Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"في البدء كانت أرمينيا"... فيلم عربي يحكي 100 عام من الألم

مصور مصري يوثق قصة شعب قوي تعرض للإبادة... وصناع العمل يستهدفون تسويقه عبر "نتفليكس"

مشهد من الفيلم يظهر فيه جبل "أرارات" (اندبندنت عربية)

لأرمينيا تاريخ غني يبدأ ذكره مع قصة الطوفان، حيث رسا فلك نوح فوق جبل أرارات، بحسب الاعتقاد المسيحي، فكل الأراضي المحيطة بهذا الجبل هي أرض أرمينيا الكبرى، وهناك بدأ المصور الشاب عصام ناجي، رحلة البحث عن تاريخ قديم يقطن الذاكرة والوجدان لينطلق منه بملحمة شعب صدق في تاريخه وثقافته وهويته وتمسك بالحياة رغم ذبح الملايين على يد العثمانيين وهدم الكنائس على يد الشيوعيين، فتضاءلت أراضيه، لكن في النهاية نجت بلاده ونهضت صارخة "في البدء كانت أرمينيا"، وهو عنوان فيلم وثائقي من إنتاج شركة "لايت هاوس أراب وورلد"، يأخذنا في رحلة قديمة قِدم التاريخ، تبدأ من العم ليون صاحب محل لبيع أدوات التصوير في حي العباسية وسط القاهرة، ذلك الأرمني الذي فرت عائلته إلى مصر، على غرار العائلة المقدسة، لتتخذها ملجأ من اضطهاد وجرائم الدولة العثمانية، وقد تأثر ناجي بجاره الأرمني الذي لم تنته حكاياته عن بلده طوال سنوات حياته في القاهرة، ويقول ناجي إن ليون أخبره أن أرمينيا هي أجمل مكان رأته عيناه.

بداية المذابح

ينتقل الشاب المصري في فيلمه المكوّن من ثلاثة أجزاء، بين تاريخ أرمينيا وتراثها، فيبدأ من صناع "الخاتشكار"، وهو الصليب الحجري الذي يتم نحته ويمثل جزءاً أصيلاً من التراث الفني للأرمن، ويقول "الهوية والتاريخ ونزعة البقاء، كلها حاضرة بقوة في هذا التكوين الحجري".

وينتقل بين عوالم الفن والموسيقى ومناحي الحياة الأرمنية، ففي كل جزء يتوقف عند مرحلة مؤلمة من تاريخ هذا الشعب، فيبدأ من غدر العثمانيين بحلفائهم من الجنود الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى، لكن غدر الإمبراطورية بهم بدأ مبكراً وتحديداً في عام 1895 عندما دعت الأقليات العرقية في تركيا إلى الحرية والتغيير، فجاء الرد بالبطش وقضى العديد من الأرمن ذبحاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الحرب العالمية الأولى، وبينما تحالف جيش العثمانيين مع الألمان، قام الأول بتطهير صفوفه من الجنود الأرمن بإعدامهم خشية تحالفهم مع روسيا التي كان يقاتل في صفوفها أيضاً بعض الأرمن، وكان أنور وطلعت باشا وزيرا الحربية والداخلية في ذلك الوقت، هما من خططا لهذه السياسة ليتم إعدام 600 من القيادات والشخصيات الأرمنية البارزة في 24 أبريل (نيسان) عام 1915 لتبدأ حلقة من المذابح الشنيعة للأرمن.

في رصده لهذه الحلقة من التاريخ المر، التقى ناجي العديد من القادة الأرمن وزار أماكن شاهدة على العصر ومن بينها متحف الإبادة الأرمنية، فقابل هايك ديمويان، مدير المتحف، حيث حصل على برقية أصيلة أرسل بها طلعت باشا إلى كل خلايا جيش "تركيا الفتاة"، ذلك التنظيم القومي العنيف، يأمر فيها بالتخلص من كل المواطنين الأرمن على الأراض التركية مهما كلف الأمر، وتحمل البرقية توقيع وزير الداخلية ويتفق الجميع على صحتها، لكن الأتراك ينفون صحتها إلى هذا اليوم.

وبموجب هذه البرقية، انطلقت المذابح الممنهجة لمواطنين آمنين شملت أرمنيين ويونانيين وسريان، وثق بعضاً من هذه الجرائم المصور أرمن ليجنر، الضابط في الجيش الألماني في ذلك الوقت.

نشيد المصالحة

يتجلى التاريخ المؤلم لأرمينيا في تعداد أبنائها في الشتات، والذي يزيد على عدد سكانها، ففي حين يتوزع 8 ملايين أرمني حول العالم، يقطن البلاد 3 ملايين يحيون تاريخهم ويحافظون على ثقافتهم ولغتهم.

ويرصد ناجي في فيمله العديد من اللقطات التاريخية الموثقة للمذابح التي قضي فيها أكثر من 1.5 مليون أرمني وفرار آخرين إلى الشتات ممن تحدثت عنهم هرانوش هاكوبيان، وزيرة الهجرة والشتات الأرمنية، والتي أكدت أن الكثير من المواطنين الأتراك حاولوا حماية مواطنيهم من الأرمن لأن "سياسة الإبادة كانت تخص السلطة وليس الشعب".

واحدة من المحطات الهامة في الفيلم تتعلق بـ"المصالحة"، فيلتقي صناع العمل مع العديد من المواطنين الأرمن ممن تحدثوا عن أصدقاء أتراك طلبوا منهم الغفران، بل ينقل بالصورة قيام واعظة مسيحية تركية بغسل رجل صديقتها الأرمنية في مسعاها نحو الغفران، ويقول جون شاباغليان، الذي قتل جده الأكبر رمياً بالرصاص على يد العثمانيين، إنه التقى عازفاً تركياً يُدعى "أورهان" في مؤتمر عن الفنون في ناشفيل بالولايات المتحدة قبل ستة أعوام، وبعدما تعارفا للمرة الأولى ألفا نشيداً عن المصالحة.

السوفيات فصل آخر من الآلم

لم يكد يمر عامان على هزيمة العثمانيين والتخلص من كابوسهم عام 1918 في معركة "سارداراباد" حيث استعاد الأرمن جزءاً من أراضيهم المسلوبة، حتى بدأ فصل جديد من الألم والاضطهاد، فينتقل صناع الفيلم إلى الحقبة السوفياتية وحكم الشيوعية، حيث أصبحت أرمينيا جزءاً من الاتحاد السوفيتي في مطلع عشرينيات القرن الماضي تحت اسم "أرمينسكايا".

وهنا يقول ناجي "عندما اجتاحت الشيوعية بلداناً عدة في منتصف القرن الماضي، اختفت العديد من ملامح تلك البلاد، فكانت الأشياء تتشابه، وكذا الأماكن والمباني والشوارع، وحتى وجوه البشر بدت كأنها نسخ مقلدة من بعضها البعض".

ولأكثر من 70 عاماً انتهت بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، عاش الأرمن المسيحيون والأقليات الدينية تحت وطأة الاضطهاد الشيوعي، والذي تجلى في هدم كنائس ومقتل 4 آلاف شخص بسبب عقيدتهم، حتى أن المسيحيين الروس أنفسهم ممن زاروا أرمينيا كان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين يقوم بنفيهم إلى سيبيريا، ففي سنوات الشيوعية كان اضطهاد كل ما هو ديني هو القاعدة، وخلال تلك السنوات تم تدمير مسجدين و10 كنائس، والتي كان يعود بعضها إلى القرن الرابع أو الخامس الميلادي.

وجرى نفي مئات الكهنة والعديد منهم قُتل في سيبيريا، وتم اغتيال الكاثوليكوس (الكاهن الأكبر للكنيسة الأرمنية) في عام 1938 وبعدها أُغلقت الكنيسة.

وتقول وزيرة الهجرة إنه في عام 1943 تعرض جدها للاضطهاد بسبب قيامه ببناء الكنائس، وتم وقف أي محاولة بناء، كما يذكر الأب رافايل ميناسيان، مطران الأرمن الكاثوليك، أن أبيه رأى ذبح والده أمام عينه، ويؤكد "للغفران غفرنا ولكن للتاريخ لا ننسى".

ويكشف الفيلم الكثير عن تلك الحقبة التي لم يتحدث عنها الكثيرون، وينقل صوراً للعديد من الأماكن التاريخية الشاهدة على قوة عقيدة البقاء لدى شعب سطر تاريخه على مدار قرن من الألم بين جرائم العثمانيين ووطأة اضطهاد الشيوعيين.

واحدة من هذه الأماكن والتي تعتبر مقصداً سياحياً، هي قرية "ليرناميدز" في الريف الأرمني، التي يُطلق عليها كوبا الحمراء أو كوبا الصغيرة، ولا يزال يعيش سكانها الـ500 نسمة تحت تأثير الفكر الاشتراكي.

تجربة الاضطهاد... وتقبُل الآخر

ولم يتوقف صناع الفيلم عند رصد عقود المعاناة والألم، لكنهم نقلوا صورة حية للجوانب الفنية الثرية والتراث الأرمني، وللشعب الذي يعيش في سلام ووئام مع الأقليات الدينية من المسلمين واليهود واليزيديين، فقد علمتهم تجربة الاضطهاد والألم كيفية تقبل الآخر وفضل حياة السلام.

وتنقل الفيلم بين عشرات الأماكن والأشخاص، فمن جبل أرارات ومتحف سارداراباد بالقرب من الحدود التركية الأرمنية مروراً بالأديرة القديمة والمساجد والمعابد اليهودية وصولاً إلى المواقع الثقافية وغيرها، ينقل هذا الشريط التوثيقي بانوراما تتجاوز تلك الشاشة الصغيرة التي نشاهده من خلالها.

وفي تعليقات لـ"اندبنت عربية" أوضح ناجي، صاحب فكرة الفيلم والراوي أيضاً، أن صنّاع هذا العمل يستهدفون تسويقه عبر "نتفليكس" وقنوات ترغب في عرض محتوى عربي أصيل ليس منقولاً عن آخرين، لأن صنّاع الفيلم جميعهم عرب من تونس ومصر ولبنان، ممن قاموا بجهد كبير وبحث جاد، بالإضافة إلى جودة الصورة والقصص التي يتضمنها.

وفيما قد يفسر البعض الفيلم من منظور سياسي، أكد أن ذلك بالتأكيد لم يكن هدفه، وأشار إلى أنه ذهب إلى العراق في عام 2014 وقت تهجير الأسر وفرارها من تنظيم "داعش"، بهدف نقل مأساة إنسانية وليس بدافع سياسي، كما زار سوريا قبل أشهر قليلة لدعم الشباب الذين فقدوا الكثير بسبب سنوات الحرب. ويضيف "إذا تم تفسير الفيلم من زاوية سياسية فإن مضمونه قادر على دحر ذلك، لأنه يتضمن رسائل إنسانية بحتة".

ولفت إلى أن الفيلم يأتي ضمن حلقات سلسلة وثائقية جرى تصويرها في رواندا وجنوب أفريقيا والبرازيل، تنقل تجارب شعوب عانت من اضطهاد ومذابح، وتكشف حقائق عديدة لم يتعرف عليها الكثيرون حول العالم بعد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة