Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الطريق" لكورماك ماكارثي: عالم ما بعد الكارثة الكونية

أب وابنه وحيدان هربا من البرد والدمار وآكلي لحوم البشر

مشهد من الفيلم المقتبس عن رواية كورماك ماكارثي

في الحوار التلفزيوني الذي أجرته معه الإعلامية الأميركية أوبرا وينفري عام 2007 بعد اختيار برنامجها الشهير لكتابه "الطريق" كتاب الشهر، قال الكاتب كورماك ماكارثي أن فكرة الكتاب راودته بعيد العملية الإرهابية التي دمرت برجَيْ التجارة في نيويورك ودفعته إلى التساؤل عن مصير الإنسان حين تحلّ كارثة كونية على نطاق أوسع. وحدّد أن الفكرة تبلورت لديه فيما كان يسير مع ابنه في شوارع خالية في تكساس. وتلك الفكرة كانت ما تجسّد لديه رواية اختارتها صحيفة "الغارديان" البريطانية بعد حين، حاملة للرقم 17 بين أهم مئة رواية صدرت في العقد الأول من القرن العشرين. وكان قد سبق ذلك، نيل "الطريق" جائزة "بوليتزر" بين جوائز أخرى عدّة، وحُوّلت فيلماً نال نجاحاً ساحقاً، في وقت تفنّن كبار النقاد في الثناء عليه. ومع هذا، نعرف أن أدب الكوارث الذي يتأرجح عادة بين الخيال العلمي والفجائعية، وصولاً إلى الابتذال أحياناً، ليس جديداً على عالم الكتابة، ولا يمرّ عام منذ عشرات السنين إلاّ وتصدر أعمال كثيرة من هذا النوع. بل إن ثمة من يعود بالنوع إلى رؤيا يوحنا المعمدان، أحد رفاق السيد المسيح. فما الجديد في الأمر ولماذا كان ذلك التوقف بصورة استثنائية عند رواية ماكارثي هذه؟

يمكن القول بالتأكيد إنّ "سبتمبر النيويوركي" كان قد مرّ من هنا، لتأتي المشاهد التلفزيونية المرعبة التي اجتاحت يومها شاشات وأفئدة العالم كله لتقدم، ضمن إطار تلفزيون الواقع، صورة للرعب لا مثيل لها. صورة تبدو معها لوحات هيرونيموس بوش أشبه بلعبة أطفال. "هكذا إذاً ستكون صورة الجحيم؟" كان لسان حال كثر يومها. واليوم ها هو التعبير يعود من جديد ولكن في صور تلفزيونية تبدو في ظاهرها أكثر هدوءاً وصمتاً، لكنها في باطنها أشد فتكاً ولؤماً: صور الشوارع المصحّرة الخاوية الخالية الآتية عبر الشاشات الصغيرة من شتى أنحاء العالم. وغالباً من مدن اعتادت أن تكون الأجمل والأكثر حيوية في العالم. تُرى أتبدو بعيدة هنا صورة البندقية، أجمل مدن العالم وقد اجتاحها الوباء والموت، من فيلم لوكينو فيسكونتي "الموت في البندقية"، المأخوذ عن رواية توماس مان بالعنوان ذاته؟

عالم البرد والخراب

من هنا، وُلد ذلك العالم المرعب الذي صوّره كورماك ماكارثي في "الطريق"، عالم مرعب حتى إن كانت الرواية قد بدت رواية مقاومة، وعلى الأقل من خلال شخصيتها المحورية شخصية الأب الذي لا نعرف له اسم، فلا يُشار إليه إلاّ بـ"الرجل" والمصطحب ابنه الذي لا اسم له بدوره، والذي بفضل ما يفعله الأب، سيبقى حتى النهاية ليعيش نوعاً من سعادة النهاية في الصفحات الأخيرة وقد تمكّن الأب من إيصاله إلى البحر في مناطق الجنوب كوسيلة وحيدة لإنقاذه، ليس فقط من براثن الكارثة التي وقعت – والتي لن نعرف أبداً أية تفاصيل عنها وإن كنّا سنعيش ما أسفرت عنه -، بل كذلك عالم ما بعد الكارثة حيث يتحقق من جديد ما قاله الفيلسوف توماس هوبس في كتابه "ليفياتان" من أن "الإنسان ليس سوى حيوان بالنسبة إلى أخيه الإنسان". فالحقيقة أن الهمّ الأساس للأب لا يكمن الآن، وقد حلّت الكارثة، إلاّ في إنقاذ ابنه من مَن تبقّى من البشر وقد تحوّلوا إلى قطّاع طرق، يمارسون لعبة تقوم على قتل الآخرين كي يتمكنوا من البقاء، هذا إلى جانب تحوّلهم إلى آكلي لحوم بشر وقد خلت جعبتهم من أية حلول أخرى. وحول هذه النقطة بالذات قال ماكارثي لأوبرا في البرنامج ذاته حين سألته لماذا يتحوّل الناس عنده إلى مفترسين للناس الآخرين، مجيباً أنه في دردشة مع أخيه حين كان يصيغ الشكل النهائي لروايته "تساءلنا نحن الاثنان ما الذي قد يفعله الناس حين يخلو العالم من المؤن ولا تعود الطبيعة، بسبب الكارثة ذاتها، قادرة على العطاء". وكان الجواب الطبيعي أنهم سيأكلون بعضهم بعضاً من دون أدنى ريب. ولا شك أنّ ماكارثي كان يفكّر وهو يقول هذا ويكتبه بالحادثة الحقيقية التي حدثت يوماً في جبال الأنديز حين سقطت طائرة ركاب، نجا ركابها لكنهم وجدوا أنفسهم وسط جبال ثلجية جائعين محتضرين، فلم يجدوا أمامهم مهرباً من أن يأكلوا من يموت أولاً من بينهم!

إذاً كان همّ الأب أن ينقذ ابنه من ذلك المصير هو الذي بقي معه وحيداً، يبحث عن سبيل للوصول إلى مناطق دافئة، بعدما فتكت الكارثة المجهولة، التي ستتبدّى ذات علاقة بالطقس البارد وبالسعال والإصابة بالالتهاب الرئوي القاتل – تُرى هل تذكّر هذه العوارض قراءنا بشيء؟ - بمعظم البشر الذين يتساقطون في الطرقات من دون أن يجدوا من يلمّهم. ومنذ البداية، يُعلمنا الكاتب بأن الأب مصاب بالمرض وأنه سيموت في أية لحظة. والحقيقة أنه كان من شأنه أن يستسلم لولا وجود ابنه معه... لقد انحصرت مقاومته إذاً في إنقاذ الابن وليس من الآخرين فقط، وليس من جور الطبيعة فقط، بل منه هو أيضاً، إذ بات منذ اشتد عليه السعال وارتفعت حرارته، يخشى أكثر ما يخشى أن يعدي الابن قبل وصوله إلى ما قرّر أنه برّ الأمان، في منأى عن البرد.

البقاء للناس الطيّبين

ما لدينا هنا رحلة على الطريق من الشمال إلى الجنوب في الولايات المتحدة. لكنّ المناطق التي تطالعنا خلال الرحلة لا علاقة لها بالصورة المعروفة لأميركا. فالخراب في كل مكان، والجوع في كل مكان، والموت في كل مكان... ناهيك بالشرور التي نتجت من ذلك كله. عن كابوس لا يبدو أن له نهاية ولكارثة لا يبدو أن ثمة مخرجاً منها. وهكذا طوال الطريق، سيُضطر الأب والابن إلى الإفلات حيناً من مطاردة قطّاع الطرق – الذين سيتمكنون مرة بعد مرة من سلبهما ما قد يعثران عليه من بقايا طعام، وحيناً من أفراد يائسين فقدوا كل حسّ إنساني... لقد فقد العالم كل حسّ إنسانيّ بالتأكيد. لكن الأب لم يفقد إيمانه بأنه في النهاية سيتمكن من الوصول بابنه إلى النجاة. وبعدها، لن يهمّه كثيراً أن يموت هو بدوره ملتحقاً بعشرات الملايين الذين سبقوه. وهذا ما يحدث بالفعل في اللحظات الأخيرة حين يصلان بعد كل تلك المصاعب إلى سفينة راسية في مرفأ جنوبي. وحين يشاهد الأب السفينة على بعد ما من الشاطئ، يترك للابن حراسة بعض ما تبقّى لهما ويسبح باتجاه السفينة التي سرعان ما سيتبين له أنها جانحة. وإذ يغفو الابن منهكاً، يمرّ رجل يسرق منه كل ما لديه، فيراه الأب ويطارده مستعيداً منه ما سرق ولكن معرّياً إياه من ثيابه أيضاً. لكن الابن يبدي استياءه من تصرّف أبيه، فلا يكون من هذا إلاّ أن يعيد الملابس للسارق، تاركاً له أيضاً بعض الطعام. فهو تذكّر ما كان قاله لابنه أول الرواية من أنهما سينتصران لأنهما أناس طيبون.

بعد حين يعبران المدينة ولكن سهماً يصيب رجل الأب، ما يفاقم من سوء حالته ولكن يبقى لديه من القوة ما يمكّنه من إطلاق النار على راميه بالسهم، فيما يترك زوجة هذا الأخير منتحبة فوق جثة زوجها، لكنه هو بدوره يسقط وقد هدّه المرض وإصابة رجله، ولكن أكثر من هذا: هدّه استسلامه أخيراً أمام الموت لشعوره أن الابن قد نجا، فيما ينضمّ هذا إلى عائلة ناجية هي الأخرى مع كلبها الأليف، يقنعه ربها أنهم أناس طيبون ويريدون أن يأخذوه تحت حمايتهم...

 بالتأكيد ستبدو هذه النهاية سعيدة مقابل المناخ العام للرواية الغارق في سوداوية مدهشة. ومن هنا، ذلك التعاطف مع رواية صوّرت أبشع كارثة قد يمر بها البشر، لكنها أوصلت الأمر إلى خاتمة منطقية. فلو لم تكن النهاية "سعيدة"، لما كان هناك من يكتب الحكاية أصلاً!

المزيد من ثقافة