Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"كورونا" ومعضلة التكيف المتوازن بين الأمنين... القومي والإنساني

الوباء ردَّ مفهوم العولمة على أعقابه... وهذه التجربة من شأنها وضع سطوتها تحت اختبار آخر

كشف وباء "كورونا" عن مدى عجز القطاع الصحي في دول كثيرة عن مواجهته (رويترز)

زاد وباء "كورونا" الشعور بالتهديدات التي أصابت مفهوم الأمن الإنساني، الذي تراجع بفعل التركيز على الأمن القومي، وهو ما فرضته الحروب والنزاعات والتعدي على سيادة الدول. ففي هذه الأزمة، أُخرجت مؤسسة الجيش والمؤسسة العسكرية من ثكناتها في مهام استراتيجية لدعم الجهات المدنية ومساندتها وتنفيذ دورها في إدارة الأزمة وفقاً لمقتضياتها وفي ضوء الإمكانيات والقدرات المتاحة. كما لفت الخطر الماثل أمامنا وتزايد القلق والتوتر من مواجهة عدوّ خفيّ إلى الانتباه لضرورة تعزيز أمن الأفراد والمجتمعات.

التحدي بين الأمنين... القومي والإنساني

نشأ التحدي بين مفهومَيْ الأمن الإنساني والأمن القومي على مرحلتين:

-المرحلة الأولى في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية واستمر خلال الحرب الباردة حينما نشأ سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الذي حاول الوصول إلى حجم الترسانة النووية الأميركية ثم تفوّق عليها. بعد ذلك، طُرحت فرضية أنّ الدولة الآمنة لا تعني بالضرورة أفراداً آمنين، واستطاع ذلك أن يطعن في مفهوم الأمن القومي أو أمن الدولة الذي ركَّز على الإنفاق على التسلح، وأمن الأقاليم والمدن والحكومات وحدود الدولة حتى لو لم تواجهها مخاطر، وإنّما أسرفت الحكومات في الإجراءات الوقائية، ما جاء خصماً على محور الاهتمام بالأفراد والتنمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي ما قبل، كانت مصادر التهديد للأمن الإنساني تتنوع وفقاً لكل دولة أو أمة وفي أوقات متنوعة، ما كان يصعب معه وضع تعريف محدد للمفهوم صالحٍ لكل الجماعات في كل الأوقات. أما الآن، فقد وحّد الوباء من حجم التهديد في العالم وفي وقت واحد، ما دعا إلى استنفار الجيوش والشرطة للحماية ومساندة الجهات المدنية لمواجهته. ومن ثم انتقلت مؤسسات الجيش والشرطة لتحقيق الحماية الأمنية في مستواها الإنساني، وتغيّر دورها من التدخل في حالات العنف الهيكلي المتمثل في الحروب والنزاعات إلى العنف غير الهيكلي، المتمثل في أمن المحيط الشخصي للأفراد.

-المرحلة الثانية هي مرحلة ما بعد العولمة الاقتصادية والثقافية التي تمثلت في وجهها الإيجابي بانتقال التكنولوجيا والسلع والخدمات والتحرير الاقتصادي. ولفت بعض الدراسات إلى أن هناك آثاراً سلبية للتحرير الاقتصادي ما يؤدي إلى انتشار أنظمة غير مستقرة لا يمكن التحكم فيها، خصوصاً في الأسواق المالية ويؤثر بالتالي في الاستقرار السياسي وقضايا البيئة. أما الأثر الذي تكشَّف بعد ذلك، فهو عولمة الأمن، وهي تقع في نطاق العولمة بشكل عام، ولكن نشأت آثارها بعد تفاقم آثار العولمة الاقتصادية والثقافية.

"عولمة ذات وجه إنساني"

ففي تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 1999 بعنوان "عولمة ذات وجه إنساني" أكّد أنه، وعلى الرغم ممّا تقدمه العولمة من فرص هائلة للتقدم البشرى في المجالات كافة، نظراً إلى سرعة انتقال المعرفة، فإنّها في المقابل تفرض مخاطر هائلة على الأمن البشري في القرن الـ 21، وهذه المخاطر ستصيب الأفراد في الدول الغنية والفقيرة على حدٍّ سواء. وقد حدّد التقرير سبعة تحديات أساسية تهدّد الأمن الإنساني في عصر العولمة، وتتمثل في: عدم الاستقرار المالي وغياب الأمن الوظيفي وعدم استقرار الدخل وغياب الأمان الثقافي وغياب الأمان الشخصي وغياب[R1]  الأمن البيئي وغياب الأمن السياسي والمجتمعي.

ثم كان الأهم هنا غياب الأمن الصحي لأنّ سهولة الانتقال وحرية الحركة ترتبطان بسهولة انتقال وانتشار الأمراض. وكان تزامن وقت إعداد التقرير تقريباً مع انتشار فيروس "الإيدز"، محذراً  من أن سرعة انتشار أمراض في المستقبل ستكون أخطر، وهو ما يعانيه العالم الآن.

التجربة الصينية

على الرغم من وحدة العالم في مواجهة "كورونا"، إلاّ أنّ الدول المنقسمة الآن إلى شرق وغرب الكرة الأرضية، نكصت مرة أخرى إلى التحليل التقليدي للأمن، وحاولت التركيز على دور الترتيبات الحكومية والاتفاقات الدولية في تنظيم مجمل أنماط العلاقات الدولية، إلاّ أنّها لم تجد غير قواعد مهزوزة. بداية، تبادلت الولايات المتحدة والصين الاتهامات في من نشر الفيروس، وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصيني تشاو ليجيان أنّه ربما الجيش الأميركي هو من أتى بالوباء إلى ووهان، كما انتقدت الصين رد فعل حكومة الولايات المتحدة على انتشار "كورونا" في ووهان، متهمةً واشنطن بالمبالغة في ذلك وتشجيع الهلع الجماعي حول العالم.

وردَّت واشنطن بدورها على التهمة بتسمية الفيروس باسم مدينة ووهان في حديثٍ لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ثم نسب الرئيس دونالد ترمب الفيروس إلى الصين. وأخيراً، هاجم بومبيو في تصريح لقناة "سي إن بي سي" الأميركية تعامل الصين مع تفشّي الوباء، قائلاً إنّ الحزب الشيوعي الصيني الحاكم لا يزال يحرم العالم من المعلومات التي يحتاج إليها للحيلولة دون حدوث إصابات أخرى. وأدى ذلك إلى الوضع الذي نواجهه اليوم وجعلنا نتأخر عن التطورات، ما سبّب مخاطر للأفراد في أنحاء العالم كافة وما زال يهدّد حياة الآلاف بالخطر.

التجربة الصينية

أما التجربة الصينية في مواجهة الأزمة وإنزال الجيش إلى الشارع، فتأتي بناء على العقيدة العسكرية التي نمت منذ نشوء الجيش الصيني لمواجهة عدو مزدوج، خارجي، تمثّل في اليابان التي كانت تحتلّ البلاد، وداخلي تمثّل في القوة المحلية هي قوة  الـ"كومينتانغ". لذلك، ارتكزت على ما خطَّه المفكر الصيني الاستراتيجي صون تزو Sun Tzu في كتابه "فن الحرب". هذه المبادئ تقول إنّ العدو مزدوج ولا بدّ من قتاله بأسلوب متنوع، فليس هناك عدو محدّد، وإنّما هناك عدو متغير. من هنا، فإنّ أسلوب القتال اعتمد حرب العصابات، أو الكر والفر. إنّ العدو له تحصينات قوية، ومن ثم لا بد من حصن أقوى لمواجهته، وهو الانخراط في صفوف جماهير الشعب الصيني لتحميه. أما المبدأ الآخر، فهو امتثال الجيش الصيني لإحدى حكم الفيلسوف الصيني سون تزو التي خطّها قبل 500 عام قبل الميلاد، "عندما يبدأ السقاة فيشربون أولاً، فهذه علامة معاناة الجيش من العطش الشديد".

ووفقاً لهذه العقيدة، نجد أنَّ جيش التحرير الشعبي الصيني يركز على التهديدات المتصوَّرة، فإضافةً إلى التركيز على الأمن القومي بين إعادة التوازن بين الولايات المتحدة والصين، والنزاعات الإقليمية الصينية في بحر الصين الجنوبي ومناطق أخرى، فإن بكين تولي اهتماماً كبيراً لأمنها الداخلي لدرجة أن جيش التحرير الشعبي الصيني يعمل باستمرار على تجهيز وتدريب قواته لمواجهة المفاهيم الجديدة للبيئة الأمنية الصينية، والاستعداد للهجوم المضاد الجيش الصيني. كما يعطي أولوية كبيرة للعمل الفكري والسياسي وتحديث البنية التحتية اللوجستية وإقامة نظام القانون العسكري وإدماج جهود الدعم العسكري والمدني. لذلك، سطع نجم اللواء الدكتورة تشن لي، الشهيرة بـ"قاهرة الإيبولا" أو سيدة الجيش الصيني في محاولاتها السابقة في الحرب ضد "إيبولا" و"سارس" وحاليّاً قهر "كورونا"، وذلك بعدما أعلنت الصين إنتاج أول لقاح ضد الفيروس.

سيناريو عالمي

 ترتبط الجيوش في معظم دول العالم، خصوصاً العالم الثالث بغياب الممارسة الديمقراطية، إذ يتم تصويرها في المواقف العامة كقوة إكراه شديدة في السياسة الداخلية، تلعب دورها في الانقلابات العسكرية ثم تتحوّل إلى أداة في يد الحاكم. إضافةً إلى توسع الجيش في أعماله الخاصة التجارية والاستثمارية في أكثر القطاعات حيوية، شملت سيطرة العسكر على الحكومات الديكتاتورية، التمدّد في الوظائف السياسية وتوطيد التعاون مع الوزارات المختلفة، وهذا ما سماه إريك نوردلينغر في كتابه "الجنود في السياسة" بنظام الحكم البريتوري. كما ارتبط نزول الجيش إلى الشارع بعدم الاستقرار السياسي.

ولكن من ناحية أخرى، فإنّه في أكثر الديمقراطيات استقراراً، يرتبط تدخله بحالات الكوارث الطبيعية للإغاثة. فبعدما ضرب إعصار كاترينا نيو أورلينز بلويزيانا عام 2005، نشرت وزارة الدفاع الأميركية 70 ألف جندي، والآن لمواجهة "كورونا"، تساوت دول العالم في التنادي على جيوشها وقواتها المسلحة ومؤسساتها العسكرية لتوفير الإمداد البشري والدعم اللوجستي والطبي وحفظ الأمن والنظام، لا سيما مع الاضطراب الذي أصاب العالم.

وقد ردَّ "كورونا" مفهوم العولمة على أعقابه، فبعدما كانت الدولة محكومة بديناميكية العولمة وتتعامل مع تهديدات معقَّدة وعابرة للحدود والقوميات وتستعين على ذلك بزيادة التسلح لمواجهة عدوٍّ خارجي، فرضت هذه الأزمة عزلة داخلية وخارجية على الأفراد ولو لفترة وجيزة. هذه التجربة من شأنها أن تضع سطوة العولمة المفاجئة تحت اختبارٍ آخر ربما لا تعود بعده إلى ما كانت عليه، كما أن كشف الوباء عن مدى عجز القطاع الصحي في دولٍ كثيرة، سيكون مؤشراً لانكفاء الدول إلى تقوية نُظمها الصحية لمواجهة التحديات الطبيعية المقبلة وإعطاء أولوية لدعم الأمن الإنساني والتنمية الوطنية. وإذ تستنفر الدول الغنية احتياطاتها من أجل تحقيق ذلك، فإنّ العزلة الأكبر ستكون على الدول الفقيرة التي يتكشّف حالها مع انكماش النمو الاقتصادي، فضلاً عن ازدياد حاجتها لدعم المنظمات الدولية.

المزيد من تحلیل