Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الملك فيصل... "الأمير الشاب الذي روّع الأتراك"

في ذكرى رحيله الـ45 لا يزال يتردد صداه وتلهم حنكته الشبان السعوديين... ويستحضره محمد بن سلمان

الملك فيصل اثناء اول زيارة له لانجلترا (مؤسسة الملك فيصل الخيرية)

تحل الذكرى الخامسة والأربعين لاغتيال الملك فيصل الشهر الحالي، وسط أمواج من التحديات يشهدها العالم والمنطقة العربية جراء استفحال وباء "كورونا"، الذي أحيا أجواء الحروب والصراعات الكونية مجدداً بعد أن وضعت أوزارها حيناً من الدهر عقب الحربين العالميتين، كما عادت حروب أسعار النفط إلى سيرتها الأولى بعد السبعينيات.

ومع أن لكل عصر منطقه المختلف وآليته في التعاطي مع التحديات السياسية والاقتصادية والصحية، فإن رهان السعوديين على الشباب كان قاسماً مشتركاً في التعامل مع معضلات الماضي والحاضر، فبينما كان الراحل فيصل قاد جهود بلاده في حقب خلت حتى قبل أن يكون ملكاً، يقود ابن أخيه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تحديات اليوم بالعزم نفسه، والثقة في قدرات مملكةٍ يقول إن 90 في المئة من إمكاناتها لم يُستغل بعد، في آخر حوار له مع مجلة "التايم" الأميركية عام 2016.

تسلّح بالشباب

وفي الحوار نفسه يستذكر عمه الملك فيصل، ويشبه حاجة هذا العهد للتحديث الذي بدأ تطبيقه فعلياً عبر تمكين المرأة والشباب، بالنمط الذي قاده فيصل وفريقه الشاب في الخمسينيات من القرن الماضي، وفق منطق ذلك العصر، وقال "نحن الآن في عهد الدولة السعودية الثالثة التي أسسها جدي الملك عبد العزيز، والذي يُعرف أيضاً بابن سعود، وتأسست السعودية الأولى قبل 300 عام، ولذلك بعد فترة الملك عبد العزيز وفترة الملك سعود وتأسيس الدولة السعودية الثالثة، جاء الملك فيصل بفريق شاب عظيم جداً، وكان من بينه الملك خالد والملك فهد والملك عبد الله والملك سلمان والأمير سلطان والأمير نايف والكثير من الأشخاص الآخرين".

وأقر بأن أعمامه بمن فيهم الملك فيصل ووالده العاهل السعودي الحالي الملك سلمان "تمكنوا من تحويل البلاد من بيوتٍ طينية إلى مدنٍ حديثة ذات معايير عالمية، بنية تحتية حديثة، وبلاد من ضمن مجموعة 20، وبلدٍ من بين أكبر عشرين اقتصاد في العالم، وغيرها الكثير، ومن الصعوبة إقناعهم بأن هناك الكثير من الأمور ينبغي فعلها، لأن ما حدث في وقتهم خلال تلك الـ50-60 عاماً هو مثل ما حدث في تاريخ الولايات المتحدة في الـ300-400 عام الأخيرة، وقد شاهدوا النقلة بأكملها في حياتهم، إلا أنه بالنسبة إلينا كجيل شاب، فإننا لم نُشاهد ذلك، لأننا وُلدنا في تلك المدينة الحديثة والرائعة، وعشنا في اقتصادٍ يُعدّ بالفعل ضمن أكبر عشرين اقتصاد في العالم، وكان تركيزنا على ما كُنا نفتقده، وما لا نستطيع القيام به. ونؤمن نحن أن السعودية حتى يومنا هذا لم تستغل إلا 10 في المئة من قدرتها، ولدينا 90 في المئة متبقية لنحققها".

استعادة ذكرى "الشاهد"

لكن حضورالملك فيصل في بلاده حتى بعد نحو نصف قرن من رحيله، ليس مقصوراً على الجانب السياسي وحده، فهناك المعرض المتنقل "الفيصل... شاهد وشهيد"، الذي تنظمه مؤسسة الراحل بوصفه "وثيقة تطرق الذاكرة لتعريف الناس بالملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، عبر مجموعة كبيرة من الصور التي توثّق مراحل مختلفة من حياة الملك: نشأته، ونيابته عن والده في الحجاز، وتولّيه الحكم، ووفاته. ويسلّط المعرض الضوء على عدد من المحطات المهمة في عهده؛ مثل: تطوّر السعودية وشعبها، ووحدة العالم العربي والإسلامي، والقضية الفلسطينية".

ويشتمل المعرض الذي طاف على معظم مناطق السعودية الـ13على أهم مقتنيات الملك الفيصل الخاصة، وصور لأبرز مراحل حياته منذ الولادة حتى الرحيل، إضافةً إلى عددٍ من المخطوطات والصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو التي توثّق تاريخه وما أسداه من خدماتٍ للأمتين العربية والإسلامية على مدى أكثر من نصف قرن، وكذلك يضم مجموعة من خطبه الشهيرة، وعدد من الوثائق المكتوبة والمرئية والصوتية التي تبرز مواقفه إزاء القضايا المحلية والإقليمية والدولية، كما يوثّق المعرض مسيرته الحافلة بالمواقف التاريخية والمبادرات المؤثّرة على مستوى الوطن والمنطقة والعالم، كما تقول الجهة المنظمة.

لكن امبراطورية مؤسسة الملك فيصل الخيرية، لم تكتف عند هذا الحد في تخليد الراحل لإلهام شبان وطنه والعرب، بل أنتجت الفيلم "وُلد ملكاً" بأعلى المواصفات العالمية، ليقدم الراحل في شقه العالمي، إذ ركز على مهمته الأولى في الغرب يوم بعثه والده إلى إنجلترا وهو لم يزل في الـ13 من عمره، لكنه استطاع والفريق الذي معه أن يكسب احترام النخبة البريطانية الحاكمة في ذلك الوقت الحساس عام 1919، بُعيد سكوت مدافع الحرب العالمية الأولى بأشهر. ولم تلبث الصحافة الإنجليزية المعروفة حتى اليوم بعناوينها البراقة أن جعلت من "الأمير الصغير مروع الأتراك" قصة تلهب حماسة قراءها، ليعود الأمير في نهاية المطاف بكنز ثمين، هو اعتراف بريطانيا العظمى بمملكة أبيه الوليدة، حسب أحداث الفيلم.

ومع أن الفيصل لم يقاتل بنفسه الأتراك مباشرة، فإن الإسقاط واضح، إذ كان والده الملك عبد العزيز لتوه فرغ آنذاك من مواجهات ومعارك عدة كسبها ضد الأتراك في الأحساء (شرقي السعودية) أو حليفهم ابن الرشيد في حائل، حيث حضر فيصل قبل توجهه إلى لندن وهو صغير مع والده معركتي "يا طب، وحائل"، كما تقول المصادر التاريخية.

وكانت دور السينما السعودية، عرضت الفيلم خلال العام الماضي وشهد إقبالاً جيداً، غير أن قيود جائحة كورونا التي أتت على كل شيء، ضيقت الخناق على الفيلم هو الآخر، فأعلنت مجموعة "إم بي سي" بالتعاون مع الشركة المنتجة، عرض الفيلم مجاناً للمرة الأولى على منصة "شاهد" الافتراضية في 27 مارس (آذار) الحالي، بالتزامن مع ذكرى رحيل الملك فيصل.

المحارب

ومع أن الفيصل الابن الثالث لوالده الملك عبد العزيز بدأ مهامه دبلوماسياً، فإن ذلك لا يعني أنه لم يضرب من حروب توحيد السعودية مترامية الأطراف بأكثر من سهم، إذ تروي موسوعة "مقاتل من الصحراء" ومدونات التاريخ السعودي، كيف أن الفتى آنذاك حضر ست غزوات، كان قائد ثلاث منها على الأقل في شبابه دون العشرين، وذاع صيته أكثر في السادسة التي قادته إلى حصار صنعاء بعد تطويع ميدي والحديدة، تمهيداً لاقتحامها واحتلالها، إمعاناً في تأديب إمام اليمن الذي تحرشت قواته بمناطق نفوذ ابن سعود في جنوب البلاد، لكن برقية من الملك عبد العزيز دفعت الفيصل الشجاع للانسحاب من صنعاء وجميع المناطق اليمنية التي احتلها جيشه المستبسل.

وفي الشق الاقتصادي والتنموي يستذكر وزير النفط السعودي الأسبق، علي النعيمي، كيف أثرت قرارات الملك فيصل في ازدهار سلعة النفط عالمياً، ما ترك أثراً مباشراً على بلاده وسائر منتجي النفط في العالم، "وتسارعت وتيرة نمو الاقتصاد السعودي بسبب ارتفاع أسعار النفط عقب حرب 1967، فقد بدأ في عام 1970 تنفيذ خطة التنمية الأولى، التي أقرها الملك فيصل رحمه الله في أواخر الستينيات، إذ بلغت في ذلك العام عوائد النفط السنوية في السعودية مليار دولار للمرة الأولى، أما خطة التنمية الثانية التي انطلقت في مارس 1975 فعكست الواقع الجديد لأسعار النفط وإيراداته التي ارتفعت بشكل حاد، لتفوق ثلاثة أضعاف ما كانت عليه سابقاً، فاشتملت الخطة على مشروعات ضخمة ستغير وجه البلاد في غضون بضع سنوات، لا سيما العاصمة الرياض".

لكن يذكر بأسف أن الملك فيصل لم يمهله القدر "ليشهد ثمار خطته التنموية، فبعد بضعة أسابيع من إعلانها تعرض للاغتيال في قصره في الرياض، ففجع الشعب جميعاً بفقده، ولا يزال جيلي يتذكر تلك الحادثة وكأنها حدثت اليوم".

الرحيل المحير

ولا يزال مقتل الفيصل مثل مفردات حياته المختلفة استثنائياً، فمع الاقتصاص من القاتل الذي كان ابن أخيه مساعداً، فإن دوافع العدوان لم تنكشف حتى اليوم، على الرغم من تلميح معايشي تلك الفترة في سيرهم الذاتية إلى الأسباب المختلفة، مثل مواجهة الغرب باستخدام سلاح النفط في حرب 1973 التي انتصر فيها العرب ضد إسرائيل، أو ثأر اليساريين والشيوعيين من أشد قوى المنطقة التي وقفت في وجوههم أيام الحرب الباردة. وهناك تأويل ثالث يفسر الحادثة بانتقام قُوى التشدد التي كانت بدأت في الخروج نحو السطح ورفض بعض أساليب المدنيّة الآخذة في التمدد حينها، مثل التلفزيون، إلى غير ذلك من التكهنات، غير أنه مهما يكن هدف الاغتيال فإنه لم يتحقق في تقدير شهود المرحلة.

بينما يرجح ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في حواره مع جيفري غولدبيرغ من مجلة "ذي أتلانتيك" الأميركية أن الإخوان المسلمين هم الذين كانوا خلف الفعلة الشنيعة، إلا أنه لا يرى تعامل الراحل معهم خطأ في ظروف ذلك الزمان، باعتبار ذلك ضرورة المرحلة.

ويقول في حواره مع المجلة في يونيو (حزيران) 2016 "إذا عدنا في الوقت المناسب، سنفعل الشيء نفسه، سوف نستعين بهؤلاء الناس مرة أخرى، لأننا كنا نواجه خطراً أكبر، وهو التخلص من الشيوعية. وفي وقت لاحق، كان علينا أن نرى كيف يمكننا التعامل مع الإخوان المسلمين. ولا تنسى أن أحد رؤساء الولايات المتحدة وصف هؤلاء الأشخاص بالمقاتلين من أجل الحرية. لقد حاولنا التحكم وإدارة تحركاتهم، لكن بعد ذلك جاء العام 1979، الذي فجر كل شيء، فقد خلقت الثورة الإيرانية نظاماً قائماً على أيديولوجية الشر الخالص. نظام لا يعمل من أجل الشعب، ولكنه يخدم أيديولوجية. وفي العالم السني، كان المتطرفون يحاولون استنساخ الشيء نفسه".

هل فعلها "الإخوان المسلمون"؟

وأضاف مجيباً عن سؤال آخر "لقد استخدمنا الإخوان المسلمين في الحرب الباردة، وكلانا فعل الشيء ذاته. هذا ما أرادت أميركا منا القيام به، وكان لدينا ملك دفع حياته ثمناً في مواجهة هؤلاء الناس، الملك فيصل، أحد أعظم ملوك السعودية، وعندما يتعلق الأمر بتمويل الجماعات المتطرفة، أتحدى أي شخص ما إذا كان بإمكانه تقديم أي دليل على أن الحكومة السعودية مولت الجماعات الإرهابية. صحيح أن هناك أفرادا من السعودية مولوا جماعات إرهابية، إلا أن هذا ضد القانون السعودي".

وكان الملك فيصل منح الإخوان المسلمين المطاردين في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الأمان، ووفر لهم حياة كريمة في السعودية، لكن ابنه رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل، قال أخيراً إن بلاده فوجئت بنكرانهم الجميل، ووقوفهم ضد السعودية في أهم المراحل الصعبة التي مرت بها، إثر تهديد صدّام حدودها الشرقية الغنية بالنفط، بعد اجتياح الكويت. وللصدفة فإن الملك فيصل قُتل في لحظة كان يستقبل فيها وزير النفط الكويتي في ذلك الوقت عبد المطلب الكاظمي، الذي جاء لمناقشة حقول المنطقة المتنازع عليها بين السعودية والكويت، لكن حظه السيء كما يقول أشهده على مأساة الطلقة الأثيمة التي فاضت على إثرها روح الملك الفقيد قبل أن يصل إلى المستشفى أو بعد ذلك بدقائق.

وإذ تنتقد أطراف غربية بعض مواقف السعودية وملكها فيصل خصوصاً منها المنحازة لفلسطين، يعود وزير النفط النعيمي للقول إنه لا يُنسى للراحل أنه "أعاد تأسيس علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى، وسد الفجوة الدبلوماسية التي نجمت بين بلاده وكثير من الدول الغربية بعد حظر النفط الذي أمر هو نفسه به وقتها". أما ابن الراحل الآخر الأمير خالد الفيصل فاكتفى عند سؤال الزميل عبدالله المديفر له عما وراء استشهاد والده بتلك الطريقة المؤلمة، بالقول "لأنه سأل ربه الشهادة في سبيل الله".

المزيد من تحقيقات ومطولات