Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

متى يتوقف كورونا "الشيطان العبقري" عن قتلنا؟

العلماء يراهنون على "ذكاء" الفيروس لتغيير "الحمض النووي الريبي" الخاص به مع مرور الوقت

يتبع فيروس "كورونا المستجد" خلال انتشاره استراتيجية يصفها علماء الأحياء بـ"العبقرية الشيطانية" (غيتي)

فيروس "كورونا المستجد" ليس مجرد حزمة مواد وراثية محاطة بقشرة بروتينية شائكة، يبلغ عرضها جزءاً من ألف هدب من أهداب العين. ذلك أن في مقدور هذا الفيروس المتحور، بمجرّد اقتحامه مجرى هواء أي شخص، أن يختطف خلاياه ليستنسخ منها ملايين النسخ من نفسه. بهذه العبارات يلخص علماء الأحياء الذين يسابقون الزمن لإيجاد لقاح مضاد لكورونا المستجد، خطورة الجائحة المميتة التي تتمدد في أصقاع الأرض كافة اليوم، والتي حصدت في طريقها أكثر من عشرين ألف قتيل من بين زهاء نصف مليون شخص تمكنت من إصابتهم.

ولو غُصنا أكثر فأكثر في تركيبة فيروس "كورونا المستجد" لوجدنا أنه يتَّبع، خلال انتشاره، استراتيجية يصفها علماء الأحياء بـ"العبقرية الشيطانية"؛ ذلك أنه يتكاثر في أجسام البشر ويتناسخ حتى قبل ظهور أعراضه المرضية على مضيفه الأول، ما يُمكِّنه من التسلل إلى ضحاياه الآخرين بشكل خفي وسهل وواسع النطاق، ما يجعله بحق فيروساً مدمراً صعب الاحتواء.
 

استراتيجية الخداع
وعادة ما تميل الفيروسات التي تصيب الجهاز التنفسي، مثل "كورونا المستجد"، إلى التكاثر في مكانين؛ في الأعلى لدى الأنف والحلق حيث تكون شديدة العدوى للآخرين، وفي الأسفل لدى الرئتين حيث تنتشر بشكل أبطأ لكن أشد فتكاً للشخص المصاب. لكن فيروس "كورونا المستجد" يتبع خطاً مختلفاً عن غيره من فيروسات الجهاز التنفسي خلال مسيرة انتشاره، إذ يمكن له أن يصييب بعض الأشخاص من دون أن يشعر هؤلاء بأي عوارض ظاهرية في الوقت الذي يتكاثر فيه بسرعة؛ ما يعني امتلاكه مساحة زمنية واسعة وكافية لنقل عدواه إلى الآخرين. وثمة خاصية خبيثة أخرى يتميز بها فيروس "كورونا المستجد"؛ فمن خلال تخلّيه عن "خيار" سلوك وجهته الفتاكة حين لا يهبط إلى الرئتين، تظهر أعراضه على الشخص المضيف بصورة أقل بكثير مما تظهر لدى الإصابة بفيروس "سارس". ما يعني أن الناس يمررونه إلى بعضهم بعضا من دون أن يعرفوا أنهم مصابون به. بعبارة أخرى، يمارس فيروس "كورونا المستجد" خداعاً استراتيجياً لإحداث فوضاه العالمية.

تاريخياً، كانت الفيروسات المماثلة لـ"كورونا المستجد" مسؤولة عن العديد من أكثر الجائحات تدميرا في السنوات المئة الماضية: إنفلونزا 1918 و1957 و1968، وكذلك "سارس" و"ميرس" و"إيبولا". ومثلها مثل "كورونا المستجد"، كانت كل هذه الأمراض حيوانية المصدر، أي أنها كانت تقفز من الحيوانات إلى البشر، وكانت كلها ناجمة عن فيروسات تحتفظ بشفرة أجهزتها الوراثية داخل "الحمض النووي الريبي". ويقول العلماء إن ذلك الأمر ليس مصادفة، ذلك أن مثل هذه الفيروسات الشبيهة بالزومبي (أي الميتة - الحية في الآن نفسه) يجعلها سهلة الإمساك لكن صعبة القتل. فهي تكون خارج جسم مضيفها خاملة، ولا تمتلك أي من زخارف الحياة التقليدية مثل: التمثيل الغذائي، والحركة، والقدرة على التكاثر.
ويمكن للفيروسات التي تحتفظ بشفرة أجهزتها الوراثية داخل "الحمض النووي الريبي" أن تستمر بوضعيتها الخاملة هذه لفترة طويلة جداً. فقد أظهرت أبحاث مخبرية حديثة أنه وعلى الرغم من أن "كورونا المستجد" يتدهور عادة في غضون دقائق أو بضع ساعات خارج جسم مضيفه، إلا أن بعض جسيماته متناهية الصغر يمكن لها أن تظل حية مع مرور الوقت، فهي تبقى حية - معدية على سطح الورق مدة 24 ساعة، وعلى سطح البلاستيك والفولاذ المقاوم للصدأ مدة تصل إلى ثلاثة أيام. وكدليل مثير على هذا الأمر، نذكر أنه في عام 2014، تمكن العلماء من إعادة إحياء فيروس "أميبا" بعدما ظل متجمداً في طبقة من التربة الصقيعية مدة 30 ألف عام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خلايا نائمة
عندما تصادف الفيروسات مضيفا في الطبيعة، فإنها تستنفر بروتيناتها النائمة المنتشرة على أسطحها لإيقاظها استعداداً للغزو، قبل أن تسيطر على أجهزة الخلايا الجزيئية للمضيف لتجميع المواد اللازمة لإنتاج مزيد من الفيروسات. ويقول غاري وايتاكر، أستاذ علم الفيروسات في جامعة كورنيل: "إن الفيروس يتحول من اللاحياة إلى الحياة، ويتخذ لنفسه مكاناً وسطاً بين الكيمياء وعلم الأحياء". ومن بين الفيروسات التي تحتفظ بشفرة أجهزتها الوراثية داخل "الحمض النووي الريبي"، تعد الفيروسات التاجية (مثل "كورونا المستجد") فريدة من نوعها نظراً لحجمها وتعقيدها. فهي أكبر بثلاث مرات من مسببات أمراض "حمى الضنك" و"غرب النيل" و"زيكا"، كما أنها قادرة على إنتاج بروتينات إضافية لتعزيز فرص نجاحها.
ويقول فينيت ميناشيري، عالم الفيروسات لدى الفرع الطبي لجامعة تكساس: "يمتلك فيروس حمى الضنك مفتاحاً واحداً فقط على سطحه، فيما يمتلك فيروس كورونا المستجد ثلاثة مفاتيح مختلفة، لكل مفتاح منها خاصية مختلفة". ومن بين هذه الخصائص المختلفة "بروتين التدقيق"، الذي يسمح لفيروسات كورونا إصلاح أي خلل قد يحدث أثناء عملية الاستنساخ. ويمكن لهذا البروتين أن يتحور بشكل أسرع بكثير من الفيروس نفسه، لكنه من غير المرجح أن يسمح باستنساخ ذرية حافلة بالطفرات المشوهة التي لا تستطيع البقاء على قيد الحياة. وفي الوقت نفسه، تساعد القدرة على التحور فيروس "كورونا المستجد" على التكيف مع البيئات المستجدة، سواء أكانت أمعاء ناقة أم مجرى التنفس الذي يمنحه الإنسان للفيروس دون علمه أو إرادته.

يجزم العلماء أن "سارس" نشأ كفيروس خفاشي وصل إلى البشر عبر "قط الزباد" الذي يباع في أسواق الحيوانات. ويعتقدون كذلك أن فيروس كورونا، الذي تعود أصوله أيضا إلى الخفافيش، كان له مضيف حيواني وسيط قد يكون حيوان "البنغول" الآكل للنمل. ويرى جيفري تاوبنبرغر، عالم الفيروسات بالمعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية، "أن الطبيعة حاولت إخبارنا على مدار 20 عاما، أن الفيروسات التاجية التي تكمن في الخفافيش يمكن أن تتسبب بأوبئة لدى البشر. لذا ينبغي علينا أن نستعد لتهديدات هذه الفيروسات لفترات الطويلة الأمد مثل الإنفلونزا". مشيراً إلى أن مثل هذه الفيروسات تأتي عادة على شكل نزلات برد ولا تعد مهمة مثل مسببات الأمراض الفيروسية الأخرى. ويضيف تاوبنبرغر أن التمويل المخصص لبحوث الفيروسات التاجية زاد بعد تفشي "سارس"، لكن في السنوات الأخيرة جفّت موارده للأسف.

منذ فجر التاريخ، والفيروسات تطور فنون بقائها حتى حين لا تكون على قيد الحياة، متبعةً استراتيجية فعالة ومخيفة تجعلها تهديدا قويا لوجودنا، لذا يصعب علينا القضاء عليها

لص مدمر
بمجرد دخول فيروس "كورونا المستجد" إلى الخلية البشرية، فإنه يصنع 10 آلاف نسخة منه في غضون ساعات. وفي غضون أيام قليلة، يحمل الشخص المصاب به مئات ملايين الجسيمات الفيروسية في كل نقطة من دمه. يؤدي هجوم "كورونا المستجد" إلى استجابة مكثفة من الجهاز المناعي للشخص المضيف، إذ يطلق مواد كيميائية دفاعية فترتفع درجة حرارة جسمه مسببة الحمى، وتحتشد جيوش من خلايا الدم البيضاء لالتهام الجراثيم في المنطقة المصابة. وغالبا ما يكون رد الفعل هذا، ما يجعل الشخص المصاب يشعر بالمرض.
ويقارن أندرو بيكوز، عالم الفيروسات في جامعة جونز هوبكنز، الفيروسات بلصوص المنازل المدمرين: "فهم يقتحمون منزلك ويأكلون طعامك، ويستخدمون أثاثك وينجبون 10 آلاف طفل. ثم يغادرون المكان وقد أصبح أشبه بمقلب قمامة". ولسوء الحظ، يمتلك البشر دفاعات قليلة ضد هؤلاء اللصوص. وتعمل معظم مضادات الفيروسات عن طريق استهداف وظائفها الحيوية. فعلى سبيل المثال، يمنع البنسلين الجزيء البروتيني الذي تستخدمه البكتيريا لبناء جدران الخلايا، ونظرا لأن الخلايا البشرية لا تستخدم هذا البروتين، يمكننا تناول البنسلين دون إحداث أي أضرار في أجسامنا.

بصمة خاصة
لكن الفيروسات تعمل كذلك من خلالنا. ومع انعدام امتلاكها أجهزة خلوية خاصة بها، فإنها تتشابك مع أجهزتنا. فتصبح بروتيناتها هي بروتيناتنا، ونقاط ضعفها هي نقاط ضعفنا، ومعظم الأدوية التي تؤذيها ستؤذينا أيضا. لذا، يشدد علماء الأحياء على ضرورة أن تكون الأدوية المضادة للفيروسات دقيقة الاستهداف ومحددة للغاية، حسب ما تقول كارلا كيركيغارد، عالمة الفيروسات في جامعة ستانفورد. إذ تميل هذه الأدوية المضادة عادة إلى استهداف البروتينات التي ينتجها الفيروس (باستخدام أجهزتنا الخلوية) كجزء من عملية الاستنساخ. فهذه البروتينات تمتلك بصمة فريدة لكل فيروس، ما يعني أن الأدوية التي تكافح مرضا واحدا لا يمكنها أن تكافح بشكل عام أمراضاً أخرى.

ولأن الفيروسات تتطور بسرعة كبيرة، فإن العلاجات القليلة التي ينجح العلماء في تطويرها لا تبقى ناجعة لفترة طويلة. لهذا السبب يستمر العلماء في تطوير عقاقير جديدة لعلاج مرضى فيروس نقص المناعة البشرية "الإيدز"، ولهذا يتناول المصابون به "كوكتيل" من مضادات الفيروسات التي تجبر فيروس "الإيدز" على التحور عدة مرات لمقاومتها. وبهذا الصدد تقول كيركيغارد: "يحتاج الطب الحديث إلى اللحاق بالفيروسات الناشئة الجديدة باستمرار".
على الرغم من سلوك فيروس "كورونا المستجد" الغامض إلا أنه لا يختلف كثيراً عن سلوك ابن عمه "سارس". إذ لا توجد اختلافات واضحة في "مفاتيح" البروتين الشائك التي تسمح لهما بغزو الخلايا البشرية المضيفة. ويقول أليساندرو سيتي، رئيس مركز الأمراض المعدية في معهد لا جولا لعلم المناعة، إن فهم طريقة عمل هذه البروتينات قد يكون حاسما لتطوير لقاح مضاد لها. فقد أظهرت الأبحاث السابقة أن ارتفاع البروتينات على فيروس "سارس" هو ما يحفز الاستجابة الوقائية لجهازنا المناعي. وفي ورقة بحثية جديدة نشرت هذا الشهر، وجد سيتي أن الشيء نفسه ينطبق على فيروس "كورونا المستجد". وتمنح هذه الملاحظات العلمية علماء الأحياء سببا للتفاؤل. إذ إنها تؤكد حدس الباحثين بأن البروتين الشائك يبقى هدفاً جيداً للقاحات المضادة. وإذا تم تلقيح الناس بإصدار من هذا البروتين المحوّر، فسيكون بإمكانه إرشاد جهاز مناعة الملقحين للتعرف على الفيروس والسماح له بالاستجابة لعملية تطويق الجائحة بسرعة أكبر. وإذا لم يكن فيروس "كورونا المستجد" مختلفا تماما عن ابن عمه الأكبر "سارس"، فمن المحتمل أنه لا يتطور بسرعة كبيرة، ما يمنح العلماء الوقت الكافي لتطوير لقاح مضاد له.


 

لا يريد قتلنا

وتقول كيركيغارد، إن أفضل الأسلحة التي نمتلكها ضد فيروس "كورونا المستجد" هي تدابير الصحة العامة، مثل إجراء الاختبارات، والحجر الاجتماعي، وتحصين أنظمة المناعة الخاصة بنا؛ فيما يعتقد بعض علماء الأحياء أن لدينا شيء آخر يعمل لصالحنا: الفيروس نفسه. فعلى الرغم من "عبقريته الشريرة" وتصميمه المميت الفعال، تقول كيركيغارد: "إن كورونا المستجد لا يريد قتلنا حقا. فمن الجيد لهذا الفيروس الذكي، ولسلالته، أن يتجول المرء بصحة جيدة". فمن الناحية التطورية، يعتقد الخبراء أن الهدف النهائي لأي فيروس هو أن يكون معدياً وأن يترك "أثراً لطيفاً" في الوقت نفسه على مضيفيه. أي أن يكون أقل من لص مدمر، وأكثر من ضيف عادي في منزلك.

ذلك أن الفيروسات القاتلة للغاية، مثل "سارس" و"إيبولا" تميل إلى تدمير نفسها دون ترك أي شخص على قيد الحياة لنشرها. لكن جرثومة "مزعجة" فقط يمكن أن تُديم نفسها إلى أجل غير مسمى. وعلى سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات التي أجريت عام 2014، أن الفيروس الذي يسبب "الهربس الفموي" تعايش مع السلالة البشرية منذ زهاء ستة ملايين سنة. وفي هذا الصدد، تقول كيركيغارد "إنه فيروس ناجح.. وذكي للغاية".

من خلال هذه الرؤية التحليلية المبكرة، يمكننا القول أن فيروس "كورونا المستجد" الذي يقتل الآلاف في جميع أنحاء العالم، لا يزال في وقت مبكر من مسيرة حياته. فهو يتكرر بشكل مدمر، وغير مدرك أن هناك طريقة أفضل للبقاء. ولكن رويدا رويدا، سيتغير "الحمض النووي الريبي" الخاص به مع مرور الوقت، إلى أن يأتي يوم ليس ببعيد، ليصبح أكثر ذكاء فيتحول إلى مجرد واحد من حفنة فيروسات تاجية شائعة تنتشر بيننا كل عام، فتمنحنا سعالًا أو زكاما.. ولا شيء آخر.

المزيد من تحقيقات ومطولات