سطور المدينة" 2017. وبالدخول إلى الرواية من عنوانها، نشير إلى أنّ الهامش في اللغة هو حاشية الكتاب، بينما الهامش في الرواية مصطلح يستخدمه طبيب نفسي للتعبير عن كلِّ ما يقع خارج الذات، حين يتوجه لـ"حازم"، الشخصية المحورية في الرواية، المصاب بالقلق والاكتئاب والوسواس القهري، بالقول: "...استمتع بحياتك وشبابك، هذا الهامش لن تسيِّره وفق ما تريد..."، أو حين يقول له: "كلُّ ما يقع خارج ذاتك، فهو هامشي..." (ص 17). وبهذا المعنى، يكون الهامش هو الواقع الخارجي، وهذا التعريف مفارق، بالطبع، للمعنى اللغوي.

 تدور أحداث الرواية في عمّان والزرقاء وبغداد، بين صيف 2003 وربيع 2006، وتتناول مواضيع من الهامش، بالمعنى المذكور أعلاه، وكيفية انعكاسها على شخصيات الرواية. وبالتحديد، يرصد الكاتب مضاعفات تردّي الواقع العربي والحرب الأميركية على العراق والمسألة المثلية، على أبطال روايته. وهو يفعل ذلك من خلال ثلاث حكايات تتعاقب نصِّيّاً وزمنيّاً، وتتزامن في اللحظة التاريخية التي تدور فيها الأحداث. وتدلّ على قسوة الهامش العربي ووحشيّته، وحجم التصدّعات التي يتركُها في الذات العربية. لكنّ الترابط بين الحكايات الثلاث ليس على المستوى ذاته من القوّة؛ ففي الوقت الذي يبدو طبيعيّاً بين الحكايتين الأولى والثانية، بفعل نموّ العلاقة وتطوّرها بين بطَلَيْ الحكايتَيْن، "حازم" و"لهيب"، ينتقل إلى الحكاية الثالثة بشكلٍ مفاجئ ومن دون سابق تمهيد، ما يجعلها مُقحمة على السياق الروائي، ولا يكفي وجود بطلها المثلي "جاسم" / "جيسيكا" في الحيّز الروائي ليجعل ارتباطها بالحكايتين الأولى والثانية طبيعيّاً. وإن كانت الحكايات الثلاث تشترك في كونها من إفرازات الهامش العربي الموجعة في اللحظة التاريخية التي تتناولها الرواية.

 بالعودة إلى الحكايات الثلاث، تتمحور الأولى حول "حازم"، الصحافي والمترجم الأردني والناشط السياسي المنتمي إلى "الجبهة القومية لنصرة العراق"، ما يعني أنّه صاحب اهتمامات ثقافية وقومية، تتخطّى الذات إلى الهامش العربي الواسع. وتأتي التداعيات الخطيرة التي ترتَّبت على حصار العراق والحرب عليه، وما أعقبها من: استشراء العنف العبثي فيه، اندلاع الاغتيالات في لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ونُذُر الحرب الأهليّة التي بدأت تُطِلّ برأسها في الضفّة الغربية وغزة، مضافةً إلى مناكفات رئيسه في العمل وحساسيّته المفرطة وعدم القدرة على استيعاب الصدمات وتغيير القناعات، لتنعكس تصدّعات في شخصية "حازم"، فتعاوده نوبات القلق والتوتّر والاكتئاب والوسواس القهري التي كان يعاني منها، ويعود إلى زيارة طبيبه النفسي الذي يكرّر نصحه له بترك الهامش والعودة إلى الذات، الأمر الذي لا يستطيع الالتزام به. غير أنّ ظهور "لهيب"، المرأة العراقية الجميلة، المغوية، المغرية، في حياته يجعله يتخفّف من وطأة ما يعانيه، في الهامشَيْن الكبير (الواقع العربي)، والصغير (مكان العمل). ذلك أنّ العلاقة بينهما تنمو شيئاً فشيئاً، من التعارف إلى الصداقة إلى الغرام والبوح، من دون أن تصل إلى حدِّ الارتباط. وتتمظهر في تعاطي الشراب وممارسة الجنس وزيارة المرافق السياحية والاهتمامات الثقافية المشتركة، حتّى إذا ما غادرت إلى غير رجعة وفُصل من العمل، تنتابه أعراض القلق من جديد، فيتوجّه إلى "بار الأردن" الصغير، المعتم، وسط البلد. هناك يطرح على نفسه أسئلة محدّدة، تُريه الجزء المليء من الكأس، وتعكس ميلاً مستجدّاً إلى التفكير الإيجابي، وينخرط من جديد في معاقرة العرق، في إشارة روائية إلى أنّ الحياة ستستمر، بـ"لهيب" ومن دونها، بالجريدة أو بغيرها.

 الحكاية الثانية في الرواية، المتفرّعة من الأولى، هي الأكثر إيلاماً، وهي حكاية "لهيب"، المرأة العراقية الجميلة، إحدى ضحايا الحرب الأميركية على العراق ومضاعفاتها، التي تسرّ بها لـ"حازم"، ذات ليلة مخمورة، لتروي فضوله، من جهة، ولتتخفّف من حملٍ ثقيلٍ يرخي على صدرها، وهذا هو الأهم، من جهة ثانية. فتبدو كأنّها على طاولة معالج نفسي تفضي إليه بما تعانيه.  وفي هذه الحكاية، تُولد "لهيب" عام 1968، بعد أسبوعٍ واحد من "انقلاب تموز" الذي نفّذه البعثيون على عبد الرحمن عارف، لأبٍ مهندسٍ في شركة نفط العراق، تتوفّى والدتها عام 1998 بداء السكّري خلال الحصار، ويلحق بها الأب عام 2001، وتتزوج أختها الوحيدة من مدرّس بابلي، فتبقى وحدها، بين البيت والعمل مترجمة في وزارة الخارجية العراقية، حتى إذا ما سقطت بغداد واستباحها الرعاع، تلجأ إلى بيت أختها في بابل، فيوصد صهرها دونها الأبواب، بذريعة الخوف على أسرته من انتمائها السابق إلى حزب البعث وعملها في الخارجية. فتعود من حيث أتت، لتعاني الوحدة والخوف والحاجة والجوع والقلق، ما يجعلها تقبل تحت وطأة هذه الضغوط عرض العمل مترجمة مع الأميركيّين ما يعرّضها لغضب الإرهابيّين والجماعات الأصولية، فتنهال عليها رسائل التهديد والوعيد، حتى إذا ما صُرِفَتْ من عملها، تُخطف من جماعة متطرّفة، ويغتصبها أميرها تاركاً توقيعه بالسكّين على حلمة ثديها الأيمن. وإذ يتمّ إنقاذها والقضاء على المجموعة، تهرب إلى الأردن، وتلقي بها الحاجة بين يدَيْ مستثمر عراقي جمع أمواله بطرق غير مشروعة، فيستغلّ جمالها الجسدي الصارخ، في علاقاته الاستثمارية المزعومة، ويقدّمها هديَّة لأصدقائه، فتستغلّ، بدورها، هذه الفرصة لتجمع معلومات عن أنشطته المشبوهة، وتبتزّه تحت وطأة الإخبار عنه، فارضةً عليه زواجاً مؤقَّتاً، وشقَّة فخمة في منطقة الرابية، وعشرة ملايين دولار. وبذلك، تستخدم جسدها للانتقام من مغتصبيها والمتاجرين بها، مؤمنةً أنّ من يملك المال يملك السلطة.

الماضي الثقيل

 إزاء هذا الماضي الثقيل، تبحث عن وسائل تتحرّر بها منه، فيطلع "حازم" في طريقها، ويساعدها في فتح غاليري للفنون التشكيليّة في ضاحية راقية من ضواحي عمّان، تشهد نشاطاً ملحوظاً. غير أنّها لا تحول دون قيام الماضي بمطاردتها، وتعكير حاضرها عليها، وتتمظهر تلك المطاردة بوجوه: الموظفة الطامحة إلى علاقة مباشرة مع الرئيس، المذعورة من سقوط بغداد، الهزيلة من أكل الخبز اليابس، المتلقِّية رسائل التهديد بالقتل، الغاطسة في الكوما تحت مغتصبها الوحش، والعاهرة برتبة خمس نجوم، وهو الوجه الأكثر إيلاماً لها. ولعلّ هذه المطاردة المستمرّة هي التي تدفعها إلى الرحيل إلى مكانٍ آخر. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ العلاقة التي ربطتها بـ"حازم"، وتمظهرت أكلاً وشرباً وسَهَراً وسياحةً وغَراماً وجنساً و....، كانت تقوم على الضرورة والمصلحة وحاجة كلٍّ منهما إلى الآخر. هي تريد التحرّر من الماضي بأثقاله الكثيرة، وهو يريد التخفّف من الحاضر وما يسبّبه له من قلق وتوتّر واكتئاب. غير أن افتراقهما المبكّر سيحول بالتأكيد دون تحقيق هذين الهدفين.

الحكاية الثالثة في الرواية تُطرح على هامش الحكايتَيْن الأولى والثانية، وتتعلّق بالمثليّين العرب، وهو موضوع جريء بالتأكيد، لكنّ طرحه في الرواية جاء خجولاً، على مستوَيَيْ الكمِّ والكيف، فيقتصر، من الناحية الكمّيّة، على "فشَّة الخلق" التي قام بها "جاسم" / "جيسيكا"، موظف الاستقبال والعلاقات العامة في الغاليري الذي افتتحته "لهيب"، وعلى حوارٍ مقتضب مع ديفيد ريكسون، محامي المنظمة البريطانية التي تُعنى بالحقوق الفردية. ويتناول، من حيث الكيف، المسألة من زاوية حقوق الإنسان والحرية الشخصية، من جهة، ومن زاوية ما تتعرّض له هذه الشريحة من قمعٍ وتنكيل في العالم العربي. وبذلك، نقع على تعاطف خجول وغير مباشر مع هذه الشريحة المنبوذة، على كلِّ المستويات. وهنا، لا بد من التذكير أنّ ارتباط هذه الحكاية بالرواية هو أضعف من ارتباط الحكايتَيْن الأخريَيْن. ولعلّ الرابط الوحيد بين الحكايات الثلاث هو انتماؤها للهامش ذاته، واجتماع أبطالها في صدفةٍ روائيّة يخترعها الكاتب.

بالانتقال من الحكايات إلى الخطاب، نشير إلى أنّ الكاتب يعهد بدور الراوي إلى راوٍ عليم يتعدّى دوره أحياناً إلى حدِّ مشاركة الشخصية والتناوب معها على رواية حكايتها، كما يحصل مع "لهيب"، وإن كان قد تمّ التمييز إخراجيّاً بين ما تقوله الشخصية وما يقوله الراوي. وهذه العملية اتّسمت بكثير من السلاسة والمرونة والرشاقة، فتدفّق السرد على رسله من دون عوائق ومطبّات مفتعلة، وبمستوى لغوي استطاع توفير هذه المواصفات. ويأتي الحوار ليدخل في علاقة تفاعلية مع السرد، قوامها الانخراط فيه والتناغم معه. على أنّه يتمّ بالمستوى المحكي للغة، ما يوهم بواقعية العالم المرجعي المحيل إليه النص. واللافت للانتباه، في هذا السياق، أنّ الكاتب يلمّ بمختلف المحكيّات العربية، ويستخدم كلّاً منها في المكان المناسب؛ فيستخدم المصريّة مع "حسن"، حارس العمارة المصري، والأردنية مع أسرته في الزرقاء، واليمنية مع "أبي قتيبة اليمني" والعراقية مع "لهيب" العراقية. وهذا التعدّد يشكّل قيمة مضافة إلى الحوار، واستطراداً اللغة الروائية.

المزيد من ثقافة